الجمعة 7 شعبان 1440 هـ

الموافق 12 إبريل 2019 م

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً به وتوحيداً، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان..

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى :(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: الأمنية والأماني، هاجس لا ينفك عن النفس البشرية، فما من عبد إلا وقد طاف في خياله ألوان من الأماني، وكما ينشد المرء في دنياه لطموحات، كذلك يتطلع في أخراه لأمنيات، ومن أعظم الأماني الأخروية، التي تتوق لها الأرواح، وتطير لها القلوب فرحاً، مرافقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم. تلك الأمنية التي تصغر دونها كل أمنية، والغاية التي تتضاءل بعدها كل غاية، مرافقة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم،  في الآخرة، نهاية تمتد نحوها الأعناق، وعيش تهفو له القلوب والأشواق.

إنها ليست مرافقة حاكم أو أمير أو وزير أو حسيب ووجيه، إنها مرافقة لا يعكرها إذلال، ولا يكدرها زوال، بل هي مرافقة سرمدية دائمة في جنات ونهر، في مقعد صدق، عند مليك مقتدر، فيا سعادة من حازها ! ويا هناء من نالها!.. ذو حظ عظيم، من كان رفيقاً للنبي الكريم في جنات النعيم… ذو حظ عظيم، من كان جليسه صفي الله وحبيبه، ونبيه وخليله، ذو حظ عظيم، من كان نديمه سيد ولد ادم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من تفتح له أبواب الجنة. مرافقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الآخرة، أمنية دعا بها وطلبها الصالحون، وسعى لها العاملون..

كم ترقرقت لأجلها الدموع على المحاجر! وكم تلجلجت طلباً لها الدعوات في الحناجر!  يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مسجده، وقد أسدل الليل سدوله، فيرى صاحبه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واقفاً يناجي ربه، فإذا هو يسمع من دعائه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَاناً لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيماً لَا يَنْفَذُ، وُمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جنان الْخُلْدِ) يا طلاب الجنة: الجنة منازل ودرجات،بحسب أعمال أهلها وسعيهم؛ كما قال سبحانه: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) ويقول صلى الله عليه وسلم: (الْجَنَّةُ مَاِئةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مَائَةِ عَامٍ) ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم  في أعلى جنانها، في جنة الفردوس، تحت عرش الرحمن، فمن رافقه نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم، فإنما هو يتنعم مع نعيم مرافقيه بنعيم جنة الفردوس، والتي منها تفجر أنهار الجنة الأربعة.. يا أحباب محمد صلى الله عليه وسلم: من منا لا يتمنى مرافقته؟ من منا لا يتمنى أن يكحل عينيه برؤية خير البشر، في جنات ونهر، لكن الأماني وحدها بلا عمل إفلاس، وما نيل المطالب بالتمني.

فيا من تاقت نفسه بمرافقة خير الورى، ويا من منى نفسه بالجلوس مع خير من وطئ الثرى، أبشر أخي، فالطريق سهل، والسبيل ميسور، فأعمال صالحات، وخصال وقربات، يصل بها المرء إلى هذه المنزلة الغالية، والمحلة العالية فاستمسك بها، وداوم عليها، وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه.

أيها الأخوة والأخوات في الله: ومن الأعمال التي يدرك بها العبد مرافقة نبيه صلى الله عليه وسلم في الجنة: محبته بأبي هو وأمي محبة صادقة من القلب.. ها هو رجل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم،  ليس من السابقين الأولين، ولا من أهل المواقف المذكورة، ولا من أهل التحنث والعبادة، بل هو من عامة الناس، لكن له قلب يخفق بحب رسول الله، لقي هذا الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدة المسجد – أي: ظلال باب المسجد – فقال له: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما أعددت لها)؟، فكأن الرجل استكان،(أي: ذل وخضع) ثم قال يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أنت مع من أحببت). وكانت هذه العبارة: (أنت مع من أحببت) كالبشرى زفت للصحابة رضي الله عنهم، حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت)! وصحبة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لمحبة ذاته ومحبة شريعته وسنته وأمره، مع بغض نهيه، وبغض كل شيء أبغضه، أو تبرأ منه. فالمحبة ليست شعوراً داخلياً ميالاً منفكاً عن القول والعمل.

والله الذي لا إله غيره ما أحب رسول الله من ناكف وعادى شرعه واستهزأ بدينه واستخف بسنته.. ما صدق في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بارداً في شعوره، لا يغار على سنته حين تنتهك، ولا من هديه حين يسفه، المحبة الصادقة لها علامات وبراهين تدل عليها وعلامة محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إتباعه وطاعته.. فيا كل محب لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ويرجو مرافقته هناك، اعلم وفقك الله لكل خير: أن طاعة الرسول هي جامع الأعمال لإدراك هذا المنال. يقول الله سبحانه واعداً ومؤكداً: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًاً، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً  يقول أهل التفسير: (أي يجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم الصديقون ثم الشهداء ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون)…

عباد الله: مرافقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الآخرة، تزف إلى كل عامل جعل لسانه لهاجاً بالصلاة على النبي  صلى الله عليه وسلم، قد ترطب لسانه بكثرة الصلاة عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً)  وفي رواية: (فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَجْلِساً) ويوم الجمعة فرصة عظيمة؛ لنجزيه صلى الله عليه وسلم، ولو باليسير من حقه؛ فننعم بقربه، بالصلاة عليه بأبي هو وأمي. يقول صلى الله عليه وسلم: (إنّ من أفضل أيّامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ)

عباد الله: ومن الأعمال الصالحات التي وعد أهلها بمرافقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، كثرة السجود لله رب العالمين.. الإكثار من السجود في صلاة النوافل، أو في سجود الشكر أو في سجود التلاوة؛ يقول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: (إنَّكَ لاَ تَسْجُدُ للهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً)

يُحَدِّثُنَا رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ  عَنْ هَذَا الوَعْدِ الصَّادِقِ، فَيَقُولُ:  كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فَأَتَيْتُهُ بِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: (سَلْ يَا رَبِيعَةُ)، فَقُلْتُ:(أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّة) فَقَالَ: (أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ)؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ).. عباد الله: ومن الأعمال الجليلة التي وعد أهلها بمرافقة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، كفالة اليتيم فيا أيها المشتاق لمرافقة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم إلزم كفالة الأيتام، امسح على رؤوسهم، كفكف دموعهم، تولى كل شؤونهم وأمورهم، وانتظر وعد نبيك حين قال: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى). وقال صلى الله عليه وسلم: (كَافِلُ اليَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ)، وَمَعْنَى: (لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ) ؛ أي: سواءٌ كان اليتيم قريباً منه؛ كالجد مثلاً يكفل حفيده، أو الأخ يكفل أخاه، أو كان لا قرابة بينه وبين اليتيم، فإنه يحوز هذا الأجر العظيم، والثواب الجزيل.

أيها المؤمنون والمؤمنات: وأحق الناس بمرافقة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم،  هم أولئك القوم الذين حسنت أخلاقهم، وطاب سلوكهم، فتبوءوا من القلوب محلاً، ومن الجنات نزلاً. يحدثنا نبينا صلى الله عليه وسلم  عن هذا الفضل فيقول: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًاً) وفي المقابل إذا ساء خلق المرء، وقبح سلوكه، كان بعيداً عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم  في الدار الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام:(وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدِكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ وَالْمتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: (الْمُتَكَبِّرُونَ). يقول أهل العلم: والمتشدق هو الذي يتطاول على الناس في الكلام، أو هو الذي يتكلم بملء شدقيه تكبراً وتبختراً)

عباد الله: ومن أسباب مرافقة سيد المرسلين في أعلى الجنان: رعاية البنات والأخوات، وتربيتهن، والإحسان إليهن، فديننا قد جعل للأنثى من الفضائل والأجر ما ليس للذكر، وكلاهما هبة من الله تبارك وتعالى.

وفي محكم التنزيل قدم سبحانه هبة الإناث؛ فقال: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ) قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (الْبُنُوَّةُ نِعْمَةٌ، وَالْبَنَاتُ حَسَنَاتٌ، وَاللهُ يُحَاسِبُ عَلَى النِّعْمَةِ، وَيُجَازِي عَلَى الْحَسَنَاتِ). فيا عائلاً للبنات، أبشر بصحبة المصطفى المختار، واستبشر بالجنة دار الأبرار، وابتهج بحجاب من النار.

يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَالَ ابنتين حَتَّى تَبْلُغَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وَضَمَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) وفي رواية: (مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتٍ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ، كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ)، وَأَشَارَ بِأَصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) والرعاية عباد الله أوسع من مجرد الإنفاق، الرعاية تربية وعناية، الرعاية تعني استصلاحها بالإيمان، وغرس التقوى في قلبها، وتهذيبها على الأخلاق من الحياء والحشمة والستر.. الرعاية تعني مجافاة مسالك الانحراف عن البنت، وسد أبواب الشر عنها وملء وقتها بالنافع المفيد.. الرعاية تعني حفظها وصيانتها حيية كريمة في بيت والدها أولاً، ثم اختيار الزوج الصالح لها ثانياً، صاحب الدين والأمانة والخلق؛ لتعيش معه بقية حياتها.. وفي محكم التنزيل أمرنا الله تعالى بالعمل على تربية وتعليم الأهل والأولاد والبنات، واستخلاصهم وإنقاذهم من نار تلظى فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)

اللهم يا ذا الجلال والإكرام، نسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفذ، وعملاً صالحاً لا يرد، ومرافقة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد، يا سميع الدعاء.

نفعني الله وإياكم بالقران العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: لا شك أن درجة الأنبياء في الجنة، هي أرفع الدرجات، ومنزلتهم أعلى المنازل، والصحابة رضوان الله عليهم لما عرفوا هذه الحقيقة، واستشعروا أن تلك المنازل العالية، لا يستحقها غير الأنبياء، خافوا أن يكون علو درجته صلى الله عليه وسلم سبباً مانعاً من رؤيته ومجاورته، وهو حبيبهم وأنيسهم والذي لا يستطيعون أن يفارقوه لحظة.. جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ (وَاللَّهِ إِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي،  وَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لأَكُونُ فِي الْبَيْتِ،  فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعَتْ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لا أَرَاكَ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً، حَتَّى نزل جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَذِهِ الآيَةِ : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًاً) فقرأها عليه الصلاة والسلام على الرجل فسر بها.. ومعنى قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) إنه معهم في دار واحدة ونعيم واحد، يستمتع برؤيتهم والحضور معهم، وهذا عام فلا يخص عصراً دون عصر، ولا جيلاً دون جيل، فمن أطاع الله ورسوله الطاعة التامة امتثالاً واجتناباً فسوف يكون بفضل الله ومنه وكرمه مجاوراً ورفيقاً للذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين… وعد الله لا يخلف الله وعده.

والله ليجمعن الله بين المؤمنين الصادقين، وبين نبيهم صلى الله عليه وسلم عند حوضه، فقد ثبت أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبَرَةَ مع أصحابه يوماً فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا (أَيْ رَأَيْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فقَال الصحابة: أَولَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ) فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُراً مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ (أي أَتَقَدَّمهُمْ) عَلَى الْحَوْضِ …) نعم عباد الله. وذلك أثر من آثار هذه العبادة العظيمة، وهي الوضوء الذي كرروه على هذه الأعضاء الشريفة ابتغاء مرضاة الله، وطلباً لثوابه، فكان جزاؤهم هذه المحمدة العظيمة الخاصة، من النور الذي يكون في وجوههم وأيديهم. وهنا قد يسأل سائل، فيقول: هل مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم تعني مجاورته في نفس المنزلة، فالجواب: لا، فنبينا صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك في حديث آخر فقال: (إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ) فتلك منزلة ليست لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، ولكن المراد هنا أن يكون في مرتبة قريبة منه،  فينعّم برؤيته صلى الله عليه وسلم، ويسعد بقربه، رزقني الله وإياكم قربه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في الأولى والآخرة، وأعاننا على إتباع سنته، إنه هو البر الرحيم.

اللهم صل وسلم عليه كما بلغ رسالتك، ونصح لعبادك، وتلى آياتك، وأقام حدودك، ووفى بعهدك، وأنفذ حكمك، وأمر بطاعتك، ونهى عن معصيتك، ووالى أوليائك الذين تحب أن يواليهم،وعادى أعدائك الذين تحب أن يعاديهم،اللهم أبلغه منا السلام كلما ذكر السلام، والسلام على النبي الحبيب الرحيم الكريم، ورحمة الله وبركاته. اللهم اجمع بيننا وبينه كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، وتوردنا حوضه، وتجعلنا من رفقائه، من المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً يا ذا الجلال والإكرام.

اللّهمّ إنّا نسألك حبَّك، وحبَّ رسولك محمّد، وحبَّ العملِ الذي يقرّبنا إلى حبّك. اللهم اجعل حبَّك وحبَّ رسولك أحبَّ إلينا من أنفسنا وأهلينا ووالدينا وأولادنا والناس أجمعين… اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، وأدم الأمن والاستقرار في ربوعنا، الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُمُوْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنِ عِيْسَىْ وَرَئِيْسَ وُزَرَائِهِ خليفة بن سلمان وَوَلِيَّ عَهْدِهِ سلمان بن حمد، الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ، وَسَدِّدْ عَلَىَ طَرِيْقِ الْخَيْرِ خُطَاهُمْ وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَارَبْ الْعَالَمِيْنَ.. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المضطهدين، اللهم كن لهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي كل مكان كن لهم ناصراً ومؤيداً، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلاً..

اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين..

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ،وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ، عِبَادَ الْلَّهِ:إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ، فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ،وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أكبروالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

   خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان- مملكة البحرين