بر الوالدين والتحذير من العقوق

بر الوالدين والتحذير من العقوق

28 رجب 1442 هـ – 12 مارس 2021 م

عدنان بن عبد الله القطان

——————————————–

الحمد لله الذي أمر ألا نعبد إلا إياه وبالوالدين إحساناً، نحمده تعالى ونشكره، على ما خلقنا ورزقنا واختارنا وأكرمنا وهدانا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملأ قلوب أهل الإيمان براً ورحمة ً وحناناً، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أشرف المرسلين رسالة وأفضل البشرية إنساناً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا بنعمة الله إخواناً، وعلى البر والخير أنصاراً وأعواناً، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: يقيم الإسلام دعائم مجتمعه على أسس راسخة، وقواعد ثابتة، تمتد في أعماق النفس البشرية، وتمتزج بمشاعرها وعواطفها الأصيلة، متأثرة في ذلك كله بعقيدة التوحيد الراسخة المستقرة في قلب كل مسلم ومسلمة ليكون بناء الأمة الإسلامية بناء قوياً متيناً… وأقرب العواطف وأشدها تأثيراً في النفس، هي عاطفة الأبوة والأمومة، فإنها العاطفة التي تضم بين حنانها الوليد في مراحل نموه، فيشعر بدفء عواطف الحب والرحمة والشفقة حتى يشب ويترعرع وتواصل العاطفة سيرها معه يافعاً ورجلاً وشيخاً، ومن روابط هذه العواطف يكون بناء الأسرة المسلمة القوية الصالحة.. وإذا كان شعور الإنسان يتطلع دائماً إلى المستقبل، ويتدفق حيوية، وطموحاً نحو الجديد من الزوج والذرية، ويجد دافعاً قوياً إلى ذلك بعامل الفطرة، فإن الإسلام لا يشدد في أن يوصي الوالدين بالأولاد، لأن ذلك أمر مغروس في فطرة الإنسان، فالوالدان يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شيء في سبيلهم حتى بالذات والنفس، فيمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هم شيخوخة فانية إن أمهلهما الأجل للشيخوخة والكبر، ولكنهما مع كل ذلك سعيدان كل السعادة… ولا عجب بعد ذلك، أن تأتي كلمات الله تعالى في كتابه توصي الأبناء بالآباء، وتحرك عندهم مشاعر الرحمة في القلوب، لتنظر قليلاً إلى الوراء، إلى أيام سلفت لها مع آبائها وأمهاتها وهي تشقى وتتعب وتمرض من أجل هذا الوليد ، ومن ثم يقرن الله سبحانه وتعالى هذه الوصية ببر الوالدين بعبادة الله سبحانه، ويعتبرها قضاءً مبرماً، وأمراً لازماً يمتثله المسلم والمسلمة، لأنه أمر من الله سبحانه العليم الخبير، وشأن المسلم دائماً وأبداً أن يقوم بكل عمل أو تصرف، عبادة لله تعالى وامتثالاً لأمره قال الله سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً) وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًاً عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)

وقال جل وعلا: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) وقال سبحانه: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ) وفي مشكاة النبوة يأتي بر الوالدين قريناً للصلاة عمود الإسلام ومتقدماً على الجهاد ذروة سنام الإسلام. فقد سئل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: (الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ:ثُمَّ أَيٌّ؟قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّه)ِ وصح في الحديث أن رجلاً أَقْبلَ إِلى نَبِيِّ اللَّه فَقَالَ: أُبايِعُكَ عَلَى الهِجرةِ وَالجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجرَ مِنَ اللَّه تعالى، قال: فهَلْ لكَ مِنْ والِدَيْكَ أَحدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نعمْ، بَلْ كِلاهُما، قَالَ: فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّه تَعَالَى؟ قَالَ: نعمْ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلى والِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما)

أيها الأبناء والبنات البارون بآبائهم وأمهاتهم: كم هي شديدة تلك المعاناة، وكم هي عظيمة صور التضحيات التي يقدمها الأبوان في سبيل إسعاد أبنائهم، وخروجهم إلى معترك الحياة! وكم يتعب الوالدان ويتحملان! وكم يبذلان ويقدمان، لاسيما الأم الحنون، تلك المربية المشفقه، قالب الحنان والعطاء المتدفق بفيض الرحمة والإحسان، عطفها ملء جنانها، الأم الرءوم التي حملتك بين أحشائها تسعة أشهر، ويعلم الله ما تعانيه من آلام، وثقل الحمل، ثم لا تسل عما تكابده من آلام الوضع، وتلاقيه من متاعب المخاض؛ (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً). تقاسي به من الأسقام والآلام ما الله به عليم، بل إنها لتشاهد الموت وهي تعالج آلام الطلق والإنجاب، ثم متاعب الرضاعة حولين كاملين، تقوم بها مثقلة وتقعد بها متململة.

ثم هي بعد ذلك تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، وتتعب لتستريح أنت، كم سهرت الليالي الطويلة، وأنت لا تدري! وكم تجرعت الآلام، ليحقق وليدها الأحلام! وتترك كثيراً مما تشتهيه؛ خشية ضرر يعتريه، فهي به رحيمة، وعليه شفيقة حميمة، إن غابت عنه دعاها، وأن أعرضت عنه ناجاها، وإن أصابه ضرر ناداها؛ بل أنها تفضل موتها لحياته، بل تتمنى أن تموت لتحيا أنت، وتشقى لتستريح أنت، فقد كان بطنها لك وعاء، وحجرها لك حواء، وثديها لك سقاء، وتود لو تقبل المنية دونك فداء، وكم تعاني من المتاعب عند الفصال والفطام، والتربية والتنشئة. وتستمر معها المتاعب حتى بعد أن تشب أنت على الطوق، وتصبح رجلاً وزوجاً وذا أولاد، فالوالدة دائماً تبحث عنك، وتتفقد أحوالك، يسوؤها ما يسوؤك، ويحزنها ما يحزنك، فلله درهن من أمهات مشفقات، ومربيات رفيقات، ووالدات حانيات رقيقات! جزاهن الله تعالى عنا جناتٍ عرضها الأرض والسماوات.

أما الأب الغالي والوالد الحاني؛ فذلك الموجه القيم، والمربي الفاضل، يسعى ويجد، ويكدح ويكد، وينشئ ويشفق ويغذوك مولوداً، ويعولك يافعاً إذا لقيك هش، وإذا جئته بش، وإذا حضر أقعدك على حجره وصدره، وإذا خرج تعلقت به، وإذا غبت عنه سأل عنك وانتظر مجيئك، وإذا رآك ابتسم محياه وبرقت

ثناياه، ثم كم يبذل لتعليمك وتنشئتك، وتغذيتك وتربيتك! فجزاه الله من والد كريم، وأب رحيم خير الجزاء وأعظم المثوبة.. هذان هما والداك، وتلك هي طفولتك وصباك، فلماذا التنكر للجميل؟ وعلام الفظاظة والغلظة، وكأنك أنت المنعم المتفضل؟!

أيها المؤمنون:  بر الوالدين فريضة لازمة، وفضيلة جازمة، وجوبها حتم، وأداؤها عزم، لا عذر لأحد في التساهل أو التهاون بها، بر الوالدين منهج الأنبياء والمرسلين، وعمل الكرام والصالحين، يقول تعالى عن عيسى بن مريم عليه السلام: (وَبَرًّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّاً).و يقول عن يحي بن زكريا عليه السلام: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) والدعاء للوالدين أحياءً وأمواتاً دأب المؤمنين المتقين، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..) وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ). وأحق الأبوين بالبر الأم؛ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟.قَالَ:(أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟. قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ:ثُمَّ مَنْ؟.قَالَ:ثُمَّ أُمُّكَ،قَالَ:ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:ثُمَّ أَبُوكَ) فهل أدينا حقهما يا عباد الله.. أتى رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أمي عجوز كبيرة أنا مطيتها أجعلها على ظهري، وأنحي عليها بيدي، وألي منها مثل ما كانت تلي مني، أو أديت شكرها؟. قال:لا. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال:إنك تفعل ذلك بها وأنت تتمنى فراقها، وكانت تفعل ذلك بك وهي تدعو الله لك أن يطيل عمرك).. ولقي ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً في المطاف يحمل أمه على ظهره يطوف بها، فقال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال:ولا بزفرة واحدة من زفراتها. الله أكبر، ما أعظم الحق وما أشد تقصير الخلق، ولكن نسأل الله أن يعاملنا بعفوه ومغفرته إنه جواد كريم..

فيا أيها الأبناء ويا أيتها البنات: صرخة مدوية أطلقها من هذا المكان المبارك، في هذا اليوم المبارك، اتقوا الله في الآباء والأمهات، (بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ) واعلموا أن رضا الله في رضا الوالدين، وأن سخط الله في سخط الوالدين؛ وإن مما يملأ القلب أسى وحسرة، صور نراها وحقائق نسمعها من تساهل كثير من الأبناء في بر والديهم، فلا تقدير ولا احترام، ولا سمع ولا طاعة، ولا بر ولا أدب، بل غلظة وفظاظة، ونهر وعقوق، من الأولاد والبنات من بلغ خِسَّةً ونذالة وصفاقة: أن يأمره أبوه أو أمه فيهز كتفيه، ويثني عطفيه، ويدير ظهره، وكأن الأمر لا يعنيه شيئاً! بل قد يعبس وجهه، ويقطب جبينه، ويرفع صوته، ويسئ أدبه، ضد أمه وأبيه!. وربما شتم ولطم بكف أو رفس برجل، أما علم ذلك المخذول الغافلُ: أن عمله هذا سبب لشقائه، في الدنيا والآخرة، فالويل له، ثم الويل له يوم عرضه على مولاه، بل من الأبناء من وصل بهم تردي الحال ألا يتورع أن يرفع شكوى قضائية ضد أبيه أو أمه في المحاكم،  أو يتقدم ببلاغ ضدهم في مراكز الشرطة أو دور الحقوق وغيرها، لماذا كل هذا؟ أمن أجل حفنة من المال أو شبر من الأرض؟ فهل وصل الحال بأمة خير الورى لهذه الدرجة من العقوق؟ ومنهم من يترك أباه وأمه عند كبر سنهما أو مرضهما في مراكز المسنين ودور الرعاية الاجتماعية، أو في رعاية الخدم، وتمر الأيام والشهور وهو لا يعلم عنهم شيئاً! أين الإيمان؟ أين الفضيلة؟ بل أين الرحمة والإنسانية؟ لقد قلب أولئك لآبائهم ظهر المجنَّ. ومن الأبناء من إذا تزوج نسى أبويه، وأهمل شأنهما،منشغلاً بما لديه من جديد، وكم هي صور المعاناة التي تعانيها الأمهات من جراء تفضيل الزوجة على الوالدة، بل أن بعضهم قد يتطاول على أبيه أو على أمه في مرأى ومسمع من زوجته وأولاده! ألا بئس ما صنعوا،وتباً لما فعلوا!  ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم!  نعم: عليكم،  أيها الأولاد، الشباب والشابات، أن تَرْعَوْا حقوق الوالدين بالبر والإحسان والتقدير والاحترام، وعليكم أيها الآباء والأمهات أن تكونوا عوناً لأبنائكم في بركم والإنفاق عليهم والسعي في تلبيةِ حاجاتهم، على قدر استطاعتكم من غير بخل ولا تقتير، وألا تكلفوهم ما يشق عليهم، وألا تتدخلوا في خصائص شئونهم لاسيما بعد البلوغ أو بعد الزواج، لما يسبب ذلك من حل وشائج الصلة، وفصم عرا المحبة والوئام، ويؤخر بناء الشخصية المستقلة المسئولة… ومن الناس لقلة فقهه يجعل بره وإحسانه لأصدقائه وزملائه، فيطيع زملاءه ويبر أصدقاءه، ويعق أمه ويجفو أباه! بل إنك لتأسف لمن تجد عليه مظاهر الصلاح والانشغال بشيء من العلم أو الدعوة ثم هو لا يجعل لوالديه حظاَ من التقدير والرعاية والبر والعناية. ومهما كان على الأبوين من تقصير وإهمال وتفريط، فبرهما واجب متعين قال تعالى:(وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إن حق الوالدين عظيم، ومعروفهما لا يجازى، وإن من حقهما المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، والتأدب أمامهما، وصدق الحديث معهما، وتحقيق رغبتهما في المعروف، والإنفاق عليهما ما استطعت:جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنت ومالك لأبيك).ألجأ إلى الدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات، اعترافاً بالتقصير وأملاً فيما عند الله (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) فاتقوا الله-عباد الله- والله الله في البر والصلة والإحسان قبل فوات الأوان! والتوبة التوبة، أيها المقصرون في أداء الحقوق، والواقعون في شيء من العقوق، قبل أن تقول نفس: (يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ)

اللهم ارحم آبائنا وأمهاتنا، اللهم اغفر لهم وارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فاتقوا الله-عباد الله-وأدو حقه كما أمركم، واعلموا أن الله تعالى كما أمر ببر الوالدين وأداء حقوقهما، فقد نهى عن القطيعة والعقوق، وجعل ذلك كبيرة من كبائر الذنوب الموجبة لسخط الجبار، والمعرضة لعذاب الواحد القهار، يقول صلى الله عليه وسلم: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟ قالها ثلاثاً، قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ قالَ الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ… فانظروا رحمكم الله كيف قرن العقوق بالشرك، عياذا بالله؟ ويقول صلى الله عليه وسلم،(إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ) ويقول: (إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أَمَّهُ) وإنك لسامع من ذلك في دنيا الناس عجباً!. ويقول صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ)، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدهُمَا أَوْ كِلَيْهمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ) كما ورد، أن من الثلاثة الذين لا يدخلون الجنة: (العاق لوالديه)… أيها الأخوة والأخوات في الله: إن بر الوالدين متأكد في جميع مراحل الحياة، لاسيما عند المرض والكِبَر بل إنه يستمر حتى بعد الوفاة، فقد سئل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: هَل بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيءٌ أَبُرُّهُمَا بِهِ بَعدَ مَوتِهِما؟ فقال: نَعَم، الصَّلاَةُ عَلَيهِما، والاسْتِغْفَارُ لَهُما، وإِنْفَاذُ عَهدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِم الَّتِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وإِكرَامُ صَدِيقِهِما). وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من أبَرَّ البِرِّ، أنْ يَصِلَ الولد أهْلُ وُدِّ أبيه)  نعم يا عباد الله صلة أهل ود الوالدين من الأصدقاء والأرحام -العم والعمة والخال والخالة- بزيارتهم وتفقد أحوالهم والإحسان إليهم إن هذه الأعمال مما يَفرح به الوالدان بعد موتهما، لتخفيف ما عليهما من سيئات، وزيادة في الحسنات. إنهما هناك في قبريهما يتشوّقان إلى دعوة صالحة من ولد صالح في جوف الليل، يتطلّعان إلى صدقة جارية من كسب طيب تجلب لهما الرحمة، وتدفع عنهما البلاء ويرضى عنهما رب الأرض والسماء.. يقول: صلى الله عليه وآله وسلم: (بِرُّوا آباءكم تَبَرُّكُمْ أبناؤكم)، والله يا عبد الله ما ذكرت والديك بعد وفاتهما إلا سخر الله لك من يذكرك كما ذكرتهما، والله ما ذكرت الوالدين بدعوة صالحة فنفس الله بها في القبور كرباتهما، أو رفع بها درجاتهما؛ إلا سخر الله لك من يذكرك إذا صرت إلى ما صاروا إليه، فإن الجزاء من جنس العمل.. فاستيقنوا هذا رحمكم الله، فالبر بجميع وجوهه: زيادة في العمر، وكثرة في الرزق، وصلاح في الأبناء، فمن بر والديه بره أبناؤه.

والعقوق خيبة وخسارة وخذلان، قال كعب الأحبار رحمه الله : (إن الله ليُعجل هلاك العبد إذا كان عاقًا لوالديه ليُعجل له العذاب، وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً بوالديه ليزيده براً وخيراً)

عباد الله: إني أدعوكم جميعاً ونفسي أولاً من هذا المكان المبارك، وكل من سمع هذه الخطبة، أن يعاهد الله تعالى، إن كان بينه وبين والديه خِصام أو خلاف، أن يصلحَ ما بينه وبينهم، وأن يطبع قبلة حب على جبينهم ومن كان مقصّراً في بر والديه، فليعاهد الله أن يبذل وسعه في بر والديه، ومن كان براً بهما، فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميِّتَين أو أحدهما فليتصدّق لهما، ويبرهما بدعوة صالحة، أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما. ويفعل القرب والطاعات المختلفة، ويهدي ثوابها إليهما…

اللهم ارحم والدينا وأعنا على برهم أحياءً وأمواتاً، حتى يرضوا عنا فترضى. اللهم أغفر لهم واجعلهم في ضمانك وأمانك وإحسانك، وأدخلنا معهم الجنة مع الصالحين الأبرار، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين..

اللهم من أراد بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وقيادتنا وجيشنا ورجال أمننا، من أرادهم بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء..

اللهمَّ ارفع البلاء والوباء وسيء الأسقام والأمراض عنا وعن الناس  أجمعين.

 اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان. اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ المسجد الأقصى مسرى نبيك،  وحصنه بتحصينك وأكلأه برعايتك، واجعله في حرزك وأمانك وضمانك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم بارك لنا فيما بقي من رجب وشعبان وبلغنا رمضان يا سميع الدعاء.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

 خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين