خطبة الجمعة.. الصبر على البلاء في مواجهة الفتن والأعداء

الصبر على البلاء في مواجهة الفتن والأعداء

فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان

4 ربيع الآخر 1447 هـ – 26 سبتمبر 2025 م

 

الحمدُ للهِ العليمِ الحكيم، يُجري الأقدارَ بحكمتِه، ويُنزِلُ البلاءَ برحمتِه، ويُعقِبُ الشدةَ بالفرجِ، ويُبدِّلُ العسرَ باليسر. نحمدُه سبحانه ونشكرُه على ما أولى من نعمٍ عظيمة، وما صرف من نِقَمٍ جسيمة، ونشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ أمر بالصبرِ عند البلاء، ووعد الصابرين بجزيلِ الجزاءِ والجزاءِ الأوفى، ونشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، الذين صبروا فارتفعوا، وثبتوا فنالوا من الله عز وجل الرضا والدرجات العُلى، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: إنَّ شدائدَ الزمان، وصُروفَ الليالي، ومِحنَ الأيام، وكلَّ ابتلاءٍ يُبتلى به العبدُ في دنياه، ما هي إلا مِحكٌّ يُختبر به إيمانُ المؤمنين، وميزانٌ يُعرف به صبرُ المحتسبين، وحُجّةٌ قائمةٌ على الساخطين. يقول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) وعلى قَدرِ ما يملِكُ العبدُ من إيمانٍ يكونُ نصيبُه من البلاءِ، وأشدُّ الناس ابتلاءً هم رُسُلُ اللهِ وأنبياؤه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم أجمعين؛ فما أكثرَ ما أوذوا في سبيلِ الله، وما أعظمَ ما لاقَوا من تجنٍّ وظلمٍ وافتراءٍ من أقوامِهم، فصبروا واحتسبوا، حتى صاروا أنوارًا يُهتدى بها، ورسموا بأفعالِهم معالِمَ الطريق للسالكين من بعدهم. فهذا نبيُّ الله أيوبُ عليه السلام ابتلاه ربُّه في جسدِه ومالِه وأهلِه سنينَ طويلة، فما زاده البلاءُ إلا صبرًا وتسليمًا، حتى فرّج اللهُ عنه وأثنى عليه بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

وهذا خليلُ الله إبراهيمُ عليه السلام أُلقي في النار فلم يتزلزل يقينُه، بل قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً. وهذا سيِّد الخلق محمد ﷺ فقد والده قبل مولده، ثم أمه في صغره، وفُجع بفقد أولاده وبناته وبعض أقربائه، ومع ذلك صبر واحتسب، وأوذي في مكة ورُمي بالكذب والسحر، وأُخرج من أحبِّ البلاد إليه، وضُرب وأُدمِي وجهه في أُحد، ومع ذلك كان صابراً محتسباً، يدعو لقومه بالهداية ويقول: (اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

فهم عليهم السلام قدوةُ الصابرين، ونبراسُ الممتحَنين في سبيل الله، قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)

والبلاء يا عباد الله يتنوع والمحن تتشكّل، والأرزاء تتلون؛ فمن الناس من يُبتلى بفقد الأحبة الذين كانوا له بعد الله عُدّةً وأعوانًا في الشدائد، من الآباء والأبناء، والإخوان والأقربين، والأصدقاء الخلّص والخلان المخلصين. ومن الناس من يُبتلى بتحوُّل النعمة إلى نقمة؛ فيفقد الغِنى بعد اليسار، ويذوق العُسرَ بعد الرخاء، ويُسقى مرارةَ ضَنك العيش وضيق الحيلة، بعد أن كان في رغدٍ من الحياة، ووفرةٍ في الرزق، وسَعةٍ في التدبير. ومنهم من يبتلى بكساد تجارته، أو فساد عشيرته، أو خراب بيته، أو جفوة أهله وتنكّر أقرب الناس إليه. ومنهم من يبتلى بالأمراض والأسقام التي تنغّص عليه عيشه، وتكدر عليه صفو أيامه، وتُقعد به عن بلوغ آماله ومبتغاه.

بل قد يكون البلاء بنقيض ذلك؛ فيُعطى العبد بسطةً في المال، ووجاهةً في المقام، ورفعةً في المنزلة، وسعةً في النفوذ، ومتاعًا من لذائذ الدنيا وزينتها، وقدرةً على إدراك غاياتها. قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)؛ فهو اختبارٌ وابتلاء، وإملاءٌ قد يكون استدراجاً، إذا كان العبد ممن يستعين بنعم الله على معصيته، فيُضيّع أمره، ويرتكب نواهيه. قال سبحانه: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ).

عباد الله: وأشرفُ ما يَعتصم به العبدُ المؤمنُ عند نزولِ البلاء أن يثبتَ على الصبرِ، ويستسلمَ لحكمِ ربِّ الأرضِ والسماء. فالصبرُ -كما قال العلماء- هو مِلاكُ الإيمانِ وزينةُ الإنسانِ، وهو سُلَّمُ المعالي ومَرقاةُ المكرمات. إليه تأوي القلوبُ فَتسكن، وبه تطمئنُّ الأرواحُ وتستريح، وفي رحابه يَستقرُّ الفؤادُ ويستظلُّ بجناب الرضا. وهو مقامٌ رفيعٌ من مقاماتِ الدين، ومنزلةٌ عاليةٌ من منازلِ السالكين، قد عظَّمه الإسلامُ وأشادَ بذكرِه القرآنُ، فجعل عليه الأجرَ الجزيلَ، وضاعف لأهلِه الحسنات؛ ليُحبِّبَه إلى النفوس، ويَغرسَ في القلوبِ حلاوتَه ولذَّته. فما من فضيلةٍ إلا والصبرُ عمادُها، وما من خُلُقٍ كريمٍ إلا وهو أساسُه ودعامتُه. فإن كان صبراً عن الشهوات سُمِّي عفَّةً، وإن كان على احتمال المكاره كان رضا وتسليماً، وإن كان على النِّعَم وضبط النفس سُمِّي شكراً وحكمةً، وإن كان في ميادين القتال كان شجاعةً وإقداماً، وإن كان أمام السَّفه والحمق كان حلماً ورزانة، وإن كان بكتمان الأسرار كان أمانةً ووفاءً، وإن كان عن فضول العيش وزوائد القول كان زهداً وصفاءً. فالصبرُ هو تاجُ الفضائلِ وواسطةُ العِقدِ بينها؛ بدونه يَغدو المرءُ في هذه الحياة ضعيفاً عاجزاً، لا يطيق حملَ أثقالها، ولا يجد حولاً ولا قوةً أمام ما يُثقله من محنِها ومصائبها. ففي الثباتِ أمامَ الابتلاءِ بالصبرِ والاحتسابِ خيرٌ عظيمٌ وفضلٌ جسيم، خصَّ اللهُ به المؤمنَ دون سواه، كما جاء في الحديث الصحيح قولُ النبيِّ ﷺ: عَجَباً لأمرِ المؤمنِ! إن أمرَهُ كلَّه له خير، وليسَ ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابتْه سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له.

وفي حديثٍ آخرَ قال ﷺ: (إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رَضِي فله الرضا، ومن سَخِط فله السخط). فمَن سلَّم قلبَه لقدرِ اللهِ الجاري، وقابلَ أقدارَه بالرِّضا والتسليم، كان جزاؤه رضوانَ اللهِ ورحمتَه.

وأما من قابَل البلاءَ بالتسخُّطِ والاعتراضِ على ما قدَّره الحكيمُ العليمُ من محنٍ ونكباتٍ، وضيقٍ وعناءٍ؛ فإن مآلَه إلى سخطِ اللهِ، جزاءً له على سوءِ ظنِّه بربِّه، ونقصِ يقينه بقضائه. وقد بشَّر النبيُّ ﷺ عبادَ اللهِ الصابرين بقوله في الحديث الصحيح: (ومن يتصبَّرْ يُصبِّرْهُ الله)؛ أي من حملَ نفسَه على الصبرِ ودرَّبها عليه، أعانه اللهُ جلَّ جلالُه، وثبَّتَ فؤادَه، وقوَّى عزمَه، حتى يخرجَ من البلاءِ برضاً وطمأنينةٍ، وأجرٍ عظيمٍ لا يبلغه إلا الصابرون.

أيها المؤمنون والمؤمنات: وإنَّ مما يُعزِّي النفوسَ عند نزولِ الشدائدِ، ويُخفِّفُ عنها ثِقَلَ النكباتِ والمصائبِ، أن تستضيءَ بضياءِ الأملِ في فرجِ اللهِ القريب، وتستندَ إلى الثقةِ برحمتِه وعدلِه؛ فهو سبحانه أرحمُ الراحمين، ومن تمام رحمتِه بعبادِه أنه لا يَصُبُّ عليهم البلاءَ صبًّا، ولا يُتابِعُ عليهم النوائبَ تِباعًا، بل يُعقِبُ الشدَّةَ بالرخاءِ، ويجعلُ بعد الضيقِ سَعَةً، وبعد المحنةِ منحةً، وبعد البلاءِ رحمةً ونِعمةً. وقد قال جلَّ وعلا: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، فكرَّرَ اليسرَ بعد العسرِ مرتين، ليُثبِّتَ في القلوبِ أنَّ عُسرًا واحدًا لا يغلبُ يُسرَين، وأنه حيثما حلَّ العسرُ بجميعِ صُوَرِه ودروبِه، فإنَّ اليسرَ قريبٌ يُنفِّسُ الكُرْبةَ، ويجبرُ الكسرَ، ويُواسي الجراحَ، ويُذهِبُ الأحزانَ.

وما أعظمَ حالَ المؤمنِ إذا لجأ في شدَّتهِ إلى ربِّه، ورفعَ أكُفَّه يسأله الفرجَ بعد الكربِ، والرَّخاءَ بعد الضيقِ، والسرورَ بعد الهمِّ والحزنِ! ففي الحديث الشريف: (ما أصاب عبداً همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدُك وابنُ عبدِك وابنُ أمتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك اللهمَّ بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفسَك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندك، أن تجعل القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حزني، وذهابَ همِّي، إلا أذهب الله همَّه، وأبدله مكانه فرحًا)

فاتقوا اللهَ -عبادَ الله- وإيَّاكم واليأسَ من روحِ الله؛ فإنَّ الفرجَ قريبٌ من الرحمنِ الرحيم، وما الشدائدُ والابتلاءاتُ إلا سُلَّمٌ إلى رفعةِ الدرجات، وخطوةٌ إلى تحسُّنِ الأحوال، وقَفزةٌ إلى رَخاءِ العيشِ وبلوغِ الآمال، مع ما فيها من تمحيصٍ للذنوبِ، وتكفيرٍ للسيئاتِ، ورفعةٍ في الدرجات –بإذن الله–. وتذكَّروا دائمًا قولَ الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، وقوله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادِكَ الصابرين المحتسبين، الراضين بقضائِكَ، المؤمنين بحكمتِكَ، المُسَلِّمين لأمرِكَ. اللَّهُمَّ ثبِّت قلوبَنا عند الشدائد، وألهمنا في البلاء حسنَ الصبرِ وجميلَ الاحتساب يا سميع الدعاء.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمدُ للهِ الحكيمِ العليم، الذي يبتلي عبادَه ليطهِّر قلوبَهم، ويرفعَ درجاتِهم، ويُمحِّصَ صفوفَهم، نحمدُه سبحانه على قضائِه وقدَرِه، ونستعينُه على شدائدِ الزمانِ ومحنِ الأيام، ونشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ونشهد أن سيِّدَنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه، ضربَ أروعَ المثلِ في الصبرِ على البلاء، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إنّ ما حلَّ بأهلنا وإخواننا في فلسطين والقدس الشريف والضفة الغربية، وغزّة الجريحة من ابتلاءاتٍ ومحنٍ، وما نزل بساحتهم من ظلمٍ وعدوانٍ، لَيُعَدُّ من أعظم الفواجع وأشدّ المصائب. دماءٌ بريئةٌ تُراق، وبيوتٌ عامرةٌ تُهدَّم فوق ساكنيها، وأرواحٌ تُزهق بغير ذنبٍ ولا جريرة، وأطفالٌ يُيَتَّمون في عمر الزهور، ونساءٌ يُرَمَّلن، وشيوخٌ يُشرَّدون. وأسر تهجر قسراً، إنها ليست أحداثًا عابرة ولا اعتداءاتٍ محدودة، بل مجازرُ وحشية، وإبادةٌ جماعية تُرتكب بحق شعبٍ أعزل، على مرأى ومسمعٍ من العالم، والعالم ـ بكل مؤسساته وقواه ـ يقف متفرجًا صامتًا، أو متواطئًا عاجزًا، وكأن الضمائر قد ماتت، والإنسانية قد فقدت معناها. إنها مشاهد مؤلمة، تقشعر لها الأبدان، وتتفطر لها القلوب، وتذرف العيونُ لها مدامعَ الحزن والأسى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومع ذلك ترى أهل فلسطين، واقفين شامخين صامدين، لا يلينون ولا ينكسرون، بل يرفعون راية الصبر والإيمان، كأنهم يترجمون قول الله تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً) لقد كتب الله تعالى على هذه الأمة أن تُبتلى، وأن يختبرها في دينها ودنياها، ليُميز الخبيث من الطيب، وليُظهر معادن الرجال، وليجعل من صبر المظلومين مناراتٍ للأمة كلها. وها هم أهل غزّة اليوم يعطون درساً بليغًا في الثبات، يروون الأرض بدمائهم، ويزرعون الأمل في قلوب المسلمين جميعاً برباطهم وصبرهم، وهم يردّدون في يقين: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)

أيها المؤمنون: إنّ حاجتَهم اليوم إلى الصبرِ والثبات ليستْ خياراً عابراً، بل هي سبيلُ نجاتِهم، وسلاحُهم الأقوى في وجهِ المعتدين. فالصبرُ هو زادُهم حينَ تنقطعُ الأرزاق، ويتخلى عنهم القريب والبعيد، وهو قوّتُهم حينَ تتساقطُ القذائف، وهو عزاؤُهم حينَ يرحلُ الأحبّةُ وتفقدُ الأمهاتُ أبناءَها. وما أجملَ أن يوقنوا أنّ اللهَ سبحانه قريبٌ منهم، يسمعُ أنينَهم، ويرى دموعَهم، ويعلمُ جراحَهم، ولن يُضَيِّعَ أجرَ صابرٍ منهم، فقد قال جلّ شأنه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، لَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) وقد وعد الله الصابرين بأعظم الجزاء، فقال سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (ما يُصيبُ المسلمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ حتى الشَّوْكَةِ يُشاكُها، إلا كفَّرَ اللهُ بها من خَطاياهُ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: إنَّ العاقبة ـ لا ريب للمظلومين، فالله تعالى يمهل ولا يهمل، وقد قضى بحكمه وعدله أن الباطلَ إلى زوال، وأن الحقَّ هو الباقي. وقد قال النبي ﷺ: (اتَّقوا دَعوةَ المظلومِ، فإنَّه ليسَ بينها وبينَ اللَّهِ حِجابٌ) فكيف إذا اجتمعت دعواتُ الملايين من المستضعفين، وصرخاتُ الأطفال والنساء والشيوخ في وقتٍ واحد؟ ألا يكون نصرُ الله أقربَ من لمح البصر، وفجرُ الحرية أزفَ من كلّ متوقع؟

فلنكن مع أهلنا في غزّة بالدعاءِ والصدقةِ والمساندةِ بكلّ وسيلةٍ مشروعة، ولنثبُت كما ثبَتوا، ولنستيقن أن كلَّ دمعةِ يتيمٍ، وزفرةِ ثكلى، وصَرخةِ مظلومٍ ستُرفع إلى السماء، وسيُجيبها ربُّ العرشِ سبحانه وعداً حقًّاً، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) اللَّهُمَّ يا ناصرَ المستضعَفين، ويا جابرَ قلوبِ المنكسرين، ويا قَوِيُّ يا متين، انصُر إخوانَنا المظلومين المُبتَلَين في غزَّةَ نصراً مؤزَّراً، وعِزًّا ظاهراً، وفرجاً قريباً.

اللَّهُمَّ كُن لهم وليًّا وحافِظاً، ومُعِيناً وناصِراً،

اجبُرْ كَسرَهُم، وآوِ شَتاتَهُم، وارحَمْ شُهَدَاءَهُم، واشْفِ جَرحاهُم، وأغْنِ فَقيرَهُم، وثَبِّتْ أقدامَهُم، وفك الحصار عنهم، وأنْزِلْ عليهمُ السَّكِينَةَ والطُّمأنِينَةَ يا رَحيمُ يا رَحمنُ.

اللَّهُمَّ لا تُؤاخِذْنا بتَقصيرِنا في نُصرتِهِم، ولا تُعاقِبْنا على ضَعفِنا وتخاذُلِنا، واغفِرْ لنا عَجزَنا، واغسِلْ بالتَّوبَةِ والرَّحمَةِ تَقصيرَنا، واجعَلْ لنا في نُصرتِهِم نَصيبًا منَ الدُّعاءِ، ونَصيبًا منَ العَمَلِ، ونَصيبًا منَ الأجرِ والثَّوابِ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا، اللهم وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.

اللَّهُمَّ استرنا بسترك الجميل، واحفظنا بحفظك الجليل، واغمرنا بعفوِك الجزيل، ونجِّنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا الأمن، والإيمان، والسلامة، والإحسان. اللَّهُمَّ فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا وعاف مبتلانا وارحم والدينا، وارحم موتانا، واجعل لنا ولهم رحمةً ومغفرةً ونجاةً من عذاب القبر وعذاب الجحيم.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).