خطبة الجمعة.. في رحاب الهجرة النبوية مواقف وعبر

في رحاب الهجرة النبوية مواقف وعبر

فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان

2 محرم 1447 هـ – 26 يوليو 2025 م

 

 

الحمدُ للهِ الَّذي جعلَ الهجرةَ في سبيلِهِ باباً إلى الجِنان، وسُنَّةً ماضيةً لأهلِ الإيمان، نحمدُهُ حمدَ الشاكرينَ على نِعَمِه، ونثني عليهِ ثناءَ الذاكرينَ لجميلِ أيادِيه، الَّذي اصطفى نبيَّهُ محمداً ﷺ، وأيَّدَهُ بالرؤيةِ والبصيرةِ والإيمان، فهاجرَ في سبيلِ اللهِ، لا يبتغي جاهاً ولا مالاً، بل نصرةً للحقِّ، وحفظاً للدعوة، وتمكيناً للدين. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: تظلّنا هذه الأيام ذكرى حادثة عظيمة من حوادث وأحداث تاريخنا الإسلامي المجيد، هذه الحادثة كانت إيذاناً بعهد جديدٍ، وتحوّل مهمّ في تاريخ الدعوة الإسلامية، تلكم هي هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بيت الله الحرام إلى المدينة دار الهجرة، هذا الحدث يمثل أهمّ حدث من أحداث التاريخ الإسلامي، به بدأ بناء الدولة الإسلامية وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له، وتبلّغ دينه الحنيف إلى كل الناس، يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)

تجدُّد هذه الذكرى -عباد الله- يزيد في أعمارنا عاماً كلّما تكرر، ويذكرنا بانصرام الأيام، ويبيَّن لكل مسلم أن حياته على هذه الأرض محدودة، وأن كل يوم يمضي يقرب الإنسان من نهايته وأجله، فهذه أول عبرة من عبر مرور الأيام، وتجدد ذكريات الأحداث، فما من مظهر من مظاهر الزمان والمكان إلا هو آية وعبرة للإنسان: يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأِوْلِي الألْبَابِ) جاءت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة بثلاثة عشر عاماً، بعد أن أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المدة وهو يجاهد من أجل إبلاغ دين الله سبحانه، ومن أجل أن يهدي قومه والناس إلى طريق الله سبحانه صابراً محتسباً، يؤذى في سبيل الله، ويرى أصحابه يؤذون ويعذَّبون ويقتلون ولا يزداد مع ذلك إلا صبراً ويقيناً وطاعة لله سبحانه، وقد جاء الأمر بالهجرة إلى يثرب بعد أن بايع سكانها الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان وعلى حمايته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم، وكان ذلك حين جاؤوا مكة حاجين، فكانت هذه البيعة مقدمة للهجرة المباركة.

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً إلى ربه، وقد وعد الله من هاجر إليه أجراً عظيماً، يقول سبحانه: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) خرج صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة بعد أن أعدت قريش العدة لقتله أو حبسه أو طرده، ولكن مكرهم عاد عليهم؛ لأن هذا المكر لن يحيق بمن يرعاه الله ويؤيده ويسدده: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون)

تآمرت قريش على قتل النبي ﷺ بتكليف عدد من شبابها لينفذوا الجريمة ويتفرق دمه بين القبائل، لكن الله جلّ وعلا ردّ كيدهم قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فأتى النبي ﷺ صاحبه أبا بكر رضي الله عنه وأخبره بالهجرة، فما كان من الصديق إلا أن قال فوراً: الصحبةَ يا رسولَ الله؟ فقال النبي: الصحبة. هي صحبة رجل مطارد، لا صاحب مالٍ أو جاه، ولكن الصدّيق فرح بها وفاخر، لأن الإيمان ملأ قلبه، فبذل نفسه وماله وأهله لنصرة النبي ﷺ. فجهَّز راحلتين للهجرة وعرضهما على النبي ﷺ هدية، فأصر النبي على شراء إحدى الراحلتين، تأكيداً للتوكل وأداء الحقوق، وجنَّد أبو بكرٍ رضي اللهُ عنه أسرتَهُ كلَّها في هذا الحدثِ العظيمِ؛ ابنه عبد الله كان يبيت عند الغار ويأتي بالأخبار. مولاه عامر بن فهيرة كان يأتي بالغنم ليخفي الأثر ويسقيهم. ابنته أسماء كانت تنقل الطعام، وشقت نطاقها لتربط الزاد، فسميت (ذات النطاقين). وهكذا قدّمت هذه الأسرة المباركة أعظم صور التضحية في سبيل نصرة دين الله ومرافقة نبيه ﷺ.

وفي الهجرة يبرز عظم دور الشباب في نصرة الحق ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بات ليلة الهجرة على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يخشَ من القتل، تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عباد الله: لقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الدين لا من أجل الدنيا، فقد بقي في مكة طيلة هذه المدة رغم الأذى الذي يتعرض له هو وأصحابه؛ لأنه كان يسير بأمر الله سبحانه، وكان يريد أن يبلغ دين الله سبحانه، وأن يهدي البشرية إلى طريق السعادة الأبدية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً) هاجر صلى الله عليه وسلم من أجل الله ومن أجل الدعوة إلى الله سبحانه، وكذلك هاجر أصحابه رضوان الله عليهم من أجل دينهم، ومن أجل المحافظة على دينهم، لا من أجل الدنيا، بل إنهم تركوا الدنيا في مكة، فمنهم من هاجر وترك ماله، ومنهم من هاجر وترك بيته ومتاعه؛ لأنهم لما نظروا إلى المال وإلى الدين وجدوا أن ضياع المال يُعوَّض، ولكن ضياع الدين لا يعوّض أبداً، وجدوا أن كسر المال والبيت والأهل يُجبر، أما كسر الدين فإنه لا يُجبر.. والهجرة إلى مكة تعتبر ثالث هجرة لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم-؛ فقد هاجروا قبلها إلى الحبشة مرتين، وركبوا البحر وصارعوا الأمواج وتعرضوا للأخطار من أجل دينهم، وها هم يتركون مكة موطنهم وموطن آبائهم ومرتع طفولتهم وصباهم إلى المدينة؛ استجابة لأمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. أمضى صلى الله عليه وسلم في غار ثور ثلاث ليال هو وصاحبه أبو بكر، ينتظران أن يخفّ عنهما الطلب حتى يخرجا إلى المدينة، وكانت قريش تبحث عنهما في جنون، وتبعث بعيونها في كل مكان، وتجعل الأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد وصل كفار قريش إلى الغار الذي يختبئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ولكن الله سبحانه صرفهم عنه وردهم خائبين، يقول أبو بكر كما في الصحيح: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟).

إذا كان الإنسان في معية الله، وفي عناية الله، وإذا أيّد الله عبده ونصره، فإن الكون كل الكون لن يضره بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليه: (ما ظنك -يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟). هكذا عباد الله لا يخاف العبد إذا أيقن أن الله معه، وهكذا يكون مسدداً موفقًا في كل ما يقدم عليه إذا كان مراعيًا لمرضاة الله عز وجل: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) لقد كانت الهجرة نتيجة صبر ثلاثة عشر عاماً من الخوف والجوع والحصار والأذى، فكانت الثمرة على قدر التعب، وعلى قدر الصبر، وهكذا هذا الدين لا يعطي ثمرته إلا لمن صبر وثابر، أما من استعجل النتائج فإنه يُحرَم، وهذه سنّة كونية: (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)، فدولة المدينة التي شعّ منها النور إلى كلّ الأرض كانت نتيجة لصبر مكّة، ورسول الله الذي خرج من مكة سرًّا والناس يبحثون عنه، دخل المدينة في احتفال عظيم يحفّ به الناس من كلّ جانب، كلّ منهم يطلب منه أن ينزل عنده، وتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه قول الله تعالى ووعده لعباده الصالحين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) وها هي الدعوة التي انطلقت من رجل فقير من قريش هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، معه رهط يسير ممن سبقوا إلى التصديق والإيمان أكثرهم من الضعفاء والموالي، ها هي يحملها اليوم أكثر من مليار إنسان في كافة أنحاء الدنيا، وها هو الإسلام يدخل كل بيت، ونداء الحق يرتفع في كل مكان: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) هذا وعدٌ صادقٌ من الله لرسوله وأمته، ولكل من سار على نهجه وهدي السلف الصالح دون تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان… فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على أن تكونوا ممن ينصر الله بكم الدين في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن والمحن نسأل الله أن يستعملنا في طاعته، ويجعلنا من أنصار دينه، وحملة كتابه، والدعاة إلى سبيله، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمدُ للهِ الذي جعلَ الهجرةَ النبويَّةَ فتحاً وتمكيناً، ونوراً وهدايةً للمؤمنين، الحمدُ للهِ الذي أيَّدَ نبيَّهُ ونجَّاهُ، وأظهرَ دينَهُ واصطفاه، نحمدُهُ على نِعَمِه، ونشكرُهُ على توفيقِهِ، ونشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه، صلّى الله وسلم عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: إنّ الهجرةَ النبويّةَ ليست مجرّدَ حادثةٍ تاريخيّةٍ تُروى، أو ذكرى تُستعاد، بل هي شعلةٌ من نورٍ في دربِ أمةٍ شاء لها الله أن تقودَ لا أن تُقاد، وأن تصنعَ التاريخَ لا أن تُساق في ذيله. لقد كانت الهجرةُ نقطةَ تحوُّلٍ مفصلية في مسيرة الدعوة، ومَعْبَراً من الاستضعاف إلى التمكين، ومن ظلمات الاضطهاد إلى أنوار الدولة الراشدة. فالأمة التي تطمح إلى المجد في الدنيا، وإلى الرضا في الآخرة، لا بد أن تتوقّف مليًّاً أمام دروس الهجرة، وتستلهم منها العِبَر، وتستخرج منها زاداً يُخرجها من وهدةِ الانكسار، ويعيدها إلى موقع الريادة والتأثير. أمةٌ لا تأخذ من سيرة نبيّها زادَ الطريق، ولا تتأسّى بخطى الصحابة في التضحية والثبات، ستظلُّ أمةً مغلوبةً على أمرها، تتلقّى الضربات، وتُنسى في الهامش، بدل أن تكون في قلب المشهد، وقائدة المسير.. ففي الهجرةِ دروسٌ تتجلّى فيها أسمى المعاني: فيها طاعةُ الأوامر الإلهيّة بلا تردُّد، ويقينٌ لا يتزلزل أمام العواصف، وفيها التخطيطُ الدقيق، والبصيرة النافذة، والاعتمادُ على الله دون تفريط في الأسباب، فيها الإيثارُ والبذلُ والتضحية، والوفاءُ والثباتُ في زمنِ المحنة. لقد كانت الهجرةُ مشروعَ حياةٍ متكاملًا، لا لحظة عابرة، وكلُّ لحظةٍ فيها تُدرّس وتُتعلَّم، وكلُّ موقفٍ فيها يرسم منهجاً في القيادة والاتباع، وفي التضحية والفداء. وكيف لا، وكلُّ سيرةِ الحبيب المصطفى ﷺ مدرسةٌ للأجيال، وكلُّ خُطوةٍ من خُطاه نورٌ يُضيء دروب الحائرين؟ قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) وقال سبحانه في موضع آخر: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ) فيا أبناء هذه الأمة، إنّ العزّ لا يُهدى، والمجد لا يُمنح، وإنما يُنتزعُ بجهدٍ وجهاد، وبذلٍ وثبات، ومتى ما سارت الأمةُ على هدي رسولها ﷺ وسلفها الصالح، نالت الرفعة في الدارين، وإن هي تخلّت عن ذلك، تاهت في دروب الانحدار، وضاعت في متاهات التيه والفرقة والانكسار.

عباد الله: وكما كانت الهجرةُ انتقالاً من مكة إلى المدينة، فهي قبل ذلك هجرةٌ من ظلماتِ الجاهلية إلى أنوارِ الإيمان، ومن ضيقِ الدنيا إلى سَعةِ الطاعة، ومن عبادةِ الهوى إلى عبادةِ الله وحده.

تلك الهجرةُ العظمى، لا تحتاجُ إلى راحلةٍ ولا زادٍ، بل إلى عزمٍ صادق، ونيّةٍ مخلصة، وقلبٍ أحبّ اللهَ وكرهَ العصيان. قال النبيُّ ﷺ: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه).

فيا من أكرمك الله بالإيمان، هل عزمت على هذه الهجرة؟ هل هجرت الغفلة، والهوى، والرياء، والكسل، وسوء الظن، والحقد، وكل ما يغضب الله؟!

إنها الهجرةُ التي لا تُكلّف مالاً، لكنها تتطلبُ صدقًاً وجِدًّاً، تتطلبُ صحوةً ضمير، وشجاعةَ قرار، وقوّةَ مجاهدة.

اللهمّ يا مقلّب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، واجعلنا من المهاجرين إليك بأرواحنا وأعمالنا، واملأ قلوبنا بمحبتك، واجعلنا من الذين قلت فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

اللهم اجعل لنا في كل درب نوراً، وفي كل محنة أجراً، وفي كل خطوة بركةً وقربًا منك، يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين، الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ رئيس وزرائه سلمان بن حمد، الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَا رَبْ الْعَالَمِيْنَ..

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان، اللهم كن لهم في فلسطين وغزة الجريحة ناصراً ومؤيداً ومعيناً، اللهم فرّج كربهم، وآمن روعهم، واشفِ جرحاهم، وتقبّل شهداءهم، وارزقهم الصبر والثبات والتمكين. اللهم إنهم مظلومون فانتصر لهم، وإنهم مستضعفون فكن لهم، وإنهم جياع فاشبعهم، وعراة فاكسهم، وخائفون فآمِنهم، ومحاصرون ففكّ الحصار عنهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم إنّا نبرأ من حولنا وقوّتنا وتدبيرنا إلى حولك وقوّتك وتدبيرك لا إله إلا أنت لا يعجزك شيء وأنت على كل شيء قدير.

اللهم أحفظ المسجد الأقصى والمرابطين فيه، مسرى نبيك وحصنه بتحصينك وأكلاه برعايتك وعنايتك واجعله في حرزك وأمانك وضمانك يا ذا الجلال والإكرام

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وارحم والدينا وذوي الحقوق علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)