الحذر سلاح المؤمن في مواجهة الفتن والأعداء
فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان
27 ربيع الأول 1447 هـ – 19 سبتمبر 2025 م
الحمدُ للهِ العزيزِ الحكيم، الذي أمرَ عبادَهُ بالأخذِ بالأسباب، وحثَّهم على الحذرِ واليقظةِ من مكايدِ الأعداء، فقال جلَّ في علاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)، نحمدُه سبحانه ونشكرُه، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشرَ المسلمين: إنَّ الدُّنيا كلَّها مَدرسَةٌ مفتوحة لأُولي العُقول والألباب، يتأمَّلون أحداثَها ويقفون على حوادثِها فيستخرجون منها الدروسَ والعِبَرَ، ويجعلونها مَصابيحَ تهديهم في مَسالِكِ الحياة. فمن حَظِيَ بالبصيرةِ، انتفع بأيامه وساعاته، فازدادت حياتُه نوراً على نور، ومن عاش في غَفلةٍ عن العِبَرِ والاعتبار، ضيَّع عمرَه، ولن يجد بعد مماته سبيلاً إلى انتفاعٍ ولا ازدياد. وقد صدق من قال: الحِكمةُ ضالَّةُ المؤمن، أنَّى وجدها التقطها، وبها انتفع... وإنَّ من أصول العيش الرشيد، ومبادئ السَّير السَّديد في هذه الحياة: أن يأخذَ المرءُ بأسباب الحيطة والحذر، وأن يركب مطيَّةَ اليقظة والانتباه، وألَّا يسترسل مع غفلةٍ ولا استهانة؛ فإنَّ من ترك الاستعداد، وأهمل التأهُّب، باغتته المكاره من حيث لا يحتسب، وأُتِيَ من مأمنه، إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى.
فإن قال قائلٌ: أليس الحذر لا يردُّ القدر؟ قيل له: بلى، إن القدر نافذ، ولكن الله تعالى أمرَنا أن نأخذ بالأسباب، وأن نجعل الحذر جُنَّةً من جُنَنِه، فإذا جاء قدرُه كان فوق الأسباب، قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ). ومن يتدبَّر كتابَ الله يجد أنَّ الحذرَ مبدأٌ أصيل في نصوصه، فقد حذَّرنا سبحانه من عقابه فقال: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)، وحذَّرنا من مخالفة أمره فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). والمؤمن الصادق حين يسمع هذا الوعيد، يرتجف قلبُه، وتخشع نفسُه، فيُقبِل على ربِّه قانتًا بالليل ساجدًا وقائمًا، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه، كما قال تعالى:
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).ولم يقتصر التحذيرُ على أمر الدِّين والنفس، بل امتدَّ إلى واقع الأمَّة وأعدائها، فقال جلَّ شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً).فالحذرُ من الأعداء المتربصين فريضةٌ لا غِنى عنها، وضرورةٌ لا يُستغنى عنها؛ فلا ننخدع بوعودٍ براقة، ولا بشعاراتٍ خادعة، ولا بكلماتٍ منمَّقةٍ ظاهرُها الرحمة وباطنُها المكر والخداع، بل نعتصمُ بوحدتنا، ونلوذُ بطاعة ربِّنا، ثم نسمعُ ونطيع لولاة أمرنا فيما يُرضي الله. فباجتماع الكلمة، وتماسك الصف، تُحفظ الديار، وتُصان الحُرُمات، ويُرَدُّ كيدُ كل معتدٍ طامع. أيها المسلمون: إن المتأمل في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن رسول الله قد أخذ بالحذر في أحوال متعددة: ففي بداية الإسلام كان الرسول ﷺ وأصحابه يُخفون أمرهم، ويجتمعون سرًّا لعبادة الله وتلاوة القرآن، حتى إذا اشتد الأذى هاجر ﷺ ليلاً وكمن في الغار أياماً حتى ينقطع الطلب. وحين وصل المدينة، وكان يعلم خبث بعض الطوائف المحيطة ومكرها، أقام معهم المعاهدات ليأمن جانبهم، وكان ﷺ يتخذ الحذر من تربص قريش به، فلا يبيت إلا محروساً. حتى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جاء يحرسه ذات ليلة، فنام النبي ﷺ مطمئنًّا. ثم لما نزل قول الله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، صرف النبي ﷺ الحراس وقال: (انصرفوا فقد عصمني الله).
ومن تمام حذر النبي ﷺ: أنه كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها؛ خشية أن يطّلع الأعداء على وجهته فيكمنوا له ويعوقوا مسيره. ولما نالته خديعةٌ في طعامٍ قُدِّم إليه، صار بعد ذلك لا يقبل طعاماً من أحدٍ يُخشى أمره حتى يذوق منه صاحبه أولاً.
عباد الله: وممّا حذَّر منه النبيُّ ﷺ أمّتَه تحذيراً شديداً: خطرُ المنافقين وفتنتُهم، لِما يُضمرونه من الشرّ ويُظهرونه من الزَّيف، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إن أخوفَ ما أخافُ عليكم بعدي كلُّ منافقٍ عليمٍ باللسان)، يتزيّن بحلاوة القول، ويُظهر براعة البيان، لكن قلبَه ممتلئٌ غشًّا وخداعًا. وقد وصفهم الله تعالى في كتابه أوضح وصف فقال: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ)
فالمنافق متلوّن، يُعطيك من طرف لسانه حلاوةً، فإذا خلوتَ به انقلب عليك مكراً وخداعاً، يروغ كما يروغ الثعلب، يَسحر العيون بالكلام المعسول، ويُفسد القلوب بما يُخفيه من الداء الدَّخيل.
أيها المسلمون: وحذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه من أهل الأهواء والانحرافات، الذين يبتغون إضلال الناس بالشبهات، كما روت أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) ثم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله، فاحذروهم)... عباد الله: وحذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمته من الدجال، وهو أعظمُ فتنةٍ تقع على وجه الأرض، فقال: (إني لأنذركموه، ما من نبي إلا وقد أنذره قومه). ومعناه أن جميع الأنبياء قد حذّروا أقوامهم من خطره، لما فيه من البلاء العظيم، إذ يُظهر خوارق تَلتبس على ضعاف الإيمان، فيدّعي الربوبية ويغوي الناس. فجاء تحذير النبي ﷺ تنبيهاً للأمة لتستعد بالإيمان الراسخ، والعلم النافع، واليقين الثابت، وألا تنخدع بمظاهر باطلة، وأن تتمسّك بالحق حتى يقيها الله شرَّ فتنته. وهناك أشياء أخرى كثيرة حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون: إنّ الواقع الذي نعيشه اليوم بما فيه من فتنٍ ومحنٍ ومصاعب، يفرض على المسلم أن يكون حذِراً، يقِظاً، شديد الحرص على دينه، ونفسه، وأهله، وأولاده، وعلى جماعة المسلمين من حوله. فالزمان زمنُ فتنٍ، واللسانُ مزلةٌ خطيرة، فليحذر المرء أن يتفوه بكلمة باطل، أو يطلق لسانه بما لا ينفعه في دنياه ولا في أخراه؛ فكلمةٌ واحدة قد تهوي بصاحبها في مهاوي الردى، ولو أنه سكت لكان في عافية وسلامة. وكذلك عليه أن يتجنب التشاؤم واليأس في أوقات الأزمات والشدائد؛ فإن البلاء مهما اشتدَّ لا بد أن يعقبه الفرج، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾، وما عظمت الشدائد إلا لتتهيأ أسباب انفراجها. ومن الواجب على المسلم أن يحذر إيذاء إخوانه المسلمين بقولٍ أو فعل، صغيراً كان أو كبيراً؛ فإن الله تعالى قال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً). بل إنَّ الإسلامَ حذَّرَ من الأذى اليسير، ولو كان بغير قصد، كالرائحةِ الكريهةِ الناشئةِ عن أكلِ الثومِ والبصل، فنهى النبيُّ ﷺ آكلَهما عن دخولِ المسجد؛ لأنَّ الملائكةَ تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم. كما بشَّر ﷺ مَن أزالَ الأذى عن طريقِ المسلمين بالجنة، كرجلٍ نحّى غُصنَ شجرةٍ عن الطريق. فانظروا كيف رفع الإسلام شأن من دفع عن الناس الأذى، ولو كان غصن شجرة على طريقهم! ولذلك قال يحيى بن معاذ رحمه الله كلمةً جامعة: (ليكن حظ المسلم منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تحزنه، وإن لم تمدحه فلا تذمه). وجاء رجل عالم ناصحٌ إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: (اجعل كبير المسلمين عندك أباً، وصغيرهم ابناً، وأوسطهم أخاً؛ فأيّ أولئك تحب أن تسيء إليه؟». فكانت وصيةً بليغة تُبيّن عظمة حرمة المسلم، ووجوب توقيره ورعاية حقه.
أيها المسلمون: وكما أنّ على المسلم أن يحذر على دينه ونفسه وأهله وأولاده وسائر إخوانه المؤمنين، فإنّ من واجبه أيضاً أن يحذر على بلاده ووطنه، الذي باستقراره يهنأ ويستقر، وباضطرابه يضطرب ويضيع أمنه ومعاشه. فليحذر المسلم الفوضى، وليبتعد عن كل ما يؤدي إلى ترويع الآمنين، أو تخريب المصالح العامة والخاصة، فإن الله تعالى قد حكم عدلاً فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
فاجتمعوا – رحمكم الله – على كلمة سواء، وتآزروا وتناصروا في الملمات، فإن الاجتماع رحمة، والفرقة نقمة. فالاعتصام بالوحدة قوة، والافتراق ضعف وهوان.
اللَّهُمَّ اجعلنا من المتبصرين، الآخذين بالأسباب، المتوكلين عليك، وألِّف بين قلوبنا، ووحِّد صفوفنا، واصرف عنّا الفتن والضعف والخلاف، واجعل اجتماعنا رحمة، ولا تجعل فينا شقيًّا ولا محرومًا.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ العليمِ الحكيم، أمرَ عبادَهُ بالأخذِ بالأسباب، وجعلَ الحذرَ وقايةً من المَخاوفِ والكُرُوب، ونشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، ونشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ وسلم عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون: لقد أفلح من أخذ بالحذر، فكان يقظاً في دنياه، حافظاً لنفسه من موارد الهلكات بفضل الله وقدره. وسيرة رسول الله ﷺ شاهدة على أن التوكل الحق لا ينفك عن الأخذ بالأسباب والحذر من مواقع الخطر. أما الغافلون عن ذلك، فلا يحصدون إلا الخيبة والندامة بعد فوات الأوان. وقد رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّاً رَبَّى ذِئْباً صَغِيراً (جرواً) بَيْنَ غَنَمِهِ، وَسَقَاهُ مِنْ لَبَنِ شَاةٍ عِنْدَهُ، وَظَنَّ أَنَّ الذِّئْبَ سَيَأْلَفُ الشَّاةَ وَيَحْفَظَهَا، فَلَمَّا كَبِرَ وَاشْتَدَّ عوده هَجَمَ عَلَيْهَا وَافْتَرَسَهَا. وبقر بطنها فأنشد الأعرابي قائلاً:
بقَرْتَ شُوَيَّهَتي وفَجَعْتَ قَوْمي
وأَنْتَ لِشاتِنا ابْنٌ رَبيبُ
نَشَأْتَ مَعَ السِّخَالِ وأَنْتَ جَرْوٌ
فَما أَدْراكَ أَنَّ أَباكَ ذِيبُ
إذا كانَ الطِّباعُ طِباعَ سُوءٍ
فَلا أدَبٌ يُفيدُ ولا أديبُ
أيها المؤمنون: لقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشدّ الناس حذراً ويقظة، صاحب فراسة صادقة ونظر ثاقب، وصدق فيه قول النبي ﷺ: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) فكان رضي الله عنه يتحسّب للأمور قبل وقوعها، ويزن الرجال بميزان العدل والحق. ومع ذلك، فإن القضاء إذا جاء لم يغنِ عنه حذر ولا احتياط، إذ الأمر كله بيد الله.
ومن شواهد ذلك أن عمر رضي الله عنه كان شديد التحفظ على المدينة، يمنع دخول من يُخشى شرّه، حرصاً على دار الهجرة وأمن المسلمين. غير أنّ الأقدار ساقَت رجلاً من الأعداء كان يضمر حقداً دفيناً في قلبه، فأظهر الطاعة وأخفى البغضاء، حتى إذا آن أوان غدره تربص لعمر رضي الله عنه في صلاة الفجر، وقد أعدّ خنجراً مسموماً ذا رأسين. فما إن كبر عمر للصلاة حتى وثب عليه العدو اللدود، وطعنه طعنات غادرة، أصابته إصابات قاتلة، ثم اندفع يطعن من حوله من المصلين، حتى قتل عدداً وجرح آخرين، ثم ألقى بنفسه إلى الهلاك. عندها علم المسلمون أن فراسة عمر وحذره كانا في محلّهما، وأن المؤمن مهما أخذ بالأسباب، فإن قضاء الله ماضٍ لا يرده حذر ولا يُغني عنه احتياط. وهكذا رحل عمر رضي الله عنه شهيداً مظلوماً، مضرجاً بدمه وهو قائم يصلي لله تعالى.
عباد الله: الحذر خُلُق عظيم، ومقام رفيع، لا يُستغنى عنه في مسيرة الحياة، غير أنه لا بد أن يكون مضبوطاً بميزان الشرع والحكمة، بعيداً عن الإفراط والتفريط. فالإفراط في الحذر يورث الوسوسة وسوء الظن بالناس، حتى يُغلق القلب، وتضطرب النفس، ويُحال بين العبد وبين الطمأنينة. والتفريط فيه قد يجرّ إلى الغفلة والتهاون، فيُؤتى المرء من مأمنه ويقع في موارد الهلكة. ولهذا ينبغي أن يكون الحذر وسطاً بين طرفين: فلا يبلغ بالمرء حدَّ الوسوسة والريبة المذمومة. ولا يحمله على ترك واجبٍ أو اقتراف محرمٍ بحجة الاحتياط.
ولا يوصله إلى قطيعة الرحم أو التفريط في روابط الأخوة التي أمر الله تعالى بها، إلا إذا قامت حجةٌ بينة على وجود مفسدةٍ محققة وضررٍ بيّن. والموفق حقاً هو من جمع بين أمرين متلازمين: أخذ الأسباب المشروعة التي أمر الله بها، والتوكل الصادق على رب العالمين. فإذا فعل ذلك اطمأن قلبه، وسكنت جوارحه، ونجا من موارد الخوف والاضطراب، فصار في حصانةٍ من أمر الله عز وجل وفي أمنٍ من تقلبات الزمان، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِمَّنْ خافَكَ فاتَّقاكَ، ورَجاكَ فاهتَدى بِهُداكَ، واغفِرْ لَنا زَلَلَنا وخَطايانا، وَلا تَجعَلْنا مِمَّنْ أَعرَضَ عَنْ أمْرِكَ فَأَحاطَتْ بِهِ خَطاياَهُ، فَنالَتْهُ فِتْنَةٌ أَوْ أَدْرَكَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِنَ الْفِتَنِ وَمَهَالِكِهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُتَبَصِّرِينَ الَّذِينَ يَسْلَمُونَ بِحَذَرِهِمْ وَيَنْجُونَ بِيَقِينِهِمْ. اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ أَعْدَائِنَا، وَاصْرِفْ عَنَّا كَيْدَهُمْ، وَاجْعَلْ حَذَرَنَا مِنْهُمْ سَبَبًا لِنَجَاتِنَا، وَاجْمَعْ كَلِمَتَنَا فَتَكُونَ سَدًّا مَنِيعًا أَمَامَ كُلِّ طَامِعٍ وَمُعْتَدٍ.
اللَّهُمَّ قِنَا شُرُورَ أَنْفُسِنَا، وَاهْدِنَا لِمَا فِيهِ صَلاَحُنَا، وَاجْعَلْ حَذَرَنَا مِنْ ذُنُوبِنَا سَبَبًا لِتَوْبَتِنَا وَقُرْبِنَا مِنْكَ.
اللَّهُمَّ لا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.
اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا، اللهم وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يا ناصِرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَيا جابِرَ الْمُنْكَسِرِينَ، وَيا قَوِيُّ يا عَزِيزُ، يا مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، نَسْأَلُكَ أَنْ تُفَرِّجَ عَنْ أَهْلِنَا فِي غَزَّةَ كَرْبَهُمْ، وَتُنَفِّسَ عَنْهُمْ هَمَّهُمْ، وَتُؤَمِّنَ خَوْفَهُمْ، وَتَسْكُبَ عَلَيْهِمْ مِنْ رَحْمَتِكَ وَلُطْفِكَ مَا تُثَبِّتُ بِهِ قُلُوبَهُمْ، وَتَشُدُّ بِهِ أَزْرَهُمْ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا تَقْصِيرَنَا فِي حَقِّهِمْ، وَعَجْزَنَا عَنْ نُصْرَتِهِمْ، وَخُذْلانَنَا لَهُمْ، وَلَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَرَّطْنَا، فَأَنْتَ تَعْلَمُ حالَنَا وَضَعْفَنَا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ دُعَاءَنَا لَهُمْ نَصْراً، وَقُلُوبَنَا مَعَهُمْ سَنَداً، وَأَعْمَالَنَا سَبَباً لِرِفْعَةِ شَأْنِهِمْ. اللَّهُمَّ كُنْ لَهُمْ عَوْناً وَمُعِيناً، وَناصِراً وَحافِظاً، وَامْلَأْ قُلُوبَهُمْ صَبْراً وَيَقِيناً، وَارْزُقْهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ. اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَمْلِكُ لَهُمْ إِلَّا الدُّعَاءَ، فَأَنْتَ الْمُجِيبُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعَاءَنَا، وَلَا تَرُدَّنَا خَائِبِينَ، وَأَبْدِلْهُمْ بَعْدَ خَوْفِهِمْ أَمْناً، وَبَعْدَ ذُلِّهِمْ عِزّاً، وَبَعْدَ جِرَاحِهِمْ شِفَاءً، وَبَعْدَ بَلَائِهِمْ فَرَجاً قَرِيباً.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبنا، ونفِّس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وارحم والدينا وذوي الحقوق علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)