كيف يكون استقبالنا لرمضان المبارك ؟

كيف يكون استقبالنا لرمضان المبارك ؟

عدنان بن عبد الله القطان

27 شعبان 1442هـ – 9 إبريل 2021 م

————————————————————–

الحمد لله الذي خصّ شهر رمضان بمزيد الفضل والإكرام، نحمده سبحانه ونشكره على إحسانه العام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام، وأتقى من تهجّد وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك، نهنئكم ونهنئ بلادنا ملكاً وحكومة وشعباً والمسلمين جميعاً، سائلين الله عز وجل أن يبلغنا هذا الشهر الفضيل، ويعيننا على الصيام والقيام، وأن يجعله مباركاً علينا وعلى عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويهله على الجميع بالأمن والأيمان والسلامة والإسلام، ورفع البلاء والوباء عن البلاد والعباد إنه سميع مجيب الدعاء.  

ولا ننس أن نشكر جلالة الملك حمد بن عيسى حفظه الله ورعاه على توجيهاته السديدة بفتح الجوامع والمساجد لجميع الفروض وصلاتي الجمعة والتراويح في شهر رمضان طبقاً لاشتراطات صحية محددة، للحد من انتشار الجائحة، لإيمانه حفظه الله بدور العبادة  في بناء وتطور المجتمعات وحفظ الأخلاق والقيم، وزيادة التآلف والتقارب بين الجميع، خصوصاً في شهر رمضان المبارك.  

والشكر موصول لفريق البحرين الوطني بقيادة سمو ولي العهد سلمان بن حمد حفظه الله، وللقائمين على المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ولوزارة العدل والشئون الإسلامية وللأوقافين السني والجعفري على جهودهم الكبيرة وسعيهم لفتح المساجد والجوامع جزى الله الجميع خير الجزاء، وعجل الله برفع البلاء والوباء عن البلاد والعباد إنه سميع الدعاء.

أيها المسلمون: بعد أيام قلائل، تكتمل بإذن الله تعالى دورة الفَلَك، ويُشرِف على الدنيا هلال رمضان المبارك، الذي تهفو إليه نفوس المؤمنين، وتتطلَّع شوقاً لبلوغه؛ لتنتظمَ في

مدرسته التي تفتح أبوابها كل عام، فتستقبل أفواج الصائمين والصائمات في كلِّ أرجاء العالم.. فمع ضجيج الحياة، وزحام الدنيا، مع النزوات العابرة، والشهوات العارمة، تأتي مدرسة رمضان، لتعيد للقلوب صفاءها، وللنفوس إشراقها، وللضمائر نقاءها، فيجول رمضان في أرجاء النفس؛ ليغرس بذور الخير والصلاح والإصلاح، إننا يا عباد الله في عصرٍ يُنشَدُ المتاع من ألف وَجْه، فلنلوِّي الزمام للباقيات الصالحات، (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).

عباد الله: كنَّا نودع بالأمس شهر رمضان الماضي، وكأنَّ صفحاته قد طُويت قبل أيام، واليوم يستقبله المسلمون بعد مرور أحد عشر شهراً تقريباً. شهور مضت، ذهبت لذَّاتها، وبقيت تَبِعَاتها، نُسيت أفراحها وأتراحها، وبقيت حسناتها وسيئاتها.

نعم عباد الله ستنقضي الدنيا بأفراحها وأحزانها، وتنتهي الأعمار على طولها وقِصَرها، ويعود الناس إلى ربِّهم بعدما أمضوا فترة الامتحان على ظهر هذه الأرض، كما قال تعالى:(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًاً هَدَى وَفَرِيقًاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)، ثم تصبح الدنيا مجرد ذكريات عابرة… وهنا مَنْ ينتظر رمضان على أملٍ، ولا يدري فقد يباغته قبل ذلك الأجل؛ يقول تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)… أيها الإخوة والأخوات في الله: إن بلوغ وإدراك شهر رمضان نعمةٌ عظيمة، ومنةٌ جسيمة على مَنْ أقدره الله عليه، فاللهمَّ بلغنا وسلِّمنا إلى رمضان، وسلِّم لنا رمضان، وتسلَّمه منّاً متقبَّلاً يا رحمن… نبشِّركم إخوة الإسلام بأشرف الشهور، والذي يأتي بعد غياب، ويفد  بعد فراق، نبشِّركم كما كان المصطفى صلَّى الله عليه وسَلَّم  يبشِّر أصحابه فيقول: (جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، فِيهِ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينِ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ) عباد الله: كيف لا يبشر المؤمن بشهر يفتح الله فيه أبواب الجنة؟ كيف لا يبشر المذنب بشهر يغلق الله فيه أبواب النار؟ كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل الله فيه الشياطين؟ إنه شهر لا تحصى فضائله، ولا يحاط بفوائده.

أيها المؤمنون: كيف يستقبل هذا الوافد الحبيب، يُستقبل رمضان – عباد الله – بتهيئة القلوب، وتصفية النفوس، وتطهير الأعمال، وتطهير الأموال، والتفرُّغ من زحام الحياة.

أعظمُ مَطْلَبٍ في هذا الشهر إصلاحُ القلوب؛ فالقلب الذي ما زال مقيماً على المعصية يُفَوِّتُ خيراً عظيماً؛ فرمضان هو شهر القرآن، والقلوب هي أوعية القرآن ومستقرُّ الإيمان؛ فكيف بوعاءٍ لُوِّثَ بالآثام؛ وتدنس بالمعاصي، كيف يتأثر بالقرآن؟ يقول   الحسن البصري رحمه الله: (لو طُهِّرَت قلوبُكم؛ ما شبعت من كلام ربِّكم عز وجل)…

أخي المسلم أختي المسلمة: قَدِّمْ بين يَدَي رمضان توبةً صادقة؛ تُصْلِح القلب، وتجلب الرحمات والخير، فان من أعظم ما يعود على المسلم من النفع في هذا الشهر الكريم توبته وإنابته إلى ربه، ومحاسبته لنفسه، ومراجعته لتاريخه. فهذا موسم التوبة والمغفرة، وباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، وفضله تعالى يغدو ويروح، ولكن أين التائب المستغفر؟ يقول تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا). فالإساءات منا كثيرة، والعفو منه أكثر، الخطأ منا كبير، ورحمته أكبر، الزلل منا عظيم، ومغفرته أعظم:

سبحان من يعطي ونخطئ دائماً

                                 ولم يزل مهما هفا العبد عفا

يعطي الذي يخطي ولا يمنعه

                                   جلاله عن العطا لذي الخطا

يقول تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)  نعم، لم يصروا أبداً، اخطئوا فاعترفوا بذنوبهم واستغفروا، وأساءوا فندموا فغفر الله لهم… صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رغم أنف من أدركه رمضان فلم يغفر له) ذنوب العام كل العام تمحى لمن صدق مع الله في رمضان إذا اجتنب الكبائر، النقص طيلة السنة، العيوب المتراكمة تصحح في رمضان.

 صح في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول: (يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ) من طبيعتنا الذنب، ولكن منا من يتوب وينيب ويستغفر مولاه عز وجل، ومنا من يصر، ويستمر ويكابر، وهذا هو المغبون المخذول عن طريق الهداية، يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتنِي وَرَجَوْتنِي غَفَرْتُ لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْتُ لَك، يَا ابْنَ آدَمَ! إنَّك لَوْ أتَيْتنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)

فيا أيها المسلمون: هذا الشهر فرصتنا للتوبة النصوح، وهذه الأيام غنيمة لنا، فهل نبادر الغنيمة والفرصة؟ صام معنا قوم العام الماضي ثم ردوا لمولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين، مضوا بأعمالهم وتركوا آثارهم، فاللهم اغفر لهم وارحمهم،وأكرم نزلهم أجمعين، وارحمنا إذا صرنا إلى ماصا روا إليه يارب العالمين.

عباد الله: إنَّ شهر رمضان هو شهر العفو والمغفرة، وهو شهر التجاوز عن الخطيّئَة، والشحناء والبغضاء والقطيعة من موانع المغفرة الشديدة؛ لذا يُستَقبل رمضان بتهيئة النفوس وتنقيتها من الضغائن والأحقاد والكراهية التي خلخلت عُرى المجتمع وأنهكت قواه، ومزقت المسلمين شرَّ ممزّق، وفرقت بين أبناء الوطن الواحد والبيت الواحد،  فالذي يطلُّ عليه رمضان عاقًّاً لوالديه، قاطعاً لأرحامه، مخاصماً لأهله وأولاده، هاجراً لإخوانه،مثيراً للفتن في وطنه، أفعاله قطيعة، ودوره في المجتمع الإفساد والنميمة وإثارة القلاقل، والإخلال بأمن البلاد والعباد، هيهات هيهات أن يستفيد من رمضان. يقول تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).. ترسخ حقيقة الصيام، الفضائل الجليلة، طبعاً لا تصنعاً، وسجية لا تكلفاً، وتبقيها لازمة لا تفارق، وصافية لا تكدر، فهلا جعلنا هذا الشهر الكريم، انطلاقة للسمو، والترفع عن سفاسف الأمور، والحذر من كل ضلال وزور.

رمضان عباد الله هو شهر الموالاة للمؤمنين، والمواساة للفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمعوزين، من حِكَمِ رمضان أن يتفاعل المسلم مع إخوانه في وطنه وفي شتَّى بقاع الأرض، ويتجاوب مع نداءات الفقراء والضعفاء والمنكوبين، متجاوزاً بمشاعره كلَّ الفواصل، متسلِّقاً بمبادئه كلَّ الحواجز، يتألَّم لآلامهم، يحزن لأحزانهم، يشعر بفقرائهم، مبتدئاً بالموالاة والمواساة من بيته وموطنه، ولإخوانه من بني جِلْدَتِه وصَحْبِه وأقاربه وجيرانه، ومواساة المسلمين المستضعفين والمنكوبين في العالم. يُستقبَلُ رمضان بنفسٍ معطاءةٍ، ويدٍ بالخير فيَّاضةٍ، يبسط يده بالصَّدقة والإنفاق.. عباد الله: إنَّ شهر رمضان هو شهر النَّفحات والرَّحمات والدَّعوات، والمال الحرام سبب البلاء في الدنيا ويوم الجزاء، لا يُستجاب معه الدعاء، ولا تُفَتَّحُ له أبواب السماء؛ لذا يُستقبَلُ رمضان بتطهير الأموال من الحرام، فما أفظعها من حسرةٍ وندامةٍ أن تلهج الألسنُ بالدعاء والاستجابة، وربنا تبارك وتعالى يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)

رمضان عباد الله: مدرسةٌ لتقوية الإيمان، وتهذيب الخُلُق، وتقوية الإرادة، ومَنْ كان هذا حاله فسيجد في نهاره لذَّة الصابرين، وفي مسائه وفي ليله لذَّة المناجاة في ساعاتها الغالية. هؤلاء هم الذين تُفَتَّحُ لهم أبواب الجنان في رمضان، وتُغَلَّقُ عنهم أبواب النيران، وتتلقَّاهم الملائكة ليلة القدر بالبِشْر والسلام. هؤلاء هم الذين ينسلخ عنهم رمضان مغفوراً لهم، مكفَّرةً عنهم سيِّئاتهم.

وإليكم يا من أقبلتم على الصيام، تلك الأعمال التي تزيد في إيمانكم وتنمي يقينكم، منها الصلاة بخشوع وخضوع وحضور قلب،والمحافظة على صلاة الجماعة، قراءة القرآن بتدبر وتأمل آياته،  والعيش في ظلاله،  واستنشاق نسماته،  والاهتداء بهديه، ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان والجوارح، واللهج بالتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، مناجاة الله عز وجل في الأسحار، الإكثار من الاستغفار،والصلاة والسلام على النبي المختار، طلب العلم النافع، والتفقه في الدين، ومما يزيد الإيمان الصدقة، والبذل والعطاء،  والتفكر في آيات الباري تبارك وتعالى، ومطالعة آثاره في الكائنات، وبديع صنعه في المخلوقات، ورمضان زمن صفاء ذهن المتأمل وإشراق فكر المتفكر ، واستنارة قلب المعتبر ، فهو جدير بالتفكر في بديع صنع الخالق تباركت أسماؤه.. يقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فِي الجَنَّة بَاباً يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يدْخُلُ مِنْهُ الصَّائمونَ يومَ القِيامةِ، لاَ يدخلُ مِنْه أَحدٌ غَيرهُم، يقالُ: أَينَ الصَّائمُونَ؟ فَيقومونَ لاَ يدخلُ مِنهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فإِذا دَخَلوا أُغلِقَ فَلَم يدخلْ مِنْهُ أَحَدٌ). فاللهم بلغنا بفضلك وكرمك رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، وطهر قلوبنا،وأصلح ذات بيننا وأهدنا سبل السلام، يارب العالمين.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين،  أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله يمُن على عباده بمواسم الخيرات،ونشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ربُ البريات،ونشهدُ أن سيدَنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسولُه المبعوثُ بكريم السجايا وشريف الصفات، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات،والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما دامت الأرض والسماوات.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، وسابقوا إلى مغفرته ومرضاته.

أيها المسلمون: لقد أظلنا زمان شهر رمضان المبارك، كنّا قد وعدنا أنفسنا قبله أعواماً ومواسم، بالتوبة والعمل الصالح، ولعل بعضنا قد أمَّل وسوَّف وقصَّر، فها هو قد مدَّ له في أجله، وأخّر وأمهل، حتى قرب من شهر رمضان، فماذا عساه بعد هذا أن يفعل؟ نسأل الله تعالى أن يبلغنا بفضله ومن نحب، هذا الشهر الكريم بالصحة والعافية والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ويرضاه… فكم ياعباد الله، نعرف من الأهل والآباء والأبناء والإخوان والأقارب والجيران، صاموا معنا في العام الماضي، وهم الآن تحت الجنادل والتراب وحدهم، أتاهم الموت، أتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وآخذ البنين والبنات، فاختطفهم من بين أيدينا، أسكتهم والله فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، كأنهم والله ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب.

كَمْ كنتَ تعرِف مِمِّنْ صَام في سَلَفٍ

                             مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْـوَانِ

أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتَبْقَاكَ بَعْدهمـو

                           حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي

فهل من تائب إلى الله يا عباد الله ؟ هل من عائد إلى رحاب ربه ؟ وهل من توبة صادقة؟ وهل من عودة حميدة؟…يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره، وابيض شعره، ودنا أجله،وهو مصر على المعاصي والمحرمات، ماذا أعددت للقاء الله؟ وماذا بقي لك في هذه الدنيا؟ يقول سفيان الثوري رحمه الله: (إذا بلغ العبد ستين سنة، فليشتر كفناً وليهاجر إلى الله عز وجل)… ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل،وأسرف على نفسه بالمعاصي والمحرمات، ماذا أعددت للقاء الله عز وجل؟ متى تستفيق إن لم تستفق اليوم؟ ومتى تتوب إن لم تتب في هذه الساعات؟ ومتى تعمل إن لم تعمل في هذه اللحظات؟ ألا ترى قصر الأعمار، وموت الشباب، وفجآءة الموت؟ إن الواجب علينا جميعاً أن نتق الله عز وجل ونتخذ من استقبال شهرنا موقف محاسبة وتوبة، ونقطة رجوع إلى الله وعودة إلى حماه، فمن كان تاركاً للصلاة فليتب، ومن كان عاصياً لله  فلينب، ليهتم كل أب ببيته وتربية أبنائه على تعاليم الإسلام، فإنه سيموت وحده، ويبعث وحده، ويحاسب على ما قدمت يداه، ليكن كل إنسان منا مفتاحاً للخير مغلاقًاً للشر، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، وليجعل

من نفسه مشعل خير في أهل بيته وحيّه ومن حوله وفي وطنه، لنكن أمة واحدة كما أراد الله منا حين قال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

 يا أسير الذنوب والشهوات، هذا شهر التوبة. يا عاكفاً على المعاصي والمحرمات، هذا شهر الطاعة. يا مدمن الغيبة والنميمة والنظر والاستماع إلى ما حرم الله،هذا شهر الرجوع إلى الله، يا آكل الربا، يا متعاملاً بالرشوة وآكلاً أموال الناس بالباطل، يا سارقاً ومختلساً من الأموال العامة والخاصة،يا شارباً للخمر ويا متعاطياً للمخدرات،ويا عابثاً بأعراض الناس، ويا مسيئاً لوطنه ومزعزعاً لأمنه واستقراره، هذا شهر الأوبة والإنابة، هذا شهر صوم الجوارح وصونها عن كل ما يغضب الله، هذا شهر القرآن فاتلوه، هذا شهر الغفران فاطلبوه، هذا شهر الصيام والقيام والبر والإحسان فافعلوه.

اللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان، وبلغنا برحمتك شهر رمضان،يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أهله علينا وعلى بلادنا ملكاً وحكومةً وشعباً وعلى جميع المسلمين، بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى.. اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن والمحن. اَللّهُمَّ اجعَلنا فيهِ مِنَ المُستَغْفِرينَ، وَ اجعَلنا فيهِ مِن عِبادِكَ الصّالحينَ القانِتينَ، و اجعَلنا فيهِ مِن أوليائك المُقَرَّبينَ، بِرحمتك يا اَرحَمَ الرّاحمينَ.

اللهم أقل عثراتنا،واغفر زلاتنا،وكفر عنا سيئاتنا،وتوفنا مع الأبرار.

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا،واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين،  الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ َ ووَلِيَّ عَهْدِهِ َرَئِيْسَ وُزَرَائِهِ سَلْمَانَ بِن حَمَدٍ، الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ، وَسَدِّدْ عَلَىَ طَرِيْقِ الْخَيْرِ خُطَاهُمْ، وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَارَبْ الْعَالَمِيْنَ.. الْلَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوْبِنَا، وأهدنا سُبُلَ الْسَّلامِ، وأهدنا إِلَىَ صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيْمِ.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى، وأهله، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين اللهم. اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، وارحم والدينا وارحم موتانا  برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.

اللهم ومن قضيت بقطع آجالهم منا وتوفيتهم إليك ولم تبلغهم شهر رمضان، فنسألك اللهم أن تغفر لهم وترحمهم، وتعافهم وتعفوا عنهم، وتكرم نزلهم، وتوسع مدخلهم،وتغسلهم بالماء والثلج والبرد، وتنقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم وأنزل في قبورهم الضياء والنور، والفسحة والسرور،والكرامة والحبور،وجازهم بالإحسان إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفراناً… وارزق أهلهم وذويهم الصبر والسلوان. وارحمنا يا مولانا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت الجنادل والتراب، ونجنا من عذاب القبر ومن هول الحساب برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

         خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين