خطبة الجمعة.. سنن الله الكونية في الأفراد والأمم

سنن الله الكونية في الأفراد والأمم

فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان

7 رجب 1445 هـ – 19 يناير 2024 م

—————————————————————————-

الحمدُ لله الذي صنَعَ هذا الكونَ فأتقنَه إتقاناً، وأنشَأَه قائماً على سُنن وقوانِين فأبدَعَه إبداعاً، نحمدُه سبحانه ونشكُرُه، ونثنِي عليه ولا نكفُرُه، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحْدهُ لا شريكَ له ما فرَّطَ في الكتابِ من شيءٍ، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً) ونشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه أخشَى الخلقِ لربِّه، وأعلَمُهم به وبحقِّه، صلَّى الله وسلم عليه وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: إن هذا الكونَ الفَسيحَ وما حوَاه من عظيمِ صُنعِ الله، وبَديعِ آياتِه، وحكيمِ أفعالِه يَسيرُ وفقَ سُننٍ ربَّانيَّةٍ وقواعِد مُتقَنَة، لا يَحيدُ عنها ولا يَمِيلُ، في إحكامٍ وثباتٍ واستِقرارٍ، لو اختَلَّ شيءٌ منها طَرفةَ عينٍ لفسَدَت السماواتُ والأرضُ ومَن فيهنَّ، (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ)

إن السُّنَن الإلهيَّة التي بثَّها الله في الكَون والأنفُسِ والمُجتمعاتِ سُننٌ ثابِتةٌ مُستقِرَّة، ومُضطرِدةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتحوَّلُ، وذلك من أعظم صِفاتِها، كما قال ربُّنا سبحانه: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)

سُننٌ شامِلةٌ للعالَم كلِّه علويِّه وسُفلِيِّه، شامِلةٌ للحياةِ كلِّها وأحداثِها وتقلُّباتها، فربُّنا سبحانه  في كل لحظةٍ وفي كل يومٍ هو في شأنٍ، وكلُّ شيءٍ عنده بمِقدار، (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) إنها السُّننُ الإلهيَّة الثابِتةُ المُضطرِدةُ الشامِلةُ التي لا تُحابِي أحداً دُون أحدٍ، ولا تُجامِلُ أمَّةً دُون أُخرى، فكلُّ من حقَّت عليه سُنَّةُ الله فهي واقِعةٌ به ولا شكَّ، عصَى الرُّماةُ أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم  في أُحُد، فهُزِمُوا مع أنهم كانُوا على الحقِّ؛ لأن سُنَّةَ الله لا تُحابِي أحداً.. ونصرُ الله وإعزازُه وإكرامُه ينزِلُ إلى الناس وفقَ سُننٍ دقيقةٍ مُحكَمةٍ، والهزيمةُ والذِّلَّةُ يستحِقُّها الناسُ وفقَ سُننٍ مُحدَّدةٍ واضِحةِ المعالِم، بيِّنةٍ لا خفاءَ بها ولا غُموضَ، وتلك صِفةٌ أُخرى من صِفات السُّنن الربَّانيَّة لمَن تأمَّل وتفكَّر، وأحسنَ استِعمالَ عقلِه في استِخراج واستِنباطِ السُّنن، ورأَى كيف أن أحداثَ الحياةِ والتاريخِ والأُمم تَسِيرُ وفقَ هذه السُّنن العَجيبةِ الواضِحة البيِّنة. أما الغافِلُون عن هذه السُّنن الإلهِيَّة، اللاهُون عنها فسوف تفجَؤُهم الأحداثُ، وتحِقُّ عليهم سُننُ الله، وسيعُضُّون أصابِعَ النَّدَم، ولاتَ ساعةَ مندَم، (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ)

أيها المؤمنون: إن السُّنن الإلهيَّة في الأنفُس والآفاق والمُجتمعات كثيرةٌ ومُتنوِّعةٌ بتنوُّع مُتعلَّقاتها؛ فهناك سُننٌ كونيَّةٌ طبيعيَّةٌ، وهناك سُننٌ اجتماعيَّةٌ، وسُننٌ حضاريَّةٌ اقتصاديَّةٌ، وسُننٌ تاريخيَّةٌ وسُننُ الاستِخلاف، والتمكين. وقد بيَّن الله  سبحانه وتعالى  كثيراً منها في كتابِه، وعلى لِسانِ رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمرَنا سبحانه أن ننظُرَ ونتأمَّلَ في الآياتِ والنُّذُر، وأحداثِ التاريخ والقصص القُرآنيِّ؛ لكَي تنشَأَ عقولٌ ناضِجةٌ مُدرِكةٌ لهذه السُّنن التي تحكمُ المُجتمعَ الإنسانيَّ وطبائِعَ الأشياء، ولتكون مُؤهَّلةً لتفسيرِ ظواهِرِ الكون، والنظَر والاعتِبار بمآلاتِ الأمورِ وعواقبِها، وموازِينِ النُّهوض والسُّقوطِ، والتداوُل الحضاريِّ، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فالله  عزَّ وجل  قد أوضحَ هذه السُّنن أيَّما إيضاح، وأرادَ منَّا  سبحانه أن نتعلَّم علمَ السُّنن، ونتفقَّهَ فيه؛ لكَي نُحسِنَ الاستِفادةَ منه في حياتِنا وأمورِنا، وتقدُّمِنا وحضارتِنا.. ولا جرَمَ عباد الله أن هداياتِ القرآن وقواعِد السنَّة قد تضمَّنَت خُلاصَةَ السُّنن الربَّانيَّة التي تحكُمُ الحياةَ والكَون، وتربِطُ الأسبابَ بالمُسبَّباتِ، والمُقدِّمات بالنتائِجِ، في سِياقاتٍ وأُطُرٍ دقيقةٍ مُحكَمة، تظهرُ في حديثِ القرآن الكريم والسنَّة النبوية عن أخبارِ الأولين ومصارِعِ المُكذِّبين، وأحوال الأُمم والممالِك، والنصر والهزيمة، حديثاً مبنيًّاً على هذه السُّنن الإلهيَّة القاطِعة الصارِمة التي لا تستَثنِي أحداً. والبشريَّةُ دائماً في حاجةٍ شديدةٍ إلى دوامِ التذكيرِ بهذه السُّنن، والتنبيهِ عليها، كما قال ربُّنا سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)

أيها المسلمون: إن هذه السُّنن الربَّانيَّة منها ما هو عامٌّ يُمكنُ لكل البشريَّةِ أن يستفيدُوا منها، وهي ليسَت حِكراً على أحدٍ، وقد يفتَحُ الله على البشريَّةِ في زمنٍ من معرفةِ هذه السُّنن العامَّة ما لم يفتَحه على مَن كان قبلَهم. وهذه السُّنن الربَّانيَّةُ العامَّةُ هي الأكثَرُ عدداً، والأوسَعُ مساحةً في التاريخ البشريِّ؛ كالسُّنن الآفاقيَّة والنفسيَّة، والسُّنن المُتعلِّقة بهذا الكَون وجرَيَان أمورِه على وفقِ تدبيرِ الله تعالى، وتعاقُبِ الليل والنهار، وسَير الشمس والقمر، وسُنن الخلق والاجتماع، والإنشاء والبِناء، والعُمران والحَضارات، والاستِفادة من خيراتِ الأرض ومفاتِيح عِمارتها في التقدُّم العلميِّ والحضاريِّ. فكلما أحسَنَت البشريَّةُ فِقهَ هذه السُّنن الربَّانيَّة العامَّة وأتقنَت التعامُلَ معها، عاشَت عيشةً حسنةً، وهنِئَت هناءً في حياتها لا نظيرَ له. ولقد أبدعَ المُسلمون الأوائِلُ في الحضارة والتقدُّم والرُّقِيِّ؛ لاكتِشافهم هذه السُّنن، ولحُسن تعامُلهم معها والاستِفادة منها، فلما تخلَّوا عن ذلك، وغفَلَت الأجيالُ المُتعاقِبةُ عن سُنن الله، ولم يُحسِنُوا التعامُلَ معها، جاءَت الأُمم الأُخرى فأمسَكَت بناصِيةِ الحضارة والقوَّة، مُستفيدةً من علومِ المُسلمين وتجاربِهم، واكتِشافهم سُنن الله في الكَون والحياة، فعمِلُوا على وفقِ هذه السُّنن الربَّانيَّة، فاستحَقُّوا طرَفاً من العطاء الربَّانيِّ المفتُوح لكلِّ من وافَقَ هذه السُّنن، وأحسنَ الاستِفادةَ منها، (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)

ولكن  يا عباد الله  هذا الفتحُ الدنيويُّ الذي ترَونَه قد فُتِح عليهم، وأُغدِقَت عليهم فيه النِّعَم، وهم بعِيدُون عن الله، قد غرِقُوا في الشَّهوات واللذَّات، إنما هو في الحقيقةِ فَتحٌ ماديٌّ أجوَفُ، قد خلَا من البركة والطُّمأنينة ورِضا الله، وهو يجرِي أيضاً وفقَ سُنَّة الاستِدراجِ والإملاء والإمهال، كما قال ربُّنا  سبحانه: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتُم اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا ما يُحبُّ، وهو مُقيمٌ على معاصِيه، فإنما ذلك استِدراجٌ). وقد يطُولُ ذلك الاستِدراجُ والإمهالُ، وقد يقصُر، سُنَّةٌ ربَّانيَّةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ، (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: ومن سُنن الله الثابِتة المُضطردة: سُننُه المُتعلِّقةُ بنَصر دينِه وشَرعِه وأوليائِه وجنده، وسُنن نُزولِ العذابِ وإهلاكِ الأُمم، وغيرها، فهذه سُننٌ خاصَّةٌ بيَّنَها ربُّنا سبحانه وتعالى أحسنَ بيانٍ؛ حيث جاء التأكيدُ على أن التوحيدَ والعملَ الصالِحَ هو السبيلُ الأوحَدُ لنَصر الأمةِ وتمكينِها في الأرض، مع الإعداد والقوَّة الماديَّة، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) وقال سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) وبيَّن القرآنُ أن أعداءَ الأمة لهم وقتٌ وأجلٌ مُعيَّن، فإذا جاءَ أجَلُهم نزلَ بهم العذابُ، وقد يشُكُّ البعضُ في ذلك؛ لما يرَى من تطاوُلِ أُمم الكُفر واستِعلائِها، وما علِمُوا أن ذلك يجرِي وفقَ سُنَّة ربَّانيَّة، وأن سُنَّة الله في إهلاكِ الظالِمين والطُّغاة قد تطُولُ، ولما تتحقَّقُ على أرضِ الواقِعِ، وقد تذهبُ أجيالٌ وتأتي أجيالُ، ثم تقَعُ سُنَّةُ الله في الظالِمين والطُّغاة، فلا يستأخِرُون عنها ولا يستقدِمُون. ودعوةُ المظلُوم ينصُرُها الله ولو بعد حينٍ.

أيها المؤمنون: ومن أجَلِّ السُّنن الربَّانيَّة: قولُه سبحانه: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) وقوله: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وأن مُخالفةَ الرسولِ صلى الله عليه وآله وسلم، وعِصيانَ أوامِرِه أوسَعُ أبوابِ الفشَلِ والهزيمةِ، والهلاكِ العامِّ، وظُهورِ الفساد في البَرِّ والبَحرِ.

عباد الله: ومن ألطَفِ سُنن الله وأدَقِّها: أن التغييرَ للخير والشرِّ لا يحصُلُ إلا إذا ابتدَأَ به العبدُ نفسُه، كما قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فالبشرُ هم المسؤُولون ابتِداءً عن الصلاحِ والإصلاحِ، وهم المسؤُولون كذلك عن الفسادِ والانحِطاط.

ومن السُّنن الربَّانيَّة: سُنَّةُ المُداوَلَة بين الناس؛ فيوماً رخاءٌ ويوماً شدَّة، ويوماً نصرٌ ويوماً هزيمة، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) ومن آثار سُنَّة المُداوَلَة هذه: أن يظهرَ الخبيثُ والمُنافِقُ، ويتميَّزَ عن المُؤمن الصادِقِ، وتلك سُنَّةُ التمييز العَجيبَة، (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)

ولقد جاء البيانُ المُشرِقُ في القرآن والسنَّة مُؤكِّدًا على أن فشُوَّ الظُّلم والبغي، وغِياب العدل، وانتِشار المعاصِي والذنوبِ، والمُجاهَرة بها، والتَّرَفَ والإسرافَ من أعظم أسبابِ تغيُّر الأحوال، وزوال النِّعَم، وفُجاءَة النِّقم، ونقصِ العافِيَة والأرزاقِ، وقسوَة القلوبِ، وتناكُر النفوسِ وتباغُضِها، وتسليطِ بعضِ المُسلمين على بعضٍ بالقولِ والفعلِ.

كما قال ربُّنا سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) وقال جل وعلا:(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً). عباد الله: ومن سُنن الله العظيمة الأثَر: سُنَّةُ المُدافَعَة، أن يدفعَ الله الشرَّ بالخيرِ والضلالَ بالهُدى، والمُفسِدين بالمُصلِحين، وهي من أعظم السُّنن التي تحفَظُ نِظامَ الكَون، وتحفَظُ الناسَ من الفسادِ والهلاكِ العامِّ، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ولي الصالحين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله العالمين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله إمام المرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: إن أحداثَ الكَون والحياة والتاريخِ، وسِيَر الأُمم وارتِفاعها وانخِفاضِها، ورَغَد عيشِها وبُؤسِه، وضِيقِه وبحبُوحَته، وقيامِ الممالِكِ وزوالِها، وازدِهارِ العُمران وتخلُّفِه، كلُّ ذلك يتمُّ ويمضِي وفقَ سُننٍ ربَّانيَّةٍ صارِمةٍ قاطعةٍ، لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ، وهي مُتكرِّرةٌ مع وجودِ الحالِ المُقتضِي لذلك. والمُسلمُ العاقلُ الحَصِيفُ هو من يسعَى إلى التعرُّفِ على هذه السُّنن الإلهيَّة، ويتفقَّهُ في دلالاتها وآثارِها، من خلالِ الآياتِ والنُّذُر، وأيامِ الله، والتأمُّل في القصَص القرآنيِّ والتاريخِ الغابِر، وقراءَتِه قراءةَ عِبرةٍ وعِظةٍ، ويتفكَّرُ في الأحداثِ والمواقِف؛ ليستكشِفَ هذه السُّنن التي هي غايةٌ في العدلِ والثَّباتِ والاضطِراد، وفي ذلك فوائِدُ كثيرةٌ، وثمراتٌ عُظمَى لا تُحصَى. فالمُسلمُ الذي يفقَهُ هذه السُّنن العامَّة والخاصَّة يعرِفُ كيف تسِيرُ أقدارُ الله ويقِفُ على شيءٍ من حِكَمها وغاياتِها وعِلَلها، فيُوافِقُ هذه السُّنن ولا يُصادِمُها فيُرزَق البصيرَةَ والتوفيقَ والطُّمأنينةَ والثقةَ بالله وينظُرُ في الأحداثِ بنُورٍ من الله، ويعظُمُ إيمانُه بربِّه؛ لأنه يعلَمُ أن الأمورَ كلَّها بأسبابِها ومُسبَّباتِها، ونتائِجِها ومُقدِّماتها هي بيَدِ الله وحدَه، فهو المُعِزُّ المُذِلُّ الرافِعُ الخافِضُ الباسِطُ القابِضُ المُعطِي المانِعُ مُقدِّرُ الأقدار ومُصرِّفُ الأكوان. والمُسلمُ الواعِي الذي يفقَهُ هذه السُّنن ينتفِعُ بها في حياتِه ومعاشِه، ويعرفُ طُرقَ ووسائِلَ العِزَّة والحياةِ الكريمة، ووالله إنه ليرَى أثرَها في حياته وخاصَّة أمرِه، ويتلمَّسُها ظاهرةً في أسبابِ غِناه وفَقرِه، وعلُوِّه وهُبُوطِه، وعِزِّه وذِلَّتِه، واستِقامَتِه وتعثُّرِه.

أيها المؤمنون: هذه السُّنن الربَّانيَّةُ الصارِمةُ الشامِلةُ تُؤكِّدُ أن هذه الحياةَ ليست عبَثاً ولا فوضَى ولا همَلاً، بل هي حياةٌ قائمةٌ على نوامِيس وسُنن وقوانِين؛ فمَن يعمَل خيراً يُجزَ به، ومَن يعمَل سُوءاً يُجزَ به، والله لا يُضيعُ أجرَ المُحسِنين.

ومن يفعَلِ الخيرَ لا يعدَمْ جوازِيَهُ

                                         لا يذهَبُ العُرْفُ بين اللهِ والناسِ

واستِشرافُ هذه السُّنن، واستِكشافُها ومُوافقتُها يُحيِي في الإنسان الشُّعورَ بالإنسانيَّة والأمانة، ويصنَعُ منه رجُلًا عامِلًا مُجِدًّا مُثمِرًا بنَّاءً؛ لأنه يعلَمُ أنه أمام سُنن وقوانِين لا تُحابِي أحدًا، ولا تستَثنِي فردًا، بخِلافِ من يُهمِلُ علمَ السُّنن ويُغفِلُه، ولا يُقيمُ له وزنًا، فإنك تراه يتَّبشعُ هواه، ويُخالِفُ هذه السُّنن الربَّانيَّة ويُعانِدُها، فيعيشُ حياةَ الفوضويَّة والعبَثِيَّة والتفريطِ، والتَّبَعِيَّة والانهِزاميَّة، ثم إذا نزلَت به قارِعة، وغرِقَت به السفينة قال: أنَّى يكونُ هذا؟! (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) فكلُّ مَن أعرضَ عن سُنن العِزَّة والتمكينِ والحياةِ الكريمةِ المُبارَكةِ، فإنه سوف يُخذلُ من حيث كان يظُنُّ أنه سيُوفَّق، وسيُهانُ ويُذلُّ من الجهةِ التي كان يعتقِدُ أنها ستُكرِمُه وتُعِزُّه، وترَى الفقرَ بين عينَيه، قد شتَّتَ الله عليه أمرَه، وجعلَه فُرُطًاً. سُنَّةٌ ربَّانيَّةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ، فاعتبِرُوا يا أُولِي الألبابِ والعقولِ والبصائِرِ، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)

عباد الله: السُّننُ الربَّانيَّةُ المبثُوثةُ في الكَون والحياة كثيرةٌ جدّاً ومُتنوِّعة، تحدث عنها القرآن الكريم والسنة النبوية، فدُونَكم  يا مُسلمون  كلامَ الله، وسُنَّةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم  وسِيرتَه المُبارَكة؛ ففيها الهُدى الكاملُ والنُّورُ التامُّ، والكمالُ والجمالُ والجلالُ، والمُوفَّقُ السعيدُ مَن وفَّقه الله وبصَّرَه، وزكَّى قلبَه ونوَّرَه، والمخذُولُ المحرُومُ مَن أعرضَ عن هَديِ ربِّه واتَّبَعَ هوَاه ونسِيَ اللهَ فانفرَطَت عليه أمورُه، وخبَطَ في هذه الحياةِ خَبطَ عشوَاء، فلم يُبالِ اللهُ به في أي أودِيَتِها هلَك.

اللهم اغفر لنا ما قدمنا، وما أخرنا، وما أعلنا، وما أسررنا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللّهمّ حقّق بالرجاء آمالنا، وأحسن في جميع الأحوال أعمالنا، وسهّل في بلوغ رضاك سبلنا، وخذ بالخيرات بنواصينا.

اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والحروب والفوضى والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا سميع الدعاء.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم وفِّق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا سميع الدعاء..

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في فلسطين وغزة ناصراً ومؤيداً ومعيناً، اللهم أفرغ عليهم صبراً واحقن دمائهم وفرج همهم ونفس كربهم، وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ونعيذهم بعظمتك أن يُغتالوا من تحتهم.

اللهم لا تسلط عليهم من لا يخافك ولا يرحمهم، وانصرهم على من بغى عليهم.

اللهم أحفظ المسجد الأقصى والمرابطين فيه، مسرى نبيك وحصنه بتحصينك وأكلاه برعايتك وعنايتك واجعله في حرزك وأمانك وضمانك يا ذا الجلال والإكرام..

اللهم فرج همومنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا، واشف مرضانا واشف مرضانا وارحم موتانا وارحم موتانا ووالدينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)