خطبة الجمعة .. أنتم شهداء الله في أرضه

أنتم شهداء الله في أرضه

عدنان بن عبد الله القطان

13 ذو القعدة 1444 هـ – 2 يونيو 2023 م

———————————————————————-

الحمد لله؛ تَتِمُّ الصالحات بنعمته، وتُكَفَّر السيئات وتُقال العثرات بِمِنَّته، وتُضاعَف الحسنات وتُرفَع الدرجات برحمته، سبحانه! يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات نحمده تعالى ونشكره على جزيل العطايا والهبات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بارئ النسمات، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده المصطفى ورسوله المجتبى أفضل البريَّات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمَكْرُمات، ومن اقتفى أثرهم ما تجددت الأيام ودامت الأرض والسماوات وسلم تسليماً

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: في مجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والصحابة رضوان الله عليهم، ملتفُّون حول نبيهم وحبيبهم محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، تَمُرُّ جنازة، فيَرْمقها الناس بأبصارهم، وإذا الألسُن تُثني على صاحبها خيراً، فقال:النبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (وجبَتْ، وجبتْ، وجبت)، ثم مُرَّ بِجنازة أخرى، فإذا ألسن الناس تثني عليها شرًّاً، فقال رسول الْهُدى: (وجبتْ، وجبت، وجبت)، وأمامَ هذا الاستغراب والاستفهام من الناس، يأتي التَّعليق النبويُّ بقوله: (مَن أثنيتم عليه خيراً، وجبتْ له الجنَّة، ومن أثنيتم عليه شرًّاً، وجبت له النار، أنتم شُهَداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض).. إنَّها حقيقة يا عباد الله قرَّرها الواحد الأحد، ومُسلَّمةٌ لا يُماري فيها أحد، يقول تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ويقول (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) فالكلُّ راحِلٌ عن هذه الدار، ولكن الشأن كل الشأن، كيف سيكون هذا الرحيل؟ وماذا سيُقال عن هذا الراحل؟

 أيها المؤمنون: إن ثناء الناس على العبد بِخَير من علامات التوفيق والمبشِّرات العاجلة، وفي مُحكم التنْزيل سأل إبراهيمُ الخليل عليه السلام ربه أن يَبقى ذِكْرُه متردِّداً عبْر كلِّ جيل، فنادى ربَّه: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)، فأجاب الله سؤْله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) قال جمهور المفسرين: (وتركنا ثناءً حسناً عليه)، ثم عمَّم فضل الله على خليله، فكان له الذِّكر الطيِّب، ولذرِّيته معه؛ إسحاق ويعقوب، يقول سبحانه: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياً)، يقول أهل التفسير: يعني ثناءً حسناً عالياً رفيعاً في كل أهل الأديان، فكلهم يتولونهم، ويثنون عليهم وحُسْن الثناء يا عباد الله هو من جملة الآثار الحسَنة التي تبْقى للمرء بعد مماته:

فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا

                                     فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِ

أيها الأخوة والأخوات في الله: وحين نقلِّب تاريخنا الغابر، نجد الذَّاكرة متخمةً بأسماءٍ لامعة إذا ذُكروا ذُكر معهم الثناء العاطر، والذِّكر الحسن، والدُّعاء بالرحمة والمغفرة، إذا ذُكر الخلفاء الراشدون الأربعة، قالوا أبابكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم أجمعين، وإذا قالوا:(سيدة نساء أهل الجنة) أنصرف الفكر إلى فاطمة بنت محمد رضي الله عنها، وإذا قالوا: سيدا شباب أهل الجنة، قالوا الحسن والحسين بن علي رضي الله عنهما، وإذا قالوا: (أمين هذه الأمة) أنصرف الذهن إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وإذا قالوا سيف الله المسلول أنصرف الذهن إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه، وإذا قالوا: إمام دار الهجرة قالوا مالك بن أنس رحمه الله، وإذا قالوا: إمام أهل السنة والجماعة: ذكروا أحمد بن حنبل رحمه الله. وإذا قالوا: الإمام الباقر، ذكروا محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً، وإذا قالوا: (قاهر التتار) ذكر سيف الدين قطز رحمه الله. وإذا قالوا: صاحب بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكروا، محمد الفاتح (فاتح القسطنطينية) رحمه الله. وغيرهم من الإعلام الأجلاء النجباء.. أعلام وعُظماء، غُيِّبوا في الثَّرى، لكن ما غاب ذِكرهم، وما مُحِي أثرهم، بل إنَّ ذكْرَهم بعد مَماتهم أكثر من ذِكر كثيرٍ من الأحياء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. إن الذِّكر الحسن في الدنيا ليس بكثرة المُكْث فيها، وإنَّما بقدْر الأثر عليها، لقد عاش في هذه الدار رجالاتٌ ماتوا وهم في زَهرة شبابِهم، لكنْ بقي ذِكْرُهم أزماناً ودهوراً إلى يومنا هذا، وقلِّب نظرك في مسارب التاريخ ترَ أسماءً لامعة، وأنجُماً سامقة، أفلَتْ وهم في عنفوان أعمارهم وشبابِهم: الصحابي الجليل سعد بن معاذ سيِّد الأوس رضي الله عنه توُفِّي وعمره ثلاث وثلاثون سنةً، ولكنه رحل بعد أن قدَّم أعمالاً كثيرة جليلة للإسلام تُذْكر فتشكر… الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الإمام العادل الزَّاهد، الملقب بخامس الخلفاء الراشدين، ومن مِنَّا يَجهل عمر؟! توفِّي ولَما يبلغِ الأربعين سنة.. عملاق النَّحو وإمامه سيبويه رحمه الله، توفِّي وعمره ثلاثٌ وثلاثون سنة... ومات يحي بن شرف النوويُّ رحمه الله وهو ابن أربع وأربعين سنة، ولكنْ كتَب الله لمؤلَّفاته من القبول والخلود ما جعل ذِكْره يسطَّر في كل زمان ومكان.. فالناس شهداء الله في أرضه، وقد جعل الله لكلِّ شيء سبباً، فمن اتبع مرضاةَ ربِّه وعمل عملاً صالِحاً فهنيئاً له الذِّكر الجميل سيشهد العباد بالخير لِمن كان في دنياه من أهل الخير والصلاح..  الشهادة بالخير هي لِمن كان في دنياه من عُمَّار المساجد، المذكورين بالصَّلاح والإصلاح…

الشهادة بالخير عباد الله هي لمن رحل عن هذه الدار بعد أن أسَّس بيتاً من التَّقوى وخلّف وراءه أثراً له؛ من صدقة جارية أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

الشهادة بالخير مستحَقَّة لرجالٍ سَنُّوا في الإسلام سُنَّة حسنة، فكان لَهم أجرها، وأجْرُ من عمل بِها إلى يوم القيامة.

 الشَّهادة بالخير تُزَفُّ لِمن نشأ في طاعة الله، وتربَّى في بيوت الله، مع كتاب الله؛ حفظًاً وتلاوة وتدبُّراً… الشهادة بالخير يستحِقُّها مَن خالَق الناس بخُلق حسن، فعاش سعيداً، ومات حميداً.. الشهادة بخير يُبشر بها من كان عفيفَ اللِّسان، سمْحَ النفس، دمث المعاملة، باذلاً للخير، سبَّاقًاً إلى المعروف.

الشهادة بالخير يسعد بها من وصل الأرحام، وأطاب الكلام، وأطعم الطَّعام، وصلَّى بالليل والناس نيام… المشهود لهم بخير باختصارٍ:

هم مَن عملوا في دنياهم بأوامر الله، على نورٍ من الله، يرجون ثواب الله، وهم من اتَّقوا محارم الله، على نورٍ من الله، يخشون عقاب الله، فإن كنت يا عبد الله من هذا الصِّنف، فاستمسك بما أنت عليه، وأبشرْ بثناءٍ يَبقى لك، والناس شهداء الله في أرضه.

أيها المسلمون: ومن علامات الشَّقاء والنكد والبلاء، أن تُلاحق العبدَ شتائمُ شهداءِ الله في أرضه في حياته وبعد مَماته، فالشرُّ والتَّشاؤم لا يفترقان عن اسمه ورسمه.. من يُثنَى عليهم شرًّاً -نعوذ بالله منهم- هم الذين غلبَتْ عليهم شقوتُهم، وأحاطت بهم خطيئتهم، وهم أصنافٌ شتَّى، تفرَّقت فعالهم، وتلوَّنت قبائحهم، ولكن جمعَتْهم خصلة واحدة؛ أنَّهم سبب كل بلاء، وشرارة كل مصيبة.. الثناء بالشر ينتظر كلَّ مستبِدٍّ وطاغية، ظلَم العباد، وخرب البلاد، وللخزائن أباد.. الشهادة بالشر ستلاحق المُجرمين، الذين يعيثون في الأرض فساداً؛ قتلاً للآمِنين، وترويعاً للمؤمنين

الشهادة بالشر والسُّوء، متَّصلة لكلِّ صاحب سوء، يأمر بالمنكر ويَنهى عن المعروف، يشمئِزُّ إذا ذُكِر الله وحده، ويستبشر إذا ذُكِر الذين مِن دونه. الشهادة بالشر، ستطوِّق الذين ظَلموا أنفسهم، فانتهكوا حدود الله، وتلصَّصوا على مَحارم الله… الشهادة بالشر، ستُكتب على دهاقنة الإفساد، الذين أَمطروا الأمَّة بوابلٍ من المناظر الشَّهوانية، والعفونات الفكريَّة...  وهي لأولئك المستهترين المستَخفين، الذين جعلوا مشروعَهم النَّيلَ من ثوابت الأمَّة، والتعدِّيَ على أحكام الشرع والشريعة.

وهي لأولئك الذين كان هَمُّهم وهمَّتهم إفسادَ المرأة والفتاة المسْلِمة، والزجَّ بِها في مَجامع الفسق والعهر والمجون..

 وهي لأولئك الذين يريدون أن يَميلوا بالمؤمنين والمؤمنات ميلاً عظيماً.  إلى هؤلاء كلهم يُقال: اعتبروا بالتاريخ، واقرؤوا سِيَر مَن غبَر، فماذا كتب التاريخ عن دُعاة الضَّلالة؟! وماذا نطق عن صناديد الإفساد؟! فهل بقي أثرهم حميداً؟! وهل ظلَّت سيرتُهم مثلاً؟!  فإلى كلِّ مفسد ظالِم: قل ما شئت، واصنع ما شِئت، ولكن تذكَّر أنَّ عليك

كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) تذكر أن التَّاريخ لا يَرحم، وأنَّ سُوءك وسَوْءاتك ستَبقى مُدوَّنة، ولن تُسامِحَك الأجيال القادمة، وستَذْكرك، ولكن ستذكرك بِمخازيك ومساوئك، وسيُقال عنك: عامَلَه الله بما يستحق، أو يُقال: لا رحِمَه الله.

 فكم رحل من هذه الدار، مِن طاغية وجبَّار، وأشرار وفُجَّار، فشيَّعتْهم دعواتُ الناس عليهم، وراحةُ العباد منهم: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)

أيها المؤمنون: الكلُّ سيَمضي من هذه الدار، والكل ستذكره ألسنة الخلْق، إما خيراً أو شرًّاً، فلْيَختر كلُّ امرئٍ من أي الفريقين سيكون؟! وإلى أيِّ الطريقين يسير؟! هذه حقيقة فلا نُعمي البصرَ والبصيرة عنها. نعم، سترحل يا عبد الله فكن ممن يستريح، ولا تكن ممن يُستراح منه، كن مِمَّن فارق دنياه وقد أَبقى ذِكرَه بما تركه من آثار طيبة، وسيرة نقية، وأفعال مرضيَّة، ولا تكن الآخر؛ فلا يُتأسَّف على موتك، ولا يُتحسَّر على رحيلك وإن كان لك ما كان من الجاه والمال.

 تذكر يا من يسعى لِيُذكر في دنياه بجاهه، أو شهرته أو ثرائه، أنَّ الشأن هو في الذِّكر بعد الرحيل، وهل سيقال عنك: فلان فقيد؟! أم فلان موته عيد؟! (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) سل نفسك يا عبد الله: هل سأغادر هذه الدار وقد شيَّعتْني الدموع والدعوات؟! أم سأرحل فلا أسف عليَّ ولا حسرات؟!

 هذه أسئلة، والإجابة تَملكها أنت بعملك وسعيك، والموعد يوم الجنائز، والمقياس يوم تبلى السرائر: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً، كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين. اللهم واجعل لنا لسان صدق في الآخرين، ولا تُخزنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول ماتسمعون، وأستغفر الله العظيمَ الجليل، لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله وليِّ الصّالحين، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له إله الأوّلين والآخرين، ونشهد أنّ سيدنا ونبيّنا محمّداً عبده ورسوله سيّد الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه والتّابعين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: صح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّمَ مُرَّ عليه بجِنَازَةٍ، فَقالَ: (مُسْتَرِيحٌ ومُسْتَرَاحٌ منه) قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما المُسْتَرِيحُ والمُسْتَرَاحُ منه؟ قالَ: (العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ)

نعم عباد الله إذا نزلَ بالإنسانِ الموتُ، وحَانَتْ سَاعَةُ الرَّحِيْل، فإنه أحدُ رَاحِلَينِ، راحِلٌ راح فاستراح، أو راحِلٌ راحَ فأراح.

راحِلٌ راح فاستراح، وهو المؤمنٌ الذي كانَ يُكابِدُ نَصَبَ الحياةِ، ويقاسي صِعابها، قائمٌ بأمرِ الله، واقفٌ عند حدوده، صابرٌ على طاعةِ الله، صابرٌ عن معصيته، صابرٌ على ما يؤلِمُ مِن أقدارِ الله، كانت تتقاذفُهُ أمواجُ الفِتَنِ والمحن وهو مستمسكٌ بحبل الله، وتعصفُ به رياحُ الشهواتِ وهو عائذٌ بجلالِ الله، وتلوحُ أمامَهُ بوارِقُ الهوى وهو يُغضي عنها حُباً وخشيةً ورجاءً لله، نالَه مِن الناسِ ظُلْمٌ وجورٌ وأذى، فَصبرَ واحتَسب، وصفَحَ وعفا، راجياً مِن ربِه حُسنَ الجزاء. مؤمنٌ أمضى حياتَه مُسارعاً في الخيرات، مُسابقاً في الطاعات، منافساً في الصالحات.  نَزَلَ به الموتُ فراحَ مِنَ الدنيا واستراح. وأدركَ ما كان في الآخرةِ يُوعَد.. راح إلى مقامٍ كريمٍ، في نعيمٍ مُقيمٍ عند ربٍّ رحيم، يقول تعالى: (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) ويقول: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)

أو يكون الإنسان راحِلاً راحَ فأراح، وهو المستراح منه، وهو الذي لم يَكُن في قلبه لربه تعظيماً، مُعْرْضٌ مُسْتَكْبِر. فاجرٌ مُتجَبِّر. يَسْرِيْ فجورُه في الأرضِ كَسَرَيَانِ الأوبئةِ في المجتمعات، ويَنْتَشِرُ شَرُّه، ويتعدى ضررُه في الناسِ وفي البهائم وفي الجمادات.

مُستراحٌ منه. غليظُ القلبِ غشومٌ ظلوم، لا يرعى حقاً، ولا يحفظُ عهداً، ولا يَفِيْ بوعد.  مُستراحٌ منه.. مَن لا يُؤْمَنُ جانِبُه، ولا يُطْمَأنُّ لِقُربِه، سَلِيْطُ اللسان، سريع البُهتان، سيءُ الظن، قبيحُ المَعْشَر، إذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.  مُستراحٌ منه..  مَنْ لا يأمنُ جارُهُ بوائِقَه. مُستراحٌ منه..  مَنْ أَكَلَ أموالَ الناسِ ظلماً.. فَغَشَّ أو سرق، أو غَصَبَ أو ارْتَشَى، أو مَطَلَ أو جَحَدْ.

مُستراحٌ منه.. مَنْ ظَلَمَ زَوْجَاً، أو استقوى على ضعيف، أو سَلَبَ حقاً أو أكل مال يتيم

مُستراحٌ منه… مَنْ يَسْعى بالنميمةِ، ومَن يَشْهَدُ الزور، ومَن يُشِيْعُ المنكرَ، ومَن يَنْشُرُ الضلال ومَن يُفسِدُ في البلادِ ومَن يظلِم العباد.

مُستراحٌ منه.. مَنْ أذى المسلمينَ في شأنِ دينهم أو دنياهم، أو اجترأ على مصالِحِهم أو استخفَّ بحقوقهم..

 مُستراحٌ منه.. مَنْ يسعى في غَضَبِ الله، ويجترئ على محارم الله.

عباد الله: وكَم راحلٍ أشرقَ برحيلِه وجهُ مظلوم، واستبشر بهلاكِهِ قلبُ مقهورٍ، ويلٌ له ثم ويل ٌله.. راحَ وارتحل.. فلا ناحَت عليه مِن المكارِمِ نائحة. وتلك عاقبةُ الخاسرين، (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) ولا يستوي من راح مرتاحاً راضياً، ومَن أشرقت دنيا بيومِ رحِيلِه.

نسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى، أن يجعلنا وإيَّاكم مِمَّن هو مستريح يغادر هذه الدنيا ويقبل على راحة عظيمة، يغادر هذه الدنيا وكل من يذكره يشكُرُه، ويدعو له، ويبكي عليه، ويتندَّم لفِراقه، كما نسأله تعالى ألَّا يجعلنا وإيَّاكم مِمَّن يُدعى عليه ويسب ويلعن أو يفرح بمغادرته لهذه الدنيا، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. اللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ..

اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَنسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنسْأَلُكَ قَلْبَاً سَلِيمَاً، وَلِسَانَاً صَادِقَاً، وَنسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. اللهُمَّ إِنِّأ نسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ تَقْضِيهِ لِنا خَيْراً. اللَّهُمَّ اجعل أحب الأعمال لك خواتيم أعمالنا، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والأخرة...اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم احقن دمائهم، وألف بين قلوبهم، وولي عليهم خيارهم.

اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم اشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم والدينا وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا..

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

 

     خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين