خطبة الجمعة – الجمال والزينة في الإسلام

الجمال والزينة في الإسلام

عدنان بن عبد الله القطان

6 ذو القعدة 1444 هـ – 26 مايو 2023 م

—————————————————————————-

الحمد لله، تفرّد عزّاً وكمالاً، واختصّ بهاءً وجمالاً وجلالاً، نحمده سبحانه ونشكره، تقدّس وتنزّه وتبارك وتعالى، ونسأله جلّ في علاه صلاحَ الشّأن كلّه حالاً ومآلاً. ونشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، أمرنا بعبادته وطاعته غدوّاً وآصالاً، وحذّرنا مغبّةَ التفريط لهواً وإغفالاً، ونشهد أنَّ سيدنا ونبيَّنا محمّداً عبد الله ورسوله أزكى الورَى خِصالاً، وأسنَى البريّة خِلالاً، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين بلغوا من السّؤدَد ذُراه، وتفيئوا من المجد ظلالاً، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: لقد فطرَ الله تعالى النفوسَ على الإحساس بالجمال وحبِّه والميل إليه، وحبِّ الزينة والتجمُّل والأُنس بها، والتعلُّق بكل ما لطَفَ وأبهجَ من الألوان المتناسبة، والمناظر المتناسقة، زينةٌ وتجمُّلٌ في النفوس، وزينةٌ وتجمُّلٌ من أجل الآخرين.

عباد الله: الإسلام دين الفطرة، موافق للطبائع الإنسانية، والغرائز البشرية السوية، وإن من الفطرة حب الجمال والتزين، والحرص على النظافة والتطهر، فالإنسان جسمٌ وروحٌ؛ جسمٌ حيٌّ يأكل ويشرب، ويعمل ويكدَح، وينام ويتعب، وروحٌ تتذوَّق المعاني والجمال، والزينةَ والبهجة… الجمال والزينة تستهوِي النفوس، وتقَرُّ بها الأعيُن، وتلذُّ بها الأذواق، وقد جعل الله تعالى في الجمال والزينة الرضا والسعادة والبهجة، والجميل هو الذي يفيضُ حيويَّةً، ويتلألأ بهجةً حيثما حلَّ، ومن مُنِح الاستمتاعَ بالجمال مُنِح السماحة والابتسامة، والهدوء والنظام، والإبداع والتفكير، حتى قالوا: كلما رُزِق العبدُ نُبلاً ورفعةً ازدادَ جمالُه، وازدادَ إحساسُه بالجمال، وتمتُّعُه بالزينة). أيها المؤمنون: حبُّ الجمال والزينة مغروسٌ في الفِطَر، وقد اجتمع على ذلك الطبعُ والشرعُ، والجمالُ والزينة مقصدٌ من مقاصِد الشرع، يمتنُّ بها اللهُ جل جلالُه على عباده. فليست النعمةُ والمنَّةُ من الله اللطيف الجميل، قاصرةً على تلبية الضروريَّات والحاجيَّات، من طعامٍ وشرابٍ ومركبٍ وملبسٍ؛ بل جعلَ الله بلُطفِه الزينةَ والجمالَ قرينةً للمنفعة، المنفعةُ في الأكل المُشبِع، واللباس الكاسِي، والغطاء الدافِئ، والمركب المُوصِل. والمتعةُ بالجمال المُبهِج، والزينة المُفرِحة من أشواق الجمال، وفرحِ الوِجدان، ومباهِج الشُّعور. وكلُّ ذلك محلُّ النعمة والمنَّة، فلله الحمدُ والشكر والمنة… عباد الله: كتابُ ربِّنا جل جلاله جاء بالجمال، وحكَى الجمال، ودعا إلى الجمال، وامتلأ بمعاني الجمال، اقرءوا وتأمَّلوا: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) وتأملوا كيف خلق الله السموات بإتقان وإبداع، يقول جل وعلا: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) وتأملوا جمال السماء وما فيها، يقول تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ) ويقول تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) وتأملوا جمال الأرض: يقول تعالى: (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) ويقول جل وعلا: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وتأملوا وانظروا في جمال النبات والثمار: يقول تعالى: (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ، مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ويقول سبحانه: (انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) وهو يشملُ النَّظَرين: نظرَ الاعتبار والاستِبصار، ونظرَ التمتُّع بالبهاء والجمال. بل وتأملوا كيف جعلَ الله الزينةَ والجمالَ في الأنعام ( وهي الإبل والبقر والغنم) جعلها الله قرينةً للمنافع، فقال عزَّ شأنُه: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) يقول بعض العلماء: (إن الله جميلٌ أي: له الجمال المُطلق، جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال. وامتنَّ بكل جميلٍ، وحثَّ على النظر في كل جميل؛ فالعينُ تُدرِك المنظر الجميل، والأُذُن تسمعُ الصوتَ الجميل، والأنف يُدرِك الرائحةَ الطيبة واليدُ تتحسَّسُ الملمسَ الناعم، واللسان يذوقُ الطعمَ اللذيذ، ناهِيكم بما يستثيرُ الإنسان من وِجدان ومشاعِر ومباهِج. ويدخلُ في هذا الحديث بطريق العُموم الجمالُ في كل شيء.

أيها الأخوة والأخوات في الله: أما اهتمامُ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالجمال والزينة قولاً وفعلاً وتوجيهاً، فهذا ما امتلأت به سيرتُه، ودلَّ عليه كتابُ الله وسُنَّةُ المُصطفى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فقد أمرَه ربُّه في أوائل ما تنزَّل عليه: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) فامتثلَ لأمر ربِّه، فكان على أكمل الصفات خَلقاً وخُلُقاً.

وتأمَّلوا رحمكم الله في وصف الصحابة رضوان الله عليهم للجمال المُحمدي، والبهاء النبوي، والحُسن المُصطفوي، يقول هندُ بن أبي هالَة رضي الله عنه  كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخْماً مُفَخَّماً، يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) ويقول جابرُ بن سمُرة رضي الله عنه: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ (مضيئة) فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى القَمَرِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَإِذَا هُوَ عِنْدِي أَحْسَنُ مِنَ القَمَرِ) ،وقال أنسٌ بن مالك رضي الله عنه: مَا شَمَمْتُ عَنْبَراً قَطُّ ، وَلَا مِسْكاً ، وَلَا شَيْئاً أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مَسِسْتُ شَيْئاً قَطُّ دِيبَاجاً، وَلَا حَرِيراً أَلْيَنَ مَسًّاً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ويقول أيضاً: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ) وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان نفرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون على الباب، فخرج يُريدُهم، وفي الدار كُوَّةٌ (نافذة) فيها ماء، فجعلَ ينظرُ في الماء ويُسوِّي لحيتَه وشعرَه. فقلت: يا رسول الله: وأنت تفعلُ هذا؟ قال: (نعم، إذا خرجَ الرجلُ إلى إخوانه فليُهيِّئ نفسَه؛ فإن الله جميلٌ يحبُّ الجمال). وَلأَجْلِ حُبِّ اللهِ تَعَالَى لِلْجَمَالِ؛ شُرِعَتْ لَنَا خِصَالُ الْفِطْرَةِ، يقول صلى الله عليه وسلم: (خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ أي (حلق شعر العانة)، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَقَصُّ الشَّارِب) وإذا سمِع هذا بعضُ من لا فِقهَ عنده، ولا اهتمام لديه بالتنظف والتجمل، قال: نحنُ مشغولون بهموم الأمة! فنقول له: وهل أنت أكثرُ شغلاً وهماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بل كان عليه الصلاة والسلام يحثُّ أصحابَه ويتعهَّدهم بتوجيهاته ونُصحِه على أخْذ الزينة، حتى يكونوا شامةً في الناس.

فعن سهل بن الحنظليَّة الأنصاري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنكم قادِمون على إخوانِكم، فأصلِحوا رِحالَكم، وأصلِحوا لباسَكم، حتى تكونوا في الناس كأنَّكم شامةً؛ فإن الله لا يحبُّ الفُحشَ ولا التفحُّش). وكان عليه الصلاة والسلام يتأذَّى من إهمال حُسن المنظر والزِّينة دخل عليه رجلٌ ثائرَ الرأس واللحية، فأشار إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيدِه أن اخرُج كأنَّه يعني: إصلاحَ شعره، ففعل الرجلُ ثم رجع، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدُكم ثائرَ الرأس كأنَّه شيطان؟) …  ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً شعثًاً قد تفرَّق شعرُه، فقال: (أما كان هذا يجِدُ ما يُسكِّنُ به شعرَه؟  ورأى رجلاً آخر وعليه أطمارٌ -يعني: ثياباً بالِية-، فقال: (هل لك مالٌ؟ قال: نعم. قال: (من أي المال؟!). قال: من كل ما آتى الله: من الإبل والشاء، قال: (فلتُرَ نعمتُه وكرامتُه عليك). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلُ النارَ من كان في قلبِه مثقالُ حبَّةٍ من إيمان، ولا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه ذرَّةٌ من كِبْر). فقال رجلٌ: يا رسول الله: إنه يُعجِبُني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهيناً، وشِراكَ نعلي جديداً -وذكرَ أشياء أخرى، فمِن الكِبْر هذا يا رسول الله؟! قال: (لا، ذاك الجمال، إن الله -عز وجل- جميلٌ يحبُّ الجمال، ولكن الكِبر من سفِهَ الحقَّ وازدرَى الناس)

أيها المؤمنون: وقد امتثلَ الصحابةُ -رضوان الله عليهم- ثم السلفُ الصالح من بعدهم نهجَ نبيِّهم عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته وحُسن التأسِّي به؛ فهذا الفاروق عُمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (مروءةُ الرجل نقاءُ ثوبه). وكان عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه يُعجِبُه إذا قام إلى الصلاة، الرِّيحُ الطيبة، والثيابُ النقيَّة.. وحينما ذهب عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما لمُجادلة الخوارِج لبِسَ أحسن ما يكونُ من حُلَل اليمن وأتاهم، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما هذه الحُلَّة؟ قال: (ما تَعيبُون عليَّ؟ لقد رأيتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ ما يكونُ من حُلَل). وقال ابن رجب رحمه الله: (ولم يزل علماء السلف يلبسون الثياب الحسنة، ولا يعدون ذلك كبراً). وقال بعضهم: (ويُستحبُّ أن لا يُخلِيَ نفسَه حضراً وسفراً من أشياء بعد تقوى الله والثِّقَة به: التنظُّف، والتزيُّن، والمُكحُلة، والمُشط، والسواك، والمقصّ، وقارورة الدُّهن، أي الطيب). ويقول أبو العالية رحمه الله:(كان المُسلِمون إذا تزاوَروا تجمَّلوا). بل قال علماؤنا: (ليس من الذَّوق واللَّبَاقَة مُخالطة الناس بثيابِ المهنة لما يعلَقُ بها في الغالبِ من الدَّرَن والروائِح الكريهة). وبعد: عباد الله: فإن الجمال نعمةٌ من أتمِّ النِّعَم، وهو حسنٌ كلُّه إذا رآه المرءُ في الناس والأشياء، اطمأنَّت نفسُه ودخل عليه السرورُ والبهجة، ولا يرى الجمالَ إلا الجميل. فكُن جميلاً ترى الوجود كلَّه جميلاً، كُن جميلاً ترى أنسامَ الجمال تهُبُّ رقراقَةً حيث تشاء شهداً في عروقِك وأنفاسِك وعذوبةً في اللِّسان كمنطقِك، وطِيباً في أنفِك وذوقِك. يقول تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

اللهمَّ زيِّنا بزينةِ الإيمانِ والتقوى، واجعلْنا هداةً مُهتدينَ، وألبسنا لباس المهابة والمحبة والاتزان في قلوب خلقك إنك سميع الدعاء.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

  الخطبة الثانية

الحمد لله الجميل الذي يحب الجمال، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أكمل الناس خلقاً وخلقاً وأجملهم قولاً وعملاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد فيا أيها الأخوة والأخوات في الله: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (اللَّهُمَّ كما أَحْسَنْتَ خَلْقِي، فَأَحْسِنْ خُلُقِي) أي كما جعلت يا اللَّه خلقي مستقيماً معتدلاً في غاية الإحسان والإتقان، أسألك أن تُحسّن أخلاقي فتكون في غاية الحسن والكمال كهيئة خَلْقي.. وكان عليه الصلاة والسلام يرسل بذلك رسالةً إلى أمَّته أنَّ العناية بالباطن – ومن ذلك القلب والأخلاق – أمرٌ هو من صلب دينِنا وشرْعِنا، ومقصد هامٌّ من مقاصد الشَّريعة الغرَّاء، وأنَّ من يعتني بمظْهره الخارجي فقط، ويدَع الأمراض المعنويَّة والنفسيَّة تفعل فعلَها في داخله، هُو إنسان غافل لا يدرك أين الخير، ولا يعرف حيثُ مصلحته فيبادر إلى تحصيلها.

واليوم عباد الله يشقَى كثيرٌ من النَّاس في قضيَّة الجمال، ويبذلون وسعهم وطاقتَهم في الحصول على أحْدث مقاييس الجمال، وآخر صرخات الموضة والأزياء، الرجال والنساء في ذلك على حد سواء، وإن كان الأمر أوْضح في جانب الفتيات والنساء، فهم يُهرعون ويهرولون إلى دور التَّجميل وأطبَّاء العمليَّات التَّجميليَّة، وينفقون المال الوفير أمامهم كي يَحصلوا على قسط من الجمال الصِّناعي الباهت، فالشاب والرجل يريد جسماً كجسم اللاَّعب النَّجم الفلاني، أو المغني الفلاني، وأنفًاً كأنفِه، وسحنة كسحنتِه، وقصَّة شعر كقصَّة شعره، والمرأة والفتاة  بدورها تُريد أعضاءً كأعضاء المطربة الفلانيَّة والممثلة الفلانيَّة، وشفة كشفتها وأنفاً كأنفها، وربَّما كان الذي يدفَعُها إلى ذلك هو زوجَها بعد افتِتانه بالممثلات والمطربات، فيغيِّرون خلق الله ويقعون في المحظور عياذاً بالله.

أو أن كلاً من الشاب والفتاة يتشبه بالآخر، (وقد لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ، والمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ) عجيب وغريب والله أمر هؤلاء؟ أيّ جمال ذلك الَّذي تبحثون عنْه وتنشدونه؟ وأي زينة تلك التي تلهثون وراءها؟ جمال صناعي وزينة مصطنعة، إنَّ الجمال الحقيقي والزينة الأساسيَّة، هي زينة الدَّاخل وجمال الباطن؛ أي: جمال الأخلاق، جمال الروح، جمال النَّفس، والَّذي بدوره يطفح بعد ذلك على صورة المرء الخارجيَّة، الجمال هو جمال المخْبر لا جمال المظهر.

 ليس الجمال تسميناً أو تنحيفًاً، ولا تشقيراً أو تبييضاً أو تغييراً، ولا نفخاً أو شفط دهون!

أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ تجميل الظاهر والباطن مطلبٌ شرعي، وأمَّا جمال الصورة والخِلقة، فهذا قَسمٌ يقسمه الله بين عباده، ما بين جميل قسيم، وبين قبيح دميم، وآخرين بين ذلك كثيراً… ولا يجوزُ ذمُّ أحدٍ لقُبح صُورته، فهذا طعنٌ واتِّهام للخالق الذي خلَقَه، فالعيب والشين والذمُّ ليس في قُبح الصورة؛ وإنما في قُبح الخُلُق والرُّوح؛ لأنَّ ذاك في قُدرة الإنسان واستطاعته. الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنه كان دميم الخلقة أسود أفطس، لكن دمامته لم تمنعه أنْ يكون حِبَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وكان رسول الله يقول عنه: إن أسامة بن زيد لمن أحبّ الناس اليّ، واني لأرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيراً.

نسأل الله عزَّ وجلَّ كما حسَّن خَلقنا أن يجمِّل أخلاقَنا، وأنْ يصلح قلوبنا، وأنْ يجعل بَواطِننا خيراً من ظواهرنا إنه سميع مجيب.

اللهم أَرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلنا يا ربنا ممن قلت فيهم (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) اللَّهمَّ اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ والأعمال لا يَهدي لأحسنِها إلَّا أنتَ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

اللهم أصلح أبنائنا وبناتنا وشبابنا وفتياتنا واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين اللهم جنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم جنبهم الخلاعة والمجون والمخدرات والخمور واحفظهم من التشبه والتميع والتكسر، وسلمهم من شر الأشرار وكيد الفجار آناء الليل وأطراف النهار واهدهم لما تحبه وترضاه واغفر لهم يا غفار، اللهم لا تزغ قلوبهم بعد إذ هديتهم وهب لهم من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم وفق قادة دول مجلس التعاون لما فيه الخير والصلاح لأوطانهم وشعوبهم، وسدد على طريق الخير خطاهم، واجمع بهم الكلمة، وبارك لهم في مساعيهم ووفقهم للصواب في القول والفعل يا سميع الدعاء.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم احقن دمائهم، وألف بين قلوبهم، وولي عليهم خيارهم.

اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم اشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا..

 الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

 

    خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين