الجمعة 2 ذو القعدة 1440 هـ
الموافق 5 يوليو 2019 م
الحمد لله خالقِ الدُّجى وفالِق الإصباح، لا إلهَ إلاّ هو عزَّ فارتفَع ووصَل وقطَع وحرّم وأباح، نحمده سبحانه ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، ونسأله الهدَى والصّلاَح، ونشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، عنده مفاتِح الغيب لا يعلمها إلاّ هو، ويعلم ما في البرّ والبحر وما تذروه الرِّياح، ونشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّداً عبد الله ورسوله وصفيُّه وخليله، هو المفدَّى بالمُهَج والأرواح، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه، صلاةً وسلاماً دائمين بالغدوِّ والرَّواح، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ.
أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: لئن كان قدرنا ونصيبنا في مثل هذه الأيام الحارة من الصيف، أن ننال من الشمس الشيء الكثير، فديارنا حارة ، وشمسنا لاهبة، لذا فإن كثيراً من الناس القادرين على السفر، يعدون العدة للهروب منها، ومن سمومها ، ينشدون الراحة والأجواء المعتدلة ، وإننا بهذه المناسبة فإننا لن نعدم فوائد وعبر نجتنيها من هذا الحر، ووقفات تأمل واعتبار نجدها في عجيب صنع الله عز وجل الذي أتقن كل شيء، وكل شيء عنده بمقدار، ولقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن من صنع أولي الألباب والعقول الوافرة، التفكر في خلق الله، والتأمل في آيات الله الكونية، قال سبحانه :(إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتلاَف ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـات لأوْلِي ٱلألْبَـاب ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـاطلاً سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)… وإليكم عباد الله هذه الوقفات مع حر الصيف الشديد، لأخذ الدروس والعبر من هذه الظاهرة المتكررة:
الوقفة الأولى: من أين يأتينا الحر؟ وما مصدر هذه الأجواء الساخنة التي نكتوي بها في هذه الأيام… لعل كثيراً من المسلمين تخفى عليهم هذه الحقيقة التي أخبرنا عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقوله: (اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ) فإذا كان هذا الحر الشديد، والشمس المحرقة، إنما هي نفس من أنفاس جهنم فيا ترى ما عذابها إذاً،أجارنا الله جميعاَ من جحيمها وعذابها؟..
رأى الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه حال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، وأنشد يقول:
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ
أَوِ الغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ
فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْماً رَاغِماً جَدَثَاً
فِي ظِلِّ مُقْفِرَةٍ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ
يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَى فِي غُمَّةِ اللَّبَثَا
تَجَهَّزِي بِجَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ
يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا
وهل تذكر العاصي لربه عز وجل تلك النار التي توقد وتغلي بأهلها حين أقدم على معصية الجبار سبحانه، مستهيناً بمولاه وجاحداً لنعمته عليه، ومتناسياً ما أعد من العذاب والنكال للعصاة والمخالفين والمجرمين والمتكبرين.
الوقفة الثانية: هل استشعرنا عظم نعمة الله علينا حين يسر لنا من وسائل التبريد والتكييف ما تطمئن به النفوس، ونتقي بها أذى الشمس وسمومها، فشكرنا ربنا على ذلك وتركنا الإسراف في استعمال هذه الأجهزة؟
الوقفة الثالثة: إن كنا نستطيع اتقاء الحر والشمس في هذه الدنيا بما أتاح الله لنا من الوسائل والأجهزة، ويمكننا السفر إلى بلاد الاصطياف الباردة المنعشة اليوم، فسيأتي يوم شديد الحر عظيم الكرب، أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم). وأخرج البخاري أيضاً في حديث الشفاعة الطويل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهن الراوي في الحديث ـ وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ (هَذَا رَبِّي ) و قَوْله لآلهَتِهِمْ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقَوْله (إِنِّي سَقِيمٌ) ثم قال: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى ابن مريم، فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبياً اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه، فيقول عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب. فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال: والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى)….
عباد الله: هل تذكرنا ذلك، وأعددنا لذلك اليوم عدته، (يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ). وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً) قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه..
الوقفة الرابعة: هل الحر عائق عن طاعة الله، أم أن الصفوة من عباد الله يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت؟ هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه حين حضرته الوفاة لم يتأسف على مال ولا ولد، ولم يبك على فراق نعيم الدنيا، ولكنه تأسف على فوات قيام الليل، ومزاحمة العلماء بالركب، وعلى ظمأ الهواجر بالصيام في أيام الحر الشديد، خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم فقال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم، فقال أبادر أيامي هذه الخالية.. ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه موصياً أحبابه: صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور… وحين خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك وكانت في حر شديد تواصى المنافقون فيما بينهم بعدم النفير في هذا الحر فجاء الوعيد من الله: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) وحين يخرج المصلي إلى صلاة الظهر أو العصر فيرى الشمس اللاهبة ويحس بالحر اللافح، ولكنه يطمع في رحمة رب العالمين ويدخر هذا المخرج عند الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم… الوقفة الخامسة: ابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، وهذا من طبع البشر ولكن المسلم يرضى بما قدر الله من خير أو شر، قال رسول الله صلى الله عليه سلم: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). ولن يعدم المؤمن أحد هذين الخيرين بشرط الرضا والشكر والصبر، ومن حرم الصبر على ما قدر الله فهو المحروم… الوقفة السادسة: هذه الشمس بضخامتها ولهبها المحرق تسجد بين يدي ربها مطيعة مذعنة كما ثبت في الحديث الصحيح، وذلك قوله تعالى: (وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ)… وصدق الله العظيم: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)
لقد استجاب الكون كله لله، الأرض والسماء، النجوم والأشجار، الجبال والبحار، الزروع والأنهار، الكل لبّى مطيعاً مذعنًاً خاشعاً خائفًاً مسبحاً لله ، فعلام يتكبر بعض بني آدم عن الخضوع والسجود لربهم، طاعة له، وامتثالاً لأمره، قبل أن يحال بينهم وبين السجود،أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ، خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ، وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَـٰلِمُونَ) نسأل الله عزّ وجل أن يوقظ قلوبنا، وأن يصلح نفوسنا، وأن يجعلنا من عباده المعتبرين المتبصرين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون:يتحدث علماء الطبيعة اليوم،عَمّا يُسمَّى بالاحتِباسِ الحرَارِيّ في الأرض، ويَنسَى هؤلاءِ أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ وبيدِه، يُقلِّبه كيف يَشاء، فعلى العباد أن يعلَموا أنَّ الأَرضَ اليومَ تعُجُّ بمعاصِي العِباد وبمخالَفَتهم لمنهجِ الله عز وجل، وأنَّ الظلمَ قد سَادَ كَثيراً من مواطن الخَلقِ، وكثُر الهرجُ والمرج، واستُهينَ بِالدِّماء، واستُبيحَت الأعراضُ، وهُتِكت المقدَّرات من أقوياءِ الخَلق على ضُعفائهم، وارتكبت المحرمات،وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس،فابتلاهم الله بالعقوبات المتنوعة وبالأمراض والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا،( أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) فعلى الخلق جميعاً أن يعودوا إلى الله عز وجل، وأَن تعلَمَ البشريّةُ أنها عِبادٌ مِن عِبادِ الله، ارتَضَى الله لها الإسلامَ دينًاً ومحَمّداً نبيًّاً ورسولاً، ولا يُصلِح فسادَ مَعَاشِهم وآخِرَتهم إلاّ هذا الدينُ الذي جاءَ بِه النبيُّ الأكرم محمّد عليه أفضل الصلاة والسلام، وإلاّ فلتَعلَم البشريّةُ أنَّ سنّةَ الله ماضِيةٌ، وقدرتَه شامِلَة، وانتقامَه شديد، ممن خالفه وعصى أمره،وصدق الله العظيم حيث يقول:(فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
ذَكَر المفسّرون في قصّة قوم شعَيب عليه السلام عن ابنِ عباس وغيره رضي الله عنهم، عند قولِهِ تَعَالى: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) قال: أرسَلَ الله إليهم سَموماً من جَهنّمَ، فأَطافَ بهم سبعةَ أيّام حتى أنضَجَهمُ الحرُّ، فحَمِيَت بيوتهم وغَلَت مياههم في الآبار والعيون، فخَرَجوا من منازلهم هارِبين والسَّموم معهم، فسلَّط الله عليهم الشَّمسَ من فوقِ رؤوسهم فغَشِيَتهم، وسلَّط الله عليهم الرَّمضاءَ مِن تحتِ أرجُلِهم حتى تساقَطَت لحومُ أرجُلِهم، ثم نَشَأت لهم ظُلّة كالسّحابة السوداءِ، فلمّا رَأَوها ابتَدَروها يستغيثونَ بظلِّها، فوجَدوا لها برداً ولذّةً، حتى إذا كانوا جميعاً تحتَها أطبقَت عَلَيهم وأمطَرَت عليهم ناراً فهلَكوا، ونجّى الله شعيباً والذين آمنوا مَعَه… فيا من لا يطيقون حرارة الجو والصيف، يا من لا يتحمّل الوقوف في الشمس ساعة، كيف أنتم وحرارة جهنم؟! والله ثم والله، لسنا لها بمطيقين، فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد،ومقامعها حديد، صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن أنعم أهل الأرض من أهل الدنيا يؤتى به يوم القيامة، فيُغمس في النار غمسة، فيقال: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بي نعيم قط) ينسى كل نعيم الدنيا بمجرد غمسة واحدة في جهنّم مع أنه أنعم أهل الأرض! أليست جهنم ـ يا عباد الله ـ أولى أن يُفرّ منها؟! نصح أحد علماء السلف ابنه فقال:
تَفِرُّ مِنَ الهَجيرِ وَتَتَّقيهِ
فَهَلّا عَن جَهَنَّمَ قَد فَرَرتا
وَلَستَ تُطيقُ أَهوَنَها عَذاباً
وَلَو كُنتَ الحَديدَ بِها لَذُبتا
فَلا تُكذَب فَإِنَّ الأَمرَ جِدٌّ
وَلَيسَ كَما اِحتَسَبتَ وَلا ظَنَنتا
اللهم يا سامع الصوت، ويا كاسي العظام لحماً بعد الموت! نسألك أن تجعلنا من أهل الجنة، (الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وأن تعتق رقابنا من النار، اللهم اعتق رقابنا، ورقاب آبائنا، وأمهاتنا، وأزواجنا، وأولادنا وذرياتنا، وأقاربنا، وذوي أرحامنا، ومن له حق علينا، ومن أحبنا فيك، ومن أحببناه فيك، اللهم اعتق رقابنا جميعاً من النار…
رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً.. اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الجَنَّة وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَنعُوذُ بِكَ مَنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ. اللَّهُمَّ أَظِلَّنِا تحت ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّكَ يارب العالمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…
اللهم كن للمستضعفين والمظلومين ناصراً ومؤيدا، اللهم انصرهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي كل مكان.
اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا واشف مرضانا، وارحم الله موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…
عِبَادَ الْلَّهِ: إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ). فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين