الجمعة 5 ذو القعدة 1441هـ

الموافق 26 يونيو 2020 م

 

الحمد لله الذي امتنّ على عباده بنبيه المرسل، وكتابه المنزّل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسّع على ذوي الأبصار طرق الاعتبار، بما بث في كتابه العزيز، من القصص والأخبار، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله،صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد: فأُوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، اتقوا الله رحمكم الله، ولتكُن الآذانُ لما جاء من عند ربِّها واعِية، والنفوسُ لحقوقِه راعِية، والأقدامُ في رِضاه ساعِية، واستعِدُّوا ليومٍ تُعرَضُون فيه على الله، لا تخفَى منكم خافية. (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: مع القصة والقصص تهفو النفوس، وتُصغي الآذان، وتسترسل المشاعِر، قصص القرآن خبر معجز، ومعنى ثرٌّ ووفير؛ اشتمل على عِبرٍ، تصحح المفاهيم، وتقوّم المسير، وتبوئ المدّكرَ نزلَ السمو، ويرى بعين الاعتبار عُقبى الحوادث في الأفراد والأمم، ولذا تبوَّأتِ القصص مساحةً واسعة في آيات الذِّكْر الحكيم؛يقول تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) ويقول سبحانه: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وقصص القرآن يا أهلَ القرآن هي جزء من مواعظِ الفرقان، التي أمرَنا الله جل وعلا أن نوردها القلوب؛ (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) نقف إخوة الإيمان مع نبأٍ من أنباء الغيب، ومدرسةٍ من مدارس النبوة المصطفاة.. مع قصَّة قصيرة في حلقاتها، مليئة بعظاتها؛ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ). نقف مع خبر الرسول الكريم، والرجل الصالِح ذي النون، صاحب الحوت، يونس ابن متى عليه السلام، ارْتضاه ربُّه واجتباه، فخصه بالنبوة، وفوقها الرسالة؛ (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يقول بعض العلماء: لم يُنسبْ نبيٌّ إلى أمِّه إلا عيسى ابن مريم، ويونس ابن متى.. أرسله ربُّه  تعالى إلى قرية نِينَوى، وهي مدينة بالعِراق، كانت عاصمةً للدولة الآشورية، ولها شهرتُها التاريخيَّة، تقع على الضفة اليُسرى لنهر دجْلة.. كان عددُ أهل هذه القرية مائة ألف أو يزيدون، عبدوا الأصنام والأوثان من دون الله، فقام فيهم يونس  عليه السلام مبلغًاً رسالة ربه، ومجدداً لمعالِم التوحيد التي اندرستْ، رغَّبهم نوال ربهم إنْ تابوا ووحَّدوا، وأنذرهم عقابَه وبأسه إن كفروا وأشركوا، ولبث فيهم ناصحاً مصلحاً ما شاء الله له أن يلبث.. فما كان موقف قومه إلا الإعراضَ والجفاء والصد والاستعصاء، ولشدَّة يقينه بدعوته وعِظَم تشبُّعه بها غضب على قومه وغاضبهم فخَرج من ديارهم وقد بَلَغ به الحنقُ منهم مبلغه؛يقول تعالى(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً) فارَقَ يونسُ ابن متى قريتَه نينوى، قبل أن يُؤذنَ له من ربه…والأصل: أنَّ كل نبي يمكث في مقر دعوته، حتى يؤذن له بالهجرة والمفارقة، فهذا نبيُّنا محمد  صلى الله عليه وسلم كان يتشوَّف للهجرة وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يستأذنه في ذلك فكان  عليه الصلاة والسلام يقول له: (انتظر؛ فإني أنتظر أن يؤذن لي) ثم أتى إلى أبي بكر بعدَ ذلك يبشِّره ويقول له: (إني قد أذن لي بالهجرة)…

عباد الله: استعجل يونس ابن متى عليه السلام الخروجَ من ديار قومه، وكان يظنُّ أن ربَّه لن يضيِّق عليه بسبب هذا الخروج؛ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ).. مضى العبد الصالح، ميمِّماً وجهه شطر البحر، وهو لا يدري عن المصير الذي ينتظره، والبلاء الذي يتحيَّنه، وحين وَصَل شاطئ البحر، وَجَد سفينةً قد ضاقتْ بأهلها، فركب مع من ركب؛ (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي فر إلى السفينة المشحونة بالركاب، أقلعتْ تلك السفينةُ المتواضعة بأمْر ربِّها، وسارتْ في عُرْض البحر، حتى إذا توسَّطت البحر، تلاطمتْ بها الأمواج، وتقاذفتْها الرِّياح، فاضطربت السفينة ومادتْ، ومالتْ براكبيها وماجتْ، وظنَّ أهلُ السفينة أنه قد أُحيط بهم، وتيقَّنوا أنهم على شفا مَهْلَكة ومتلَفة.. في هذه الحال المفجعة، والساعة المهولة، اجتمع أهلُ السفينة وتشاوروا، ثم قرَّروا: أنه لا بدَّ من التضحية ببعض أفراد السفينة، حتى يخفَّ الحمل عليها؛ لينجوَ من بقي بعد ذلك؛ فهلاك البعض أهون من هلاك الجميع. واختاروا طريقة عادلة لمن سيكون ضحيةً في البحر، فوضعوا قرعةً بينهم، والكل يرجو ألاَّ يكون هو.. اقترعوا، وسقطت القرعة على النبيِّ الكريم، الذي خرج مغاضباً، وظنَّ أن ربَّه لن يضيِّق عليه، فأُعيدت القرعة ثانية، فوقعتْ عليه، ثم أعيدت ثالثة، فكان هو صاحب القرعة؛ يقول  تعالى (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)؛ أي: من المغلوبين في القرعة.. عندها، لم يكن بُدٌّ من إلقاء النبي الكريم وسطَ لجَّة البحر، وتقدَّم يونس بن متى إلى البحر الهائج، ليستقبل برُوحه هذا المصيرَ المجهول، واحتمالاتِ الهلاك المنتظَرة.. إنَّه مصير ليس له مخرج، إلا من يكشف السوء، ويُفرِّج الكرب سبحانه وتعالى، سقط العبد الصالح في وسط البحر، وقد تعالتْ أمواجُه، وأظلم ماؤه؛ من بُعْد قعره، فابتلعه البحر الهائج المائج، ولم ينتظر طويلاً حتى كان الابتلاع الآخر مِن حوت البحر؛ (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ)؛ أي: أتى فِعلاً يُلام عليه، وهو خروجه بغير إذنِ ربه.. الْتقم الحوت نبيَّ الله يونسَ، ومرَّ النبي الكريم بين فكي الحوت، ثم إلى جوفه، فكانتِ احتمالات الهلكة مضاعفةً متيقَّنة؛ فلا نور هناك ولا هواء، ولا طعام ولا ماء، إنها وربِّي كرباتٌ في كربات، وظلماتٌ في ظلمات.

هنا تذكَّر هذا النبيُّ الصالح أن له ربًّاً يسمع النداء ويغيث الكرب، فهتف واستغاث بكلمات مِن قلبه قبل لسانه؛ إذ نادى وهو مكظوم، ردَّد – عليه الصلاة والسلام -: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) إنها كلمة التوحيد والعبودية، والتعظيم والاعتراف؛ لا إله إلا أنت، إفراد وإقرار بالعبودية للواحد القهار؛ فهو  سبحانه  الملِك الحق، لا ربَّ غيرُه، ولا معبود سواه، فأعظم ما يُنادي به العبدُ ربَّه ويتقرَّب إلى بابه، اعتقادُه واعترافه باستحقاق العبودية لله  تبارك وتعالى.. ثم نزَّه العبدُ الصالِح ربَّه، وعظَّمه وقدَّسه، فقال: سبحانك، ثم تواضع لربه، واعترف بخطئه وتقصيره واستعجاله: إني كنت من الظالمين، فاجتمعت في هذه الكلمة المختصَرة أسبابُ إجابة الدعاء؛ يقول  صلى الله عليه وسلم: (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا أمرئٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ) سيما إن استصحب الداعي بها حال الكرب، وأيقن بقرب الرب وعلمه، كما أيقن يونس  عليه السلام  بذلك والحوت يجوب به عمق البحار، وبعدَ زفرات التعظيم، ولهجات الاعتراف والجأر بالدُّعاء والشكاية، كانتْ معية الله، ورحمة الله مع عبْده المكروب الملهوف. فهذا النِّداء في جوف البحار، سَمِعَه مَن وَسِعَ سمعُه الأصوات، وهذه الحال المكروبة، رآها عالِمُ الخفيات، يعلم ما في البر وما في البحر، وما تسقط مِن ورقة إلا يعلمها، ولا حبَّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين… هنا، وبأمرٍ من الله  جل جلالُه  الذي يدبِّر الكون بيْن الكاف والنون، توقَّفتْ عواملُ الهلاك لنبي الله تعالى فشاء الله تعالى  أن يعيشَ يونس بن متى في بطن الحوت، كما يعيش الجنين في رَحِم أمه.. ومكث يونس عليه السلام أمداً في هذا المكان المظلِم، فقيل: مكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقيل: عشرين يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: الْتقمه الحوت ضحًى، ولفظه عشاءً، وكلها أقوال واجتهادات لا يعضدها نصٌّ صحيح، لكن – والعلم عند الله – أنَّه مكث في بطن الحوت مدة ليست بالقصيرة، بدليل تغيُّر جسمِه وبدنه، حين خرج من بطن الحوت.

بقي الرجل الصالح في كربته يسبّح ويناجي ويدْعو، فأدركتْه نعمةٌ من ربِّه ورحمة، فلفظه الحوت في مكان قفْرٍ خالٍ من الأشجار؛ (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) خرج يونس ابن متى من بطن الحوت يلهج بالحمد والثناء، قد كَتَبَ الله له حياةً جديدة، خرَج من بطن الحوت، وحالُه غير الحال التي دخل عليها، خرَج وقد اعتلَّت صحتُه، وتغيَّر بدنه، ورقَّ جلده؛ (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) روى أنس رضي الله عنه  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ يُونُسَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلَمَّاتِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، قَالَ: (اللَّهُمَّ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فَأَقْبَلَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ تَحُفُّ بِالْعَرْشِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ؟ فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَاكَ؟ قَالُوا: لَا يَا رَبِّ، وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ، قَالُوا: عَبْدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرفَع لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ، وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: يَا رَبِّ، أَوَلا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ؛ فتنجيَه مِنَ الْبَلَاءِ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ فِي الْعَرَاءِ) يقول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: خرج كهيئة الفَرْخ، ليس عليه ريش.. ثم توالتْ نِعمُ الله ولطفُه على عبده، فأنبَتَ الله عندَه شجرةً من يقطين، شجرة القَرْع، فكان ورقُ تلك الشجرة غطاءً ناعماً يظلل جسمَه، ويَقيه حرَّ الشمس، وجفافَ الهواء، حتى إذا رجعتْ إليه صحتُه، وعادتْ له عافيته، رجع إلى قومه الذين تركهم مغاضباً لهم، وعاد يتمِّم مهمَّتَه الأولى، فدعاهم إلى الله وتوحيده، وحين رأى القوم مخايل العذاب قد تبدّت، وعاينوا غيبه شهادة، وتحقق لهم ما أنذرهم به نبيهم، وظنوا أن الأمان قد ترحّل عنهم؛ استكانوا لربهم، وتضرعوا إليه منيبين تائبين؛ فخرجوا إلى الصحراء كما قال أهل العلم بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وجأروا إلى الله بالدعاء والبكاء، وبكى الرجال والنساء والولدان، ولهجوا بمعاقد الاستغفار بدموع التوبة ودعوات الاضطرار؛ فكانت ساعة عظيمة مهولة؛ العذاب من فوقهم، ونبيهم قد فارقهم؛ عندها أنزل الله رحمته، وكشف عنهم غمة العذاب؛ فآمنوا كلُّهم أجمعون، فكانتْ عودته ودعوته بركةً عليهم ونجاة لهم، وكان أهل نينوى هم الأمَّةَ الوحيدة من أمم الأرض التي آمنتْ بنبيِّها دون أن يتخلَّف أحد منها؛يقول تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) وكان إيمانهم ذاك سبباً في كشف العذاب عنهم؛ (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)

اللهم اصرف عنا وعن جميع المسلمين شر ما قضيت، اللهم الطف بنا وبالمسلمين في قضائك وقدرك يارب العالمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي العزِّ والكرم، الذي أسبغ على خلقه النعم، ووقى من شاء وحفظه من النقم. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له باري النَسَمَّ ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالنهج الأقوم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الخلق الأكرم.

أما بعد فيا أيها المسلمون: وفي قصة يونس  عليه السلام، ونبئه وخبره عِبرٌ وعظات، ودروس ووقفات: منها: أن السر في نجاة يونس  عليه السلام وكشف غمّته قد جاء مبيناً مزبوراً في القرآن الكريم: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) والتسبيح هنا ليس حالَ كونه في بطن الحوت فقط؛ وإنما هو حكاية عن حال يونس  عليه السلام  الدائِمة، فحياتُه كلها كانت تسبيحاً وطاعة وعبادة، فلمّاً سبَّح في بطن الحوت، كان تسبيحه في هذا المكان امتداداً لتسبيحه في حياته السابقة.

ومِن عِبر القصة أيضاً: أنَّ الأعمال الصالحات في أيام الرَّخاء تُرافِق العبدَ في شدته، وتكون سبباً بعون الله في إزالة كربته، ورفْع محنته، ومِصداقُ ذلك قول النبي  صلى الله عليه وسلم لعبد الله أبن عباس رضي الله عنهما : (تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفْك في الشدة) فيونس  عليه السلام  عرَف ربَّه في رخائه، فعرفه ربُّه في شدته حين دعاه، وفي المقابل، عرَف فرعون ربَّه ودعاه في كربته عندما أدركه الغَرَق، فماذا كان الجواب؟ نَزَل جبرايل  عليه السلام سريعاً، لا لينقذَه؛ وإنما ليأخذَ من وحْل البحر تراباً، ليدسَّه في فم فرعون؛ خشيةَ أن تدركه رحمةُ أرحم الراحمين..

ومن دروس القصة أيضاً: أن الإيمان مخرجٌ من الفتن، وسبب للنجاة من البلاء والإحن؛ فقد نجَّى الله عبدَه يونسَ عليه السلام مِن كرباته، ثم وعد فقال: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) وحين آمن قوم يونس، كان ذاك الإيمان دافعاً عنهم سوءَ العذاب المنتظر؛  (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).. ومن فوائد القصة أيضاً: أهمية عبادة التسبيح، وأنها سببٌ لدفع البلاء والهمّ، واستدفاع الغَمّ، هذا ما نَطَق به الذِّكر الحكيم: يقول جل وعلا: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)،(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا).. وفي قصة يونس عليه السلام  رسالةٌ لكل داعية ومربٍّ، ومصلِح وأب، ألا ييْئَسَ ولا يضيق مِن دعوته وتوجيهاته؛ فهذا يونس  عليه السلام غاضَبَ قومَه حين جفوا دعوته، ثم عاد إليهم مرَّةً ثانية، وواصل مشروعه الأول، فكان نتيجته: آمن قومه أجمعون.. وفي هذا دلالة وإشارة أنَّ الدعوة والنصيحة والتوجيه ليستْ جولةً واحدة؛ بل هي جولة وجولات، فقد لا يكون للكلمة المشفِقة أثرٌ في مهدها، ولكن مع الصِّدق والصبر، يفتح الله تعالى للكلمات الناصحة مغاليقَ القلوب…

وفي دروس القصة أيضاً: أنَّ الصبر على البلاء ممَّا يَزيد العبدَ رفعةً عند ربِّه، ومقداراً بين خلقه، فهذا يونس  عليه السلام  رفَع الله ذِكرَه بعد أن ابتلاه، فالتفَّ عليه قومه وآمنوا به، وصدَّقوا دعوته، وساروا على شريعته، وكثرةُ أتباع الأنبياء من جملة فضائلهم.

وفي قصَّة يونس  عليه السلام: دليلٌ على القاعدة الأصولية المشهورة، وهي: ارتكاب أخف الضررين لدفْع أعلاهما، فإلقاء بعض أفراد السفينة، وإن كان فيه ضررٌ متحقِّق، إلا أنَّ فيه دفعاً لضرر أعلى وهو هلاكهم جميعاً.

ومن دروس القصة، فضل التوبة والرجوع إلى الله وأنها تدفع العقوبة وترفعها ، فهؤلاء قوم يونس كذبوا رسولهم وعصوه وتحدوه حتى دعا عليهم، واستجيبت دعوته فيهم، فلما صدقوا التوبة إلى الله رفع عنهم العقوبة برحمته لهم (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) فاعتبروا يا أولي الأبصار… تلك  عبادَ الله قصة وخبر النبي الكريم، والرجل الصالح، يونس ابن متى عليه الصلاة والسلام، وشيء من عِبَرها وإشاراتها، نسأل الله  تعالى  أن يسلكَ بنا سبيل أنبيائه، وأن يحشرنا في زمرتهم ويجعلنا من أهل الاقتداء بهم. (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ  فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ..)

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

اللهم إنا نسألك رحمة من عندك، تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا ، وتلمّ بها شعثنا، وترد بها ألفتنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتزكي بها عملنا  وتبيّض بها وجوهنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء ومكروه.

اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين،وألحقنا بالصالحين،غير خزايا ولا مفتونين..

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، وفي خليجنا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.. اللهمَّ ارفع البلاء والوباء وسيء الأسقام عنا وعن الناس  أجمعين، اللهم عافنا في أبدانِنا وأسماعِنا وأبصارِنا، اللهم إنا نسألُك العافيةَ في الدنيا والآخرةِ، اللهم إنا نسألُك العفوَ والعَافيةَ في دينِنا ودنيانا وأهلِنا وأموالِنا، اللهم استر عوراتِنا وآمن روعاتِنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفِنا وعن أيمانِنا وعن شمائلِنا ومن فوقِنا ونعوذُ بعظمتِك أن نغتالَ من تحتِنا. اللهم وفِّق المسئولين والعاملينَ والمتطوعين في فريق البحرين الوطني في القطاع الصحي والعسكري والأمني والإعلامي والإداري والتطوعي، اللهم أَعِنْهم وانفع بهم، وبارك في جهودهم، وأحفظهم من كل سوء ومكروه برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.

اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين. الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ، الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

      خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين