الجمعة 3 صفر 1440هـ
الموافق 12 أكتوبر 2018م

الحمد لله عالم السر والنجوى، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؛ نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: إن جيل الآل والأصحاب رضوان الله عليهم، خير جيل ظهر على وجه الأرض، هم الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكي يعلمهم ويوجههم، فتلقوا تلكم التربية النبوية الكريمة، حتى خلت نفوسُهم من حظ نفوسِهم.

ومن بين الصحب الكرام الذين صنعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على عينه، صحابي جليل أحبه الله، وأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم،إنه سيدنا بلال بن رباح الحبشي. وهو اسم يحبه المؤمنون، وصوت تعشقه آذان الموحدين، ولد مولى وأُخذ إلى مكة وعاش فيها عبداً ذليلاً، وفجأةً صدح الرسول صلى الله عليه وسلم بالحق هناك من على الصفا، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وذهب عليه الصلاة والسلام إلى سادات مكة يدعوهم للإسلام، فكفروا به وكذبوه وآذوه وشتموه، فأنزل الله تعالى عليه: (وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) فبدأ صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الله عز وجل، وكان بلال يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه ولا أمل له في غده، فبدأت أنباء الرسول صلى الله عليه وسلم تنادي سمعه حين أخذ الناس في مكة يتناقلونها، فرأى بلال محمداً عليه الصلاة والسلام فأحبه، والسر الذي زرعه النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب هو الحب، لقد فجر نبينا صلى الله عليه وسلم أنهار الحب في قلوب أصحابه، فأحب بلال محمداً عليه الصلاة والسلام حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأكل وشخص النبي صلى الله عليه وسلم أمام عينيه، ويشرب والرسول صلى الله عليه وسلم ماثل أمامه.. فلما أحبه رضي الله عنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فانتشر خبر إسلامه في فجاج مكة، فما أن ذاع خبر إسلامه حتى صارت الأرض تدور برؤوس أسياده، تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أمية بن خلف، فاجتمع عليه أهل الكفر وأذاقوه أليم العذاب ليترك لا إله إلا الله، فأبى، ضربوه، قيدوه بالحبال، جروه من قدميه والحصى يأكل من لحمه وعظمه، ألقوه في الصحراء في حر الظهيرة، والشمس ملتهبة ليعود إلى الكفر، فأبى، وقالها كلمة خالدة أبدية، أحدٌ أحد، لطموه على وجهه، فارتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً أحدٌ أحد، ضربوه بالسياط حتى تمزق جلده وهو يقول: أحدٌ أحد . إنها إرادة ينثني لها الحديد، إنها المعجزة الكبرى التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف حول هؤلاء الأعراب والموالي من أناس فقراء مستضعفين إلى كتائب تزلزل الدنيا بلا إله إلا الله. لقد أعطى بلال درساً بليغاً للذين في زمانه وفي كل زمان، درساً فحواه أن حرية الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهباً ولا بملئها عذاباً.. لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة، التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة، فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عُريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال ويلقى به فوق جسده وصدره. ويتكرر هذا العـذاب الوحشي كل يوم حتى رقت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة لا غير، تحفظ لهم كبرياءهم ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم وإصراره، ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة التي يستطيع أن يلقيها بلال من وراء قلبه ويشتري بها حياته ونفسه دون أن يفقد إيمانه، حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة رفض بلال رضي الله عنه أن يقولها.

أيها المؤمنون: ويمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمام بلال وهو يعذب، فقال لسيده أمية بن خلف: أشتريه منك يا أمية، فقال أمية: خذه ولو بعشرة دنانير، قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته منك، فاشتراه الصديق رضي الله عنه وأعتقه لوجه الله فأنزل الله قوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى  ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ، وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىٰ إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ٱلأَعْلَىٰ  وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ)، أعتقه الصديق ثم ذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ممزق الثياب، يتساقط دمه ولحمه من شدة التعذيب، فأخذه عليه الصلاة والسلام واحتضنه كما تحتضن الأم طفلها، فصار بلال سابع سبعة في الإسلام.. ثم بدأت قوافل المسلمين تهاجر إلى المدينة فكان بلال رضي الله عنه ممن ترك مكة وهاجر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك في المدينة عيّنه النبي صلى الله عليه وسلم مؤذناً فأصبح بلال أولَ مؤذن في التاريخ، ويالها من وظيفة ما أشرفها، ومن منصب ما أكرمه. فانتشر ذكره في الآفاق منذ ذلك الوقت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

عباد الله: إن كثيرين من علية البشر وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلالٌ رضي الله عنه. وكان كلما سمع كلمات المدح والثناء تُوجّه إليه، حنى رأسه وغض طرفه وقال: إنما أنا حبشي كنت بالأمس عبداً. إنه بلال بن رباح مؤذن الرسول والإسلام، إحدى معجزات الإسلام العظيم.. فكان كلما حان وقت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر، الله أكبر، فتنتفض أجساد المؤمنين من صوته، وكان كلما أهمّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمرٌ، أو أصابه كربٌ نادى بلال (أرحنا بها يا بلال) فيؤذن بلال للصلاة. وكان رضي الله عنه يأتي للرسول صلى الله عليه وسلم بماء الوُضوء وكان يأخذ حذاءه ويرى أن ذلك شرف لا يعدله شرف، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويدنيه منه، وسرى هذا الحب في قلب بلال فعوضه عن كل شيء، عن أهله في الحبشة، وعن أقربائه وجيرانه بل وتاريخه كله هناك… وفي ذات يوم قال عليه الصلاة والسلام لبلال: (حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ). الله أكبر، أي جائزة أعظم من أن يعرف الإنسان أنه من أهل الجنة وهو لازال يعيش في هذه الدنيا، فيجيب بلال ويقول: (مَا عَمِلْتُ عَمَلًاً أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُوراً فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ)… أيها المسلمون: وتمضي الأيام ولم يزدد بلال إلا رفعةً ومحبةً عند النبي صلى الله عليه وسلم، يصلي العيد ثم يتكئ على بلال ويذهب فيخطب في النساء. وفي اليوم المشهود يوم فتح مكة، يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف من أصحابه، يدخل فاتحاً منتصراً فيرى الأصنام التي كانت تعبد من دون الله فيشير إليها بعصاه فتتناثر وتتساقط وهو يردد قول الله تعالى: (جَاء ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا) وتحين صلاة الظهر ويجلس الناس جميعاً أمام الكعبة ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أين بلال)، قال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: (اصعد الكعبة وأذن فوقها). فيا سبحان الله، أليس هذا انتصاراً للضعفاء، أليس هذا عدلاً بالمساكين، أليس هذا رفعاً لرؤوس المستضعفين، أليس هذا هو العدل بعينه أن يقوم من كان يعذب قبل فترة في هذا المكان، وأمام صناديد قريش، أن يعتلي بيت الله بأقدامه ليهتف بنداء الحق. أين أبو جهل؟ في النار! أين أبو لهب؟ في النار! وصعد بلال واستوى على الكعبة ليخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذن بلال بكى الناس، ومن الذي لا يرى هذا المشهد ويرى هذه الصورة ويسمع هذا الصوت ويعيش هذه التفاصيل ثم لا يبكي، عجيب يوم الفتح الأكبر، الفاتح رسول الله، والدين الإسلام، والمؤذن بلال. ومن بلال؟ المولى الضعيف، الذي كان عبداً رقيقاً قبل فترة قصيرة في عمر الزمن، وأين يؤذن؟ على سطح الكعبة المشرفة، لقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم حين أذّن بلال، سالت دموعه لأنه تذكر المعاناة، وتذكر الأيام العصيبة التي عاشتها هذه الطائفة المؤمنة، وتذكر فضل الله عليه وإنعامه بهذا النصر المبين.. لقد انتصر النبي صلى الله عليه وسلم، وها هو بلال الذي كان معذباً مهاناً أصبح المؤذن الأول في التاريخ، وها هو صوت بلال رضي الله عنه يجلجل في هضبات مكة وأوديتها، يزلزل الدنيا بلا إله إلا الله. يرجع الصحابة بعد الفتح إلى المدينة، وتمضي الأيام ويموت النبي صلى الله عليه وسلم، يموت الإمام ويحزن عليه المؤذن حزناً شديداً، ولك أن تتصور رجلين متحابين، إمام ومؤذنه عاشا الحياة حلوها ومرها، يسرها وعسرها، ليلها ونهارها، وفجأةً يموت الإمام عليه الصلاة والسلام تحقيقاً لقول الله تعالى: (إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ) لقد أظلمت الدنيا في عين بلال رضي الله عنه، أمات النبي؟ نعم، إلاّ أن دينه لم يمت، وعلى المؤذن أن يستكمل الطريق، ومع بزوق الفجر قام بلال ليؤذن، قام ليؤدي مهمته التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ بلال في الآذان، الله أكبر الله أكبر، ثم ينظر إلى المحراب فيجده خالياً من الإمام، فيلتفت إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج منه للصلاة ولكنه ليس فيه، أصبح بلال وحيداً لا شيخٌ ولا إمام، فكيف يستطيع أن يكمل أذانـه، وبأية عبارة يؤديه، أين قلبه؟ أين كيانه؟ أين روحه؟ ثم تحامل على نفسه وقال، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أتته قاصمة الظهر، أتت المعضلة التي لا يستطيع بعدها أن يتكلم ولو بكلمة واحدة قال: أشهد أن محمداً، ولم يستطع أن يكمل، فبكى بكاءً شديداً، وبكى الناس جميعاً في بيوتهم في المدينة، بكى المؤذن، اختنق صوته، ارتفع نشيجه، لم يستطع أن يكمل فنـزل ورمى بجسمه على الأرض، وحضر الصحابة رضي الله عنهم ليشاهدوا ذلك المنظر، منظر المؤذن وهو ملقىً على الأرض، يبكي بكاء الثكلى: مالك يا بلال، قال: لا أؤذن، أتاه أبو بكر خليفة رسول الله فقال: مالك يا بلال، قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: سبحان الله من يؤذن لنا، قال: اختاروا لكم مؤذناً وحمل إلى بيته رضي الله عنه.. ثم جاء بلال إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال له: يا خليفة رسول الله! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله). فقال أبو بكر: فما تشاء يا بلال؟ قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى الموت. قال أبو بكر: بل أريدك معي في المدينة، فقال بلال: أأعتقتني لله أو لنفسك ؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: بل لله، قال: فائذن لي في الغزو، فأذن له، فذهب بلال رضي الله عنه إلى الشام والتحق هناك بجيوش المسلمين.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: لقد أعفى أبوبكر رضي الله عنه بلالاً من الأذان، وانطلق بلال إلى أرض الشام ونذر نفسه للجهاد في سبيل الله، فاتحاً مقاتلاً يجاهد المشركين، ويعلم الناس دينهم وينتظر المنية حتى يلحق بحبيبه صلى الله عليه وسلم في الجنة.. وتمر الأيام وتمضي السنين، ويموت أبو بكر رضي الله عنه، ويتولى الخلافة من بعده عمر رضي الله عنه، وبلال ما يزال مرابطاً في أرض الشام مع جيوش المسلمين، ويفتح الله على المسلمين بيت المقدس، ويأتي الفاروق عمر بن الخطاب خليفة المسلمين من المدينة بدابته ومعه مولاه ليستلم مفاتيح بيت المقدس، فيدخلها بثوبه المرقع ولكنه يحمل الدنيا في يديه، ويجتمع عدد من كبار الصحابة من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان أساتذة الدنيا كلها، جاؤوا لحضور هذا اليوم المشهود، وتحين صلاة الظهر، فيتذكر عمر رضي الله عنه تلك الأيام الخوالي التي عاشوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول عمر لبلال: أسألك بالله يا بلال أن تؤذن لنا، فقال بلال: أعفني يا أمير المؤمنين، فقال الصحابة: اتق الله يا بلال، سألك أمير المؤمنين ولا تجيبه، فقام بلال يتحامل على جسمه، فقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته بالأذان، فإذا بصوت عمر رضي الله عنه يسابقه بالبكاء، ثم بكى كبار الصحابة، وبكى الجيش كله، وارتج المسجد الأقصى بالبكاء… إن بلالاً رضي الله عنه ذكرهم شيئاً، ذكرهم تاريخاً، ذكرهم معلماً وقائداً، أحبهم وأحبوه، فما أعظم الذكريات، وما أجمل تلك الأيام التي عاشها أولئك المؤمنون الأبرار يتمتعون برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ويتلقون عنه الوحي من السماء. وعاد بلال إلى الشام، ليكمل طريقه الذي أخذه على نفسه، الجهاد في سبيل الله، وانقطع عن المدينة، وأصبح شيخاً كبيراً.

وفي ليلة من الليالي وبينما هو نائم، إذا به يرى حبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم في المنام، رأى المؤذن إمامه بصورته، رآه بنوره، رآه ببشاشته وهو يعاتبه: هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة، ما أعظمها من كلمات، هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة، استيقظ بلال وسط الليل وتوضأ وصلى ركعتين ثم أسرج راحلته، وركبها قبل الفجر وذهب إلى المدينة المنورة ليزور مسجد رسول الله ويزور حبيبه صلى الله عليه وسلم، مشى وسط الصحاري والقفار عدة أيام. وصل إلى المدينة ليلاً فوجد الناس نياماً فأول ما بدأ به المسجد وأتى الروضة الشريفة، ثم توجه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم وبكى، وعاش في عالم من الذكريات، فحان أذان الفجر، ولحكمة يعلمها الله تأخر مؤذن المدينة ذلك اليوم، فصعد بلال المنارة وأذن للصلاة، حتى إذا وصل إلى محمد رسول الله انفجر بالبكاء، وقام الناس في المدينة على صوته، أهذا صوت بلال؟ نعم إنه بلال بن رباح، فأخذ الناس يبكون مع بكاء بلال رضي الله عنه، وتتكرر المشاهد ويتلاقى الأحبة، ويأتي بلال من جديد يعانق أصحابه وأحبابه ويعانقونه في مشهد عظيم من مشاهد الحب والوفاء.

انتهت مهمة بلال في المدينة، وعاد إلى الشام ليكمل طريقه وهناك وفي أرض الشام أتته المنية رضي الله عنه، وعندما حضرته الوفاة صار يقول وهو يحتضر: وافرحتاه، غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه. هذا هو الذي غلب عليه وهو يحتضر، وهذا الذي كان يسيطر على مشاعره بعد أن فارق حبيبه صلى الله عليه وسلم فاشتاق إلى لقائه، لقد اشتاق المؤذنُ إلى الإمام، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه… لقد مات بلال سنة 20 من الهجرة، أي بعد إمامه بتسع سنوات، تسع سنوات على فراق المصطفى صلى الله عليه وسلم وحرارة الشوق لم تبرد، بقي طوال هذه المدة وحياته اليومية على الهدي الذي تعلمه من النبي صلى الله عليه وسلم لم يُغيّر قيد أنملة، ولهذا كان ذلك الاشتياق. مات بلال رضي الله عنه في بلاد الشام مرابطاً في سبيل الله كما أراد، وهناك وتحت ثرى دمشق رُفات رجل من أعظم رجالات هذا الدين (يأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ  ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً  فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي  وَٱدْخُلِي جَنَّتِي)

فهنيئاً لبلال تلك الصحبة، ورضي الله عنه وأرضاه، وبوركت تلك الأعمال الجليلة التي سطرها، ولتهنئه المنزلة من الجنان بإذن الله في جوار الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى صلى الله عليه وآله وسلم.

اللهم ارحم بلالاً، واغفر له، وأعلي شأنه، وارفع درجته في المهديين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم،وآله وأصحابه،

ويقتدي بهم، ولا تجعل في قلوبنا غلاً على أحد منهم،واجعلنا ممن قلت في وصفهم، (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) اللهم إنَا نسألك حبك و حب نبيك ، وحب من أحبه ، وحب كل عمل يقربنا إلى حبه ، اللهم وفقنا لإتباع سنته، وتوفنا على ملته ، وارزقنا شفاعته ،واحشرنا في زمرته ، وابعثنا تحت لوائه ، وأوردنا حوضه ، واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً ، اللهم ألحقنا بالصالحين، واحشرنا في زمرة المتقين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المضطهدين المظلومين ، اللهم كن لهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن و في كل مكان، اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وأصلح أحوالهم، وألف بين قلوبهم، ولا تجعل لعدو ولاطاغية عليهم سبيلا… اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر،يا ذا الجلال والإكرام. اللهم نور على أهل القبور من المسلمين قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم،،

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)  فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين