وجوب التمسك بالأخوة الإسلامية

الجمعة 23 محرم 1442 هـ

الموافق 11 سبتمبر 2020 م

الحمد لله الذي جعل المؤمنين أخوة في الإيمان، وشبههم في دعم بعضهم بعضاً بالبنيان، وشرع لهم من الأسباب ما تقوم به تلك الأخوة وتستمر على مدى الزمان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الإلوهية والأسماء والصفات والسلطان، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى جميع الإنس والجان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: هناك رابطةً بين الناس هي أعظم رابطةٍ على وجه الأرض، وهي التي تبقى إذا ذهبت بقية الروابط والصلات، سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، إنها رابطة الأخوة بين المسلمين، وهي وإن كانت تبدأ في الدنيا، فإنها تستمر في الآخرة بخلاف غيرها؛ كما قال تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)

أوَلا ترون عباد الله أن الله حرم التهاجر والتدابر بين المسلمين حفاظاً على هذه الأخوة، فإن تخاصم المسلمان فلهما فسحة من الوقت بقدر ما يكفي لبرود نار الغضب، وزوال حمى الخلاف وذلك ثلاثة أيام فقط، ثم يحرم على كل منها أن يهجر أخاه، ويدخلا جميعاً في حيز الإثم، ودائرة المعصية حتى إن أعمالهما لتحبس فلا تعرض على الله سبحانه لأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، ويُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) وقال عليه الصلاة والسلام: تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِى كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً إِلاَّ امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أنظروا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أنظروا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)..

عباد الله: والأخوة بين المسلمين، ليست شعاراً يردد أو قصة تحكى، أو كلاماً يُقال.. بل هي دين وعبادة يقوم به المسلم طلباً لمرضاة الله عز وجل، وطمعاً لما عنده من أجر ومثوبة، وهي رابطة حب وتعاون وتراحم وتسامح وبذل وعطاء وإيثار بين المسلم وأخيه المسلم لا تقوم على أساس النسب أو القرابة والطائفة والمذهب أو الحزب أو الجماعة أو البلاد والقبيلة والعشيرة، بل أساسها الإيمان بالله، فالمسلم أخو المسلم في أي بلاد ومكان..

في أي عصر وزمان، يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وبها امتن الله على عباده فقال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

بل جعل الإسلام الأخوة وسيلة لاكتساب حلاوة الإيمان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) وهي طريق المؤمنين وسبيلهم إلى الجنة يقول صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) وبسببها ينال الفرد الدرجات العالية في الجنة، فعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ قَالُوا: فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ إِذ قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعدِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، قَالَ: وَفِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيُّ، فَقَامَ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَى بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَأَيْتُ في وَجْه رَسُولِ اللَّهِ ﷺ البشر، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى، وَقَبَائِلَ شَتَّى مِنْ شُعُوبِ أَرْحَامِ الْقَبَائِلِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا لِلَّهِ، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا، يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُوراً، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن من الإيمانِ أن يحبَّ الرجلُ الرجلَ ليس بينهما نسبٌ قريبٌ، ولا مالٌ أعطاه إياه، ولا محبةٌ إلا للهِ عز وجل) بل لا يكتمل إيمانك ولا يستقيم إسلامك حتى تحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك.. يقول صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ)

أيها المؤمنون: لقد أينعت هذه الأخوة بين المسلمين قديماً وآتت أكلها أضعافاً مضاعفة، فأوجدت أمة قوية متماسكة متراحمة تنعم بالأمن والأمان والحب والتعاون، وأثمرت هذه الأخوة نصراً وتمكيناً لهذه الأمة، وفتح الله لها قلوب البلاد والعباد ونصرها على

أعدائها، وكان المسلمون بها أمة واحدة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فكانوا قوة يوم اعتصموا بحبل الله المتين، فنبذوا  كل ما يفرّق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات وطائفيات وحزبيات ونَعَرَات جاهلية وأطماع دنيوية، وتحصنوا بهذه الأخوة من مكر الأعداء وتخطيطهم لضرب الإسلام والوقيعة بين المسلمين وإثارة الخلافات والنعرات والطائفيات بينهم… مَرَّ رجل من خصوم المسلمين بِمَلَأٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَسَاءَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاتِّفَاقِ والألْفَة، فَبَعَثَ رَجُلًا مَعَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِهِمْ يَوْمَ بُعَاث وَتِلْكَ الْحُرُوبِ، فَفَعَلَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دأبُه حَتَّى حَمِيَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ وَغَضِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَثَاوَرُوا، وَنَادَوْا بِشِعَارِهِمْ وَطَلَبُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَتَوَاعَدُوا إِلَى الْحَرَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يُسكِّنهم وَيَقُولُ: (أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟ وَتَلَا عَلَيْهِمْ قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَاصْطَلَحُوا وَتَعَانَقُوا، وَأَلْقَوُا السِّلَاحَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جميعاً.

فما أحوجنا يا عباد الله إلى هذه الأخوة فيما بيننا اليوم.. فقد قست القلوب، وظهرت الشحناء والبغضاء، وحلت العداوات، وقامت الصراعات، إلا من رحم الله، واستطال المسلم في عرض أخيه المسلم، وظهرت القطيعة والخصومات في أوساط المجتمع المسلم وبين أفراده على أتفه الأسباب.. ما أحوجنا إلى هذه الأخوة لترتوي قلوبنا بالإيمان والحب والتعاون والتسامح.. ما أحوجنا إلى هذه الأخوة لتتنزل علينا الرحمات، ويرضى عنا رب الأرض والسماوات، وحتى لا نخسر ديننا ودنيانا وآخرتنا..

لقد أصبحنا نبحث عن الأخوة في قلوبنا التي تحولت بسبب غفلتنا وتقصيرنا إلى صحراء قاحلة، فلا نجد إلا سراباً خادعاً وشعارات زائفة بعيدة عن الحقيقة ندّعي الحب والتراحم والأخوة والنصح وإرادة الخير لبعضنا البعض ولمن حولنا… ولكن القول والادعاء في وادٍ والممارسة والسلوك والمعاملة في وادٍ آخـر حتى أصبحنا أضحوكة العالم ومثار لسخرية الشعوب حولنا، فنحن أمة الإسلام أمة القرآن، الأمة الواحدة بدينها وعباداتها، وشعارها وقبلتها، وعاداتها وأخلاقها، الأمة التي أمرها ربها سبحانه بالأخوة والوحدة والاعتصام، أصبح بأسها بينها شديداً، وأصبح لا يطيق بعضها بعضاً بسبب خلافات تافهة وأطماع شيطانية، ونوازع خبيثة ليست من الدين في شيء… وفي الغرب أو الشرق في بلاد غير المسلمين، يتعايش أصحاب الملل والديانات ومن ليس له دين، يعيشون في عمارة واحدة وفي حارة ومدينة وبلد واحد، يحتكمون إلى القانون جميعاً، ويعملون من أجل الوطن الذي يعيشون فيه، وليس بينهم لا دين ولا أخوة ولا قرابة.. ونحن ضاقت على كثير منا الأرض بما رحبت، وخبثت النفوس، وساءت الأعمال، ونسي الدين والآخرة ولقاء الله، وتركنا الكثير من تعاليم ديننا،  فأنزل الله عقوبته علينا جميعاً حتى نعود إلى الحق والخير الذي أمرنا به، يقول تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) ويقول تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) فلنعد عباد الله جميعاً إلى مظلة الإيمان، وبستان الأخوة؛ لنقطف من ثمار المحبة ونغترف من ينبوع السعادة، ولنحذر وساوس الشيطان ونزغاته، ولنستقيم على أمر الله، ونتبع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كل أمورنا فهو القائل:(لَا تَحَاسَدُوا، ولَا تَنَاجَشُوا، ولَا تَبَاغَضُوا، ولَا تَدَابَرُوا، ولَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، ولَا يَخْذُلُهُ، ولَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، ومَالُهُ، وعِرْضُهُ)

أيها المؤمنون:للأخوة حقوق وواجبات ينبغي للمسلم أن يقوم بها تجاه إخوانه، في كل مكان، فرابط الدين ووشيجة الإيمان أعظم من أي رابط، وهذه الحقوق منها ما ذكره الله في كتابه، ومنها ما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته.. والقيام بها من الواجبات وليست من باب الفضل من أحد على أحد ولكنها من الدين الذي أمرنا بإقامته… وإن من أعظم هذه الحقوق والواجبات: سلامة الصدر لإخوانك المؤمنين.. فلا تحمل حقداً ولا حسداً ولا بغضاء ولا شحناء ولا عداوة ولا غلاً، فقد امتن الله على أصحاب الجنة بتصفية قلوبهم من هذه الأمراض، فقال تعالى:(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ

وقال سبحانه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) وصح في الحديث أنه قيل: يا رسول الله أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ. قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ) وقال سفيان بن دينار أحد علماء السلف رحمه الله: قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً،  قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم.

عبـاد الله: كم قضت الأحقاد والضغائن في القلوب على علاقات! وكم خربت من بيوت! وكم تمكنت من صدور فحولتها إلى خصومة مع الآخرين! وكم بسببها حدثت من مشاكل وخلافات وصراعات وسوء ظن، وفقد المسلم الثقة بأخيه وجاره المسلم، وضاقت قلوب الناس على بعضهم البعض، بل ضاقت بهم الأوطان المترامية الأطراف ببحارها وأنهارها، وجبالها وصحرائها، وسهولها ووديانها.. فعودوا عباد الله إلى دينكم وأخوتكم، وتراحموا فيما بينكم، وقوموا بواجبات الأخوة وحقوقها تفلحوا في دنياكم وأخراكم، ويرضى عنكم ربكم، واحذروا نزغات الشيطان ودعوات الجاهلية، وكونوا عباد الله إخوانا.. اللهم اجعل قلوبنا عامرةٌ بالإيمان، سليمة من الأدران، لا تحمل حقداً ولا غلاً لأحدٍ من  المسلمين، وألف على الخير قلوبنا، وأحفظنا وأحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين..

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، الذي أمر بالاعتصام بحبله، ونهى عن التفرق والاختلاف: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم والقلب السليم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إنه ينبغي للحفاظ على وشيجة الأخوة الإسلامية، الكف والإمساك عن أعراض المسلمين، وإن من أعظم الأشياء التي تسبب وحر الصدر وغيظه: الغيبة والنميمة، وهما أمران عظيمان، فكم صار بين المسلمين من أحقاد بسببهما، وكم جرى من انفصام عرى الإخوة بين أطرافهما، ولذلك كان حرياً بالمسلم، أن يتق الله، وأن يمسك لسانه عن الفري في أعراض المسلمين، فالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، (والمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم: لا يَظلِمُه، وَلا يَحْقِرُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ)، وكم من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، وربما تورع بعضهم عن أكل بعض  اللحم المستورد، وهو لا يزال يأكل لحم إخوانه، (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) وكذلك لنتنزه عباد الله عن تتبع العثرات وتسقط العيوب، فإن الاشتغال بعيوب النفس، يشغل عن عيوب الغير، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: كان هنا يعني: بالمدينة، أناس لهم معايب، فسكتوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم، وكانت أناس لهم معايب، فتكلموا في عيوب الناس، فبقيت عيوبهم، وذكرت من بعدهم.. ثم إن النفس الأصل فيها الجهل والظلم والتعدي على الخلق، فلذلك يرى الإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يُبْصِرُ أحدُكم القذَى في عينِ أخيهِ، ويَنْسَى الْجِذْعَ في عينِهِ) فهو يبصر أخطاء الناس وإن دقت، وينسى أخطاء نفسه، وكذلك ينبغي على الإنسان ليسلم صدره لأخيه المسلم أن يترك المراء والجدال والخصومة، فإن من أكثر ما يحدث الحقد والضغائن بين الإخوة، المراء والجدال والنقاش العقيم، وكذلك فإنه ينبغي الحذر من التعصب، فكم كان التعصب سبباً في إثارة الأحقاد والضغائن، قال يونس الصدفي رحمه الله: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في مسألة واحدة؟ إذًاً الخلاف في الرأي لا يفسد للود بين المسلمين قضية، ثم إن التعصب لغير الحق، لمذهب، أو قبيلة، أو طائفة أو حزب، أو جماعة، أو جمعية أو شيخ، أو شخص، تقليداً أعمى أو حمية، من أعظم الأسباب التي تورث الضغائن بين المسلمين، قد تَجدُ طالبَ علمٍ مُتعصباً لرأيه، أطلقَ لسانه في الأحياء والأموات، يتّهم النياتِ والمؤلفات والأشخاص  ولا يحتمل رأي المخالف، بل لأجل تعصّبه يتخلّى عن قيم الدين، وخُلق السلف الصالح، بالتأليبِ والمشاغبة لمن خالف رأيه، ويقلبُ الحقائقَ برؤيتِه الخطأ، ويصنف ويُقسّمُ بفعله المجتمع والأفراد فِرقاً وأحزاباً وجماعات. قال شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله: (وَمَنْ نَصَّبَ شَخْصاً كَائِناً مَنْ كَانَ، فَوَالَى وَعَادَى عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَهُوَ (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً) فكان التعصب دائماً سبباً عظيماً لوقوع العداوة والحقد والبغضاء والاختلاف بين المسلمين، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وَإِنَّمَا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ، بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ وَأَهْلِهِ، وَهُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا الدِّينَ وَصَيَّرُوا أَهْلَهُ شِيَعاً كُلُّ فِرْقَةٍ تَنْصُرُ مَتْبُوعَهَا، وَتَدْعُو إلَيْهِ، وَتَذُمُّ مَنْ خَالَفَهَا، وَلَا يَرَوْنَ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مِلَّةٌ أُخْرَى سِوَاهُمْ، يَدْأَبُونَ وَيَكْدَحُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُونَ: كُتُبُهُمْ، وَكُتُبُنَا، وَأَئِمَّتُهُمْ وَأَئِمَّتُنَا، وَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُنَا. هَذَا وَالنَّبِيُّ وَاحِدٌ، وَالْقُرْآنُ وَاحِدٌ، وَالدِّينُ وَاحِدٌ، وَالرَّبُّ وَاحِدٌ) ولذلك عباد الله كان لا بدّ من ترك هذا التعصب المذموم، والحوار بالحسنى، والمباحثة في مسائل العلم بصدر متسع، وأن ينشد الجميع صحة الدليل، والفهم السليم.. فاللهم طهر قلوبنا من كل غل وحقد وبغضاء وحسد وغش واغفر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ.

اللهم اجعل قلوبنا سليمة على إخواننا وعلى الناس أجمعين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلبٍ سليم،.. اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا،وتلم بها شعثنا، وتدفع بها الفتن والمحن عنا يا أرحم الراحمين.. اللهم إنا نعوذ بك من سوء القضاء، ودَرَك الشقاء، وشماتة الأعداء، ونزول البلاء، وانتشار الوباء، نسألك سلاماً ما بعده كَدَر، ورضاً ما بعدَه سخطٌ، وفرحاً ما بعدَه حزنٌ، اللهم عليكَ توكَّلْنا، وإليكَ أَنَبْنا وإليكَ المصيرُ، اللهم أكشف الغمة، عن هذه الأمة، وردنا إليك رداً جميلاً، ولا تؤاخذنا بذنوبنا وتقصيرنا..

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، اللهم وفِّق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا سميع الدعاء..

اللهم وفِّق المسئولين والعاملينَ والمتطوعين في فريق البحرين الوطني في القطاع الصحي والطبي والعسكري والأمني والإعلامي والتطوعي،  وأَعِنْهم وانفع بهم، وبارك في جهودهم، وأحفظهم من كل سوء ومكروه، وأحفظ بلادنا وبلاد المسلمين والعالم أجمع من الأوبئة وسيئ الأسقام، ومّن بالشفاء والعافية على المصابين بهذا الوباء، وارحم المتوفين به، وعجل بانتهائه في القريب العاجل برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً.. اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين. اللهم فرج الهم عن المهمومين ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إن لنا أحباباً قد فقدناهم، وفي التراب وسدناهم، اللهم فأجعل النور في قبورهم يغشاهم واكتب ياربنا الجنة سكنانا وسكناهم، وأكتب لنا في دار النعيم لقياهم، إنك مولانا ومولاهم. (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

    خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين