خطبة الجمعة.. عبرة للمعتبرين من قصة موسى وفرعون

عبرة للمعتبرين من قصة موسى وفرعون

فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان

18 ربيع الآخر 1447هـ – 10 أكتوبر 2025 م

 

الحمدُ للهِ الذي قصَّ علينا من ِسيَرِ أنبيائِه ورُسُلِه، فجعلَ في قصصِهم عِبَرًا تهدي القلوبَ وتثبِّتُها على الإيمان، وتوجِّه العقولَ إلى الحقِّ واليقين. نحمدُه سبحانه على ما ساق إلينا من مواعظِهم لنتزوّدَ منها صبرًا وثباتًا وتوكّلًا عليه جلّ في علاه.

ونشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جعلَ قصصَ أنبيائِه نوراً للمهتدين، وعظةً للمتفكّرين. ونشهد أن نبينا محمّدًا عبدُه ورسولُه، أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، صلّى اللهُ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: أتقوا الله تعالى واعلموا أن في قصصِ الأنبياءِ عبرةٌ بليغةٌ وموعظةٌ جليلة، هي زادٌ للسائرين إلى الله، وتثبيتٌ لقلوب المؤمنين، كما قال جلَّ شأنُه: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ). وقصةُ موسى عليه السلام من أطولِ قصص القرآن الكريم وأوفاها بالمشاهد والدروس؛ إذ تنوَّعت أحداثُها وتكرَّر عرضُها، لتبقى حاضرةً في الوجدان، ماثلةً أمام العقول والقلوب.

وُلد موسى عليه السلام في زمنٍ تملؤه الرهبةُ، وتخيِّم عليه المِحنة، والأمةُ يومئذٍ مستضعفةٌ ممزقة، يسومُها فرعونُ سوءَ العذاب، يذبحُ أبناءها ويستحيي نساءها، ويقتلُ كلَّ مولودٍ ذكرٍ خشيةَ زوال سلطانِه، فشيَّد مُلكَه على أشلاء الأطفال، وجماجم الأبرياء، وأقام عرشَه على بحارٍ من الدماء. أُولئك الطغاة الذين نُزِعت الرحمةُ من قلوبهم، وتجردوا من إنسانيتهم، فحقَّت عليهم سنَّةُ الله بزوال مُلكهم، وسوء عاقبتهم، فلا كرامةَ لهم على ظهر الأرض. هنالك أوحى الله عز وجل إلى أمِّ موسى أن تُرضِعَه، ثم تلقيه في اليمِّ إذا خافت عليه، وأكَّد لها الوعد: (وَلا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). وهنا يتجلَّى عجيبُ صنع الله عز وجل أمٌّ خائفةٌ على رضيعها من فرعون، فيُلهمها ربُّها أن تُلقِيه في البحر! فإذا باليمِّ، الذي هو مظنَّةُ الهلاك، يغدو مأمنًا وسَترًا، يحتضن الطفلَ ويصونه من بأس الطغيان.

وتتابعت مشاهد القصة؛ ليُري الله الناسَ أن كيدَ الطغاة واهنٌ، مهما عظم في أعينهم. أراد فرعون أن يقتل موسى قبل أن يُولَد، فإذا بالأمواج تسوقُه إلى قصره، وإذا بمحبة الله تُلقى في قلب امرأة فرعون، فتقول: (لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا). فينشأ موسى عليه السلام في بيت فرعون، وعلى مائدته، وتحت كنفه، وليعلَم الناسُ أن أحداً لا يستطيع أن ينالَ بسوءٍ من شاء الله له النجاة والحياة.

وعندما جاؤوا بالمراضع جميعاً فأبى موسى أن يرضع منهن، تقدَّمت أخته تعرضُ أن تدلَّهم على مُرضعة، فجاءوا بأمه، فردَّه الله إليها كما وعد: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). ووعد الله حقٌّ لا يتخلَّف، وعلينا أن نغرس في قلوبنا اليقين أن من تعلَّق بالله وتوكَّل عليه، وأخذ بالأسباب، فلن ييأس من روح الله، ولن يستسلم لوساوس الوهن، بل تشتدُّ عزيمته وتزداد قوَّته وصبرُه.

ثم يأمره الله جل وعلا أن يذهب إلى فرعون: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، مهمةٌ عظيمةٌ شاقَّة، فهو ذاهبٌ إلى رجلٍ ادَّعى الألوهية، وتجبَّر واستكبر حتى قال لقومه: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي).

وهنا يعلِّمنا موسى درساً بليغاً في المنهج والدعوة؛ إذ لم يتكئ على حوله ولا قوته، بل طرح نفسه بين يدي ربه، مستعينًا به، متضرعًا إليه: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي  هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) فكان الدعاءُ زاده، والتسبيحُ عُدَّته، وذكرُ الله قوَّتَه. ثم جاء التوجيه الإلهي: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾. فها هو الأدب الرباني في الدعوة: القولُ اللين، واللغة الهادئة، والحوار بالحجة، والبرهان.

فاللينُ سبيلُ الأنبياء، وأدبُ المرسلين، وهو الذي يفتح القلوب المغلقة، ويقيم الحجة البالغة. أمَّا العنفُ والفظاظةُ والسبابُ فلا تزيد الناس إلا نفورًا، ولا الدين إلا تشويهًا. وليس اللينُ بحالٍ مداهنةً في الحق، ولا تمييعًا لأحكام الله، بل هو حكمةٌ ورحمةٌ، مع ثباتٍ على المبادئ، وصدقٍ في البلاغ.

ثم لم يكتفِ فرعونُ بالطغيان، بل حشدَ السحرة وجمعهم في مشهدٍ علنيٍّ ليهزم موسى أمام الناس ويقضي عليه: (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى). وهنا تبدأ الجولة الكبرى بين الحق والباطل، لتبقى للأجيال درساً خالدًا أن الطغيان زائل، وأن كلمة الله هي العليا، وأن المستقبل لعباد الله المتقين. فلمّا اجتمع السحرةُ في يومٍ مشهودٍ، وحضرَ الناسُ من كلّ فجٍّ عميق، وجلسَ فرعونُ في عليائه مزهوًّا بسلطانه، متكئًا على جبروته، ظانًّا أن كيدَه يغلبُ الحقَّ ويُطفئ نورَ الله، هنالك أوحى ربُّ موسى إلى كليمه عليه السلام قائلًا: ﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى﴾.

لا تخف يا موسى؛ فأنت الأعلى قدرًا، والأعزُّ دينًا، والأقوى برهانًا، والأكرمُ مبدأً. وما أعظمها من رسالة! ليست لموسى وحده، بل لكل مؤمنٍ على مرّ الزمان، يضعُف حين يرى زينةَ الباطل، أو ينكسرُ أمام انتفاش الضلال. إن المؤمنَ مهما قلّ أنصاره، ومهما اشتدَّت المحنُ عليه، فهو الأعلى بإيمانه، والأقوى بعقيدته، والأبقى بمنهجه، إذ العاقبةُ للمتقين.

أراد فرعونُ أن يُبطل دعوة موسى، فجمع السحرةَ من كلّ مصرٍ، وحشد الناسَ ليُرهبَ الحقَّ بالباطل، ولكنَّ الله يُريد أمرًا آخر، ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾. فإذا بالمعجزة تتجلّى، والآيات تشرق، والسحرةُ الذين كانوا يبيعون أوهامًا للناس، خرُّوا ساجدين للحقِّ المبين: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾.

ما أعجب التحوُّل! دخلوا الساحةَ سحرةً مأجورين، وخرجوا منها مؤمنين صادقين. كانوا يبتغون رضا فرعون، فإذا بهم يبتغون جنان الرحمن. جاءوا طلاب دنيا رخيصة، فانقلبوا شهداء بررة، ثبتوا في وجه الجبّار، وقالوا بكلمةٍ مدوِّيةٍ: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾. فما عاد فرعون في أعينهم إلا قزمًا حقيرًا، لا يملك نفعًا ،ولا ضرًّا، ولا حياةً ولا نشورًا.

لقد غمر الإيمانُ قلوبَهم حتى أضاءَها، وغدت نفوسُهم عاليةً متطلعةً إلى ما عند الله، فرفعوا أكفّهم بالدعاء قائلين: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾، فصاروا دعاةً للحقّ بعد أن كانوا جندًا للباطل، وخلَّد القرآن مواقفَهم، ليبقى الدرس شاهدًا: أن القلوب إذا ذاقت حلاوةَ الإيمان، هانت عليها الدنيا وما فيها.

وهذا المشهد ليس غريبًا على سُنَّة الله؛ فكم من قلوبٍ كانت تحاربُ الإسلام فدخلها الإيمانُ صادقًا، فصارت أعلامًا في الدين، وأبطالًا في نصرة الحق. وكم رأينا في تاريخنا المعاصر أقوامًا كانوا غارقين في الضلال، منغمسين في الفساد، يبيعون المخدرات أو ينهبون الأموال أو يروِّجون الانحراف، فإذا بالهداية تطرق أبوابهم، فيعودون إلى الله، فيغدون أئمةً في الطاعة، ونماذجَ في التقوى والصلاح.

عباد الله: وحين بلغ استكبارُ فرعون غايته، وتمادى في علوّه وطغيانه، جاءت ساعةُ الفصل التي لا مردَّ لها، ساعةُ انتقام الجبّار من كل جائرٍ وظالم. هنالك أمر الله البحر أن ينفلق لموسى ومن معه، فانشقّ بقدرته طرقًاً يابسةً كأنها السبل الممهَّدة، لا ماء فيها ولا وحل، فسلكها المؤمنون بربهم في أمنٍ وسكينة، يتقدَّمهم موسى عليه السلام بعصاه، ومن ورائهم فرعون وجنوده يتبعونهم في زهوهم وغرورهم، يظنون أن سلطانهم يحميهم من بأس الله تبارك وتعالى

حتى إذا توسّطوا البحر، جاء أمر الله القاهر، فأطبق الماء عليهم فجأة، فأغرقهم جميعًا في لحظةٍ واحدة، لا يغني عنهم ملكٌ ولا جنود، ولا ينفعهم حرسٌ ولا جنود. هنالك أدرك فرعون الهلاك، فلما أحاط به الغرق لم يجد ملجأً إلا الاعتراف بالحق، فقال: (آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنتْ بِهِ الْأُمَمُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ). ولكن هيهات! فقد جاء إقراره متأخرًا، إذ لا ينفع الإيمان عند نزول الموت ومعاينة العذاب، فقيل له: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). فهلك فرعون طاغيةً غريقاً، وأخرج الله جسدَه آيةً باقيةً وعبرةً للناس أجمعين، كما قال تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ).

وهكذا صار فرعون عبرةً خالدةً، ومثالًا صارخًا لكل جبارٍ متكبِّرٍ يظلم العباد، ويبطش بالضعفاء، ويسفك الدماء بغير حقّ؛ لتبقى القصة القرآنية شاهدًا على أن الباطل مهما علا وصال وجال، فإن له جولةً قصيرة ثم ينهار ويزول، وأن العاقبةَ للمتقين، وأن الله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

فاللهم يا قويُّ يا متين، يا ناصرَ المظلومين، ويا قاصمَ الجبابرة والمتكبِّرين، اجعلنا ممن يعتبرون بآياتك، ويهتدون بعظاتك، ولا تجعلنا من الغافلين المعرضين.

اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان، واكشف عنهم الكرب والبلاء، وأبدل خوفَهم أمنًا، وضعفَهم قوةً، وذلَّهم عزًّا، وكن لهم ناصرًا ومؤيدًا يا رب العالمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ الحكيمِ العليم، الذي بثَّ في كتابِه من أخبارِ المرسلين ما يثبِّتُ الفؤادَ، ويُنوِّرُ البصيرةَ، ويجعلُ القلوبَ مطمئنَّةً بوعدِ ربِّها، ويزيدُ المؤمنين يقيناً مع يقينهم، ونشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير، ونشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليُظهرَه على الدينِ كلِّه ولو كره الكافرون، صلّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات إنَّ من أعظم ما يُثبِّتُ المؤمنَ في أزمنةِ الفتنِ والابتلاءاتِ أن يتأمَّلَ سُننَ اللهِ في الكون، ويتدبَّرَ قصصَ المرسلين مع أقوامِهم، فقد ساقَ إلينا القرآنُ العظيمُ قصةَ نبيِّ اللهِ موسى عليه السلام مع فرعونَ وجنوده، ليبقى المشهدُ حاضراً في أذهانِ المؤمنين، يتكرَّر في كلِّ عصرٍ بأشكالٍ مختلفةٍ وأسماءٍ متجدِّدة، غير أنَّ الحقائقَ واحدةٌ لا تتغيَّر. لقد مثَّل فرعونُ صورةَ الطاغيةِ الذي بغى في الأرضِ بغير الحق، وادَّعى ما ليس له من سلطان، يقتلُ الأبرياءَ ويشرِّدُ المستضعفين، ويستعينُ بجنودٍ سخَّرهم لإرهابِ الناسِ وتثبيتِ عرشِه، فجعلوا أنفسَهم أداةً لبطشِه وسيفاً بيدِه، يظنُّون أن قوَّتَهم تُديمُ لهم المُلك، وما درَوا أنَّ للباطلِ جولةً قصيرةً، وأنه إلى زوالٍ وهلاكٍ محتوم. وفي المقابلِ كان موسى عليه السلام ومعه قومٌ مؤمنون مستضعفون، لا يملكون عُدَّةً ولا عتاداً، لكنهم امتلكوا سلاحاً لا يُغلب، وهو الإيمانُ باللهِ والثقةُ بوعدِه واليقينُ بمعيَّتِه، فكان قولُ نبيِّهم الخالد: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) شعارَ ثباتٍ وصبرٍ ويقينٍ، فكان أن جعلَ اللهُ لهم من بعدِ خوفِهم أمناً، ومن بعدِ ذُلِّهم عزّاً، وأورثَهم الأرضَ من بعدِ أعدائِهم. عبادَ الله: إنها سُنَّةُ اللهِ في خلقِه، صراعٌ لا ينقطع بين أهلِ الباطلِ بما معهم من عُدَّةٍ وجُندٍ واستكبار، وبين أهلِ الحقِّ بما معهم من صدقٍ وثباتٍ وإيمان، ولئن بدا للناسِ أنَّ كفةَ الباطلِ أرجحُ في وقتٍ ما، فإن العاقبةَ دوماً للمتقين، كما قال سبحانه: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

وَمِنْ دُرُوسِ تِلْكَ الْقِصَّةِ أَنَّ الاسْتِبْدَادَ لَا يَدُومُ، وَأَنَّ الْمُتَعَاوِنِينَ مَعَ الظُّلْمِ يَنَالُهُمْ مِنْ تَبِعَاتِهِ وَنَدَامَتِهِ نَصِيبٌ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا صَبَرُوا وَثَبَتُوا وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ كَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ وَالنَّصْرُ وَالتَّمْكِينُ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.

ومن الدروس أن النجاة الحقيقية تكون بالإيمان، لا بالهرب ولا بالمساومات، فقد قال موسى لقومه: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أن العاقبة دائماً للحق مهما طال ليل الظلم، يقول صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُمْلِي لِلظّالِمِ، فإذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ (وكَذلكَ أخْذُ رَبِّكَ، إذا أخَذَ القُرَى وهي ظالِمَةٌ إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ).

ومن الدروس من القصة أن على المؤمنين أن يُدركوا أن النصر قد يتأخر لحِكمٍ إلهية؛ ليميز الله الصادق من المنافق، وليزداد المؤمنون ثباتاً، وليعلموا أن النصر وعد الله لعباده: قال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)

فاتقوا الله عباد الله، وثبِّتوا قلوبَكم على طاعتِه، وألزموا الصبرَ واليقينَ عند الشدائدِ والابتلاءات، واعلموا أن النصرَ ليس بكثرةِ العددِ ولا العتاد، وإنما هو من عند الله العزيزِ الجبار، قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.

اللَّهُمَّ ثبِّتْنا على دِينِكَ الحَقِّ، واجعل قلوبَنا مُتعلِّقةً بذكرك وطاعتِك، ولا تَزِغْ قلوبَنا بعد إذْ هَدَيتَنا، وهَبْ لنا مِن لَدُنكَ رحمةً، إنَّكَ أنتَ الوَهَّاب. اللَّهُمَّ اجعلْنا من الثابتينَ على الحقِّ عندَ الفتن، المُقبِلينَ عليك عندَ الشدائد، المُستمسكينَ بكتابِكَ وسُنَّةِ نبيِّكَ صلى الله عليه وسلم، ووفِّقنا للعملِ بما يُرضيكَ في السرِّ والعلن.. اللَّهُمَّ يا قويُّ يا عزيز، انصر المستضعَفين من عبادِكَ المؤمنين في فلسطين وغزة وفي كل مكان، اللهم ثبِّت قلوبَهم، قوِّ عزائمَهم، اربِط على صدورِهم، سلِّحهم بالصبرِ والإيمان، وأعلِ كلمتَهم، واجعل لهم من لدُنك فرجاً ونصراً قريباً. اللَّهُمَّ كُن لهم وليّاً ونصيراً، ومعيناً وظهيراً واحفَظِ النساءَ والأطفالَ والشيوخَ برعايتِك، وأجِرْهم من كيد المعتدين وبطش الظالمين، اللهم عجِّل لهم بالفرج، وبدِّد عنهم الكرب، واكتب لهم الغلبةَ والعاقبةَ الحسنة، يا ربَّ العالمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئنًا سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا، اللهم وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.

اللَّهُمَّ استرنا بسترك الجميل، واحفظنا بحفظك الجليل، واغمرنا بعفوِك الجزيل، ونجِّنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا الأمن والإيمان، والسلامة والإحسان. اللَّهُمَّ فرِّج الهم عن المهمومين، ونفِّس الكربَ عن المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا وعاف مبتلانا، وارحم والدينا، وارحم موتانا، واجعل لنا ولهم رحمةً ومغفرةً ونجاةً من عذاب القبر وعذاب الجحيم.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.