18 ربيع الآخر 1439هـ
5 يناير 2018م
الحمد لله الحليم الستار، غافر الذنب وقابل التوب العزيز الغفار، نحمده سبحانه، جمل الإنسان بالستر وأمره بالتقوى والبر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالعفة والحياء، والطهر والنقاء، والستر والصفاء، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، تغاضى عن العيوب بسترها، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأزواجه وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسِي بتقوَى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشرَ المسلمين: إن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه، وأسجد له ملائكته ونعمه، وأحسن تصويره ورزقه، وأمره بستر عرضه وبدنه، وهيأ له ما يستر به عورته ويواري سوءته، يقول الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ، ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)
فالستر من نعم الله تعالى التي امتن بها على الإنسان، وبه تميز عن الحيوان، وبه يشرف قدره، وتعلو منزلته.. ما أجملَ الستر! وما أعظم بركتَه! وأبهى حُلَّته! الستر خُلُق الأنبياء، وسيما الصَّالحين، يورث المحبة، ويُثمر حسن الظَّن، ويُطفئ نارَ الفساد.. هو جوهر نفيس، وعُملةٌ ثمينة، وسلوكٌ راقٍ.. الستر طاعةٌ وقُربان ودِين وإحسان، به تَحفَظُ الأُمَّة ترابُطَها وبُنيانها، وبه تقومُ الأخلاق، ويبقى لها كيانها… وصف الرَّحمن نفسه به، فهو سبحانه ستِّير يستُر كثيراً، ويحبُّ أهل السَّتر؛ ففي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلَّم: (إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّير، يُحب الحياء والستر)… أقرَّ الإسلامُ بهذا الخلق الكريم، وحضَّ وكافأ عليه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (ومَن سَتَرَ مُسلماً في الدُّنيا، ستره الله في الدُّنيا والآخرة)..
ولأجل السَّتْر عباد الله، شرع الإسلام حد القذف؛ حتَّى لا تكون الأعراضُ بعد ذلك كلأً مباحًا.. ولأجل الستر أمر الشارعُ في إثبات حدِّ الزنا بأربعة شهود؛ حمايةً للأعراض، وصَوْناً للمحارم.. ولأجل الستر أيضاً توعَّد الجبارُ أهلَ السوء، الذين يُحبون إشاعة الفاحشة بالعذاب الأليم؛ فقال تعالى محذراً: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ).. ومن أجل الستر أيضاً نَهى الإسلامُ عن التجسس على الآخرين؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) يقول أهل التفسير: التجسسُ: البحثُ عن عيبِ المسلمين وعورتهم، أمَّا خَيْر الخلق وأَعْرفُ الخلق بما يُرضي الله تعالى فقد كان عظيمَ الحياء، عفيفَ اللِّسان، بعيداً عن كشف العورات، حريصاً على كَتْم المعائب والزلاَّت، كان إذا رأى شيئاً يُنكره ويكرهُه، عرَّض بأصحابه وألمح، كم من مرَّة قال للناس: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)، (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا). لقد أدَّب المصطفى صلى الله عليه وسلم أمَّته، فأحسن تأديبها يومَ أنْ خطب بالناس، فقال بنبرةٍ حادَّةٍ وصوتٍ عالٍ: (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ، يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ)
بهذا المنهج، وهذه العِفَّة، تربَّى السلف الصالح رضوانُ الله عليهم، فستروا عيوبَ النَّاس، وطَوَوا معائبَهم.. يقول أحدهم: (لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلاَّ ثوبي، لأحببتُ أن أستره به) ويقول آخر حين سمع ذاك الرَّجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني عالجت امرأةً،(أي استمتعت بها)، فأصبت منها دون أن أمسَّها، بادره بقوله: (لقد سترك الله، لو سترت على نفسك). يعني كان يكفيه أن يستغفر الله ويتوب إليه، بدون أن يفضح نفسه.
وهذا عبد الله ابنُ مسعود رضي الله عنه يُؤتى إليه في مَجلسه برجلٍ، فقيل له: هذا فلان تقطر لحيتُه خمراً، (أي: كثيراً ما يشرب الخمر) فقال : إنَّا نُهينا عن التجسس ولكن إنْ يظهر لنا منه شيءٌ، نأخذه به ونحاسبه.
عباد الله: وأَوْلى النَّاس بالسَّتْر: أن يستر العبدُ نفسَه، ويُغطي عَيْبه، فليسَ من العافية – نسأل الله العافية – أنْ يفاخرَ العبدُ بالذنب أو يُباهي بالخطيئة، ليس من العافية تسميع العباد بالذُّنوب الخفيَّات، وخطايا الخلوات؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ) الستر على النفس بعد الخطيئة عملٌ فاضل مطلوب، يُرجى لصاحبه أنْ يكرمه ربه بالستر عليه في الآخرة، يقولُ صلى الله عليه وسلم: (يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَيَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ) .. عباد الله: وأحقُّ الناس بالستر وكتم العيب هم ذوو الهيئات وأهل المروءات، الذين ليس مِن عادتِهم المجاهرة بالمعاصي، وليسوا من المسوِّقين للمنكرات المروجين لها، فالستر على هؤلاء يأتي في الصَّفِّ الأول والمقام الأكمل؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات من عثراتهم إلاَّ الحدود) أي أصحاب المناصب والجاه ومن لهم شأن في المجتمع. إذا وقع أحدهم في زلة لم تعهد عنه، إلا ما كان حداً من حدود الله تعالى وبلغ القاضي فيجب إقامته عليه حينئذ.
أيها المؤمنون: إذا قلَّبنا النَّظر في مُجتمعات المسلمين اليوم، نرى ظاهرةَ نشر الفضائح، وإشاعة القبائح قد انتشرت انتشاراً مروِّعاً، عَبْرَ الهواتف المحمولة وصفحات (الإنترنت) ووسائل التواصل الاجتماعي والمراسلات، وشاشات الفضائيَّات، حتَّى غدت هذه الأخبار وأحداثها أسرع انتقالاً، وأوسع انتشاراً، فلا دِين يَمنع، ولا خُلُق يردع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصِنفٌ من الناس – هداهم الله – تراه سمَّاعاً لقَالة السوء، نقَّالاً لأخبار الفَساد، يتلذَّذ بإشاعتها وإذاعتها، يتصدَّر المجالسَ بالتجريح والطعن في الأعراض، وكشف المساوئ والعيوب، الظَّن عنده يقين، والإشاعة في منطقه حقيقة، والهفوة في ميزانه خُلق دائم، لا يمل من تكرار الأخبار المشئومة، ولا يفتر من ترصد الأحداث المرذولة… أيها المسلمون: إنَّ بثَّ مثلِ هذا القاذورات وانتشارها آفةٌ خطيرةٌ، ومرض موجع، يفسد الدين، ويخرب الدنيا، فإذا تهتكتِ الأستارُ، تكسَّرَ الحياء من النُّفوس، وإذا نزع الحياء، فكَبِّرْ على العِفَّة والطهر بعدها أربعاً… إذا علم العاصي، وكُلنا ذاك العاصي، أنَّ الأفواه لاكته، والنَّظرات قد نهشته، والأصابع قد أشارت إليه، لم يبالِ بعدها بمجاهرةٍ في مَعصية، أو مفاخرة في ذنب. يقول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: (إنَّك إن اتَّبعت عَوْرَاتِ النَّاس، أفسدتهم أو كدت أن تفسدَهم)…نعم عباد الله، إن شيوع الفاحشة، وانتشار شرارتِها الأُولى وإذاعة الأخبار السيِّئة، والمعاصي الخفية، تجرئ حينها وبعدها ضعاف النفوس ومرضى القلوب، على مُعاقرتها في الهواء الطلق، بلا خوفٍ من خالقٍ أو حياءٍ من مخلوق. وإذا انتشرتْ المعائب، وأُفْشِيَت المثالبُ، فلا تسلْ بعد ذلك عن عدم ثِقَة الناس بعضهم ببعض، ولا تَسَلْ أيضاً عن الاعتراك والتصادُم بين أفراد المجتمع الواحد؛ إذ إنَّ إشاعة عورات الآخرين سببٌ لبذر الإِحَن والمحن، وتنافر القلوب وعدم الْتِمَامها.
أيها الأخوة والأخوات في الله: الستر على المعاصي لا يعني ترك مناصحة مَن وقع فيها، وإسداء التوجيه المناسب لهم، ولا يعني إسقاطَ الحدِّ على من وجب عليه الحد. والستر على الخطايا أيضاً لا يعني تهوينها في النفس، وموت القلب تجاهها، فالقلب الذي لا ينقبض غيرةً على دين الله، وحرمات المسلمين، هو قلبٌ خاوي الإيمان. وليس وراء إنكار القلب حَبَّة خردل من إيمان؛ كما قال – صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: وإذا كان نشر فضائح العباد قد ذَمَّ الشرعُ فاعله وتوعده، فكيف بمَنْ يتهمون الآخرين بالظن، ويشيعون التُّهَمَ بالوهم، يفترون على الأبرياء، ويشوهون صورة الفضلاء والولاة والمسئولين، والعلماء والمصلحين والدعاة بالإفْكِ والبهتان، فهذا الرجم بالإثم إن استهان به مَن استهان، فهو عند الله عظيم وجُرم كبير؛ يقول تعالى: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ)
أيها المؤمنون: وأشنع من التشهير بالمعصية وأقبح، أنْ يُعيِّر المرءُ أخاه بالذنب، ويعيبه ويتنقصه بالمعصية، فهذا، لعَمْر الله، خُلُقٌ دنيء، وسلوك تأباه الشِّيَم،يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تظهر الشَّماتة لأخيك، فيعافيه الله ويبتليك) ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: (المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر ويفضح)، ويقول الحسن البصري رحمه الله: كان يقال: مَن عَيَّر أخاه بذنب تاب منه، لم يَمتْ حتَّى يبتليه الله به.
فيا مَن يرجو الله واليوم الآخر، لسانَك لسانَك، صُنْه عن أعراض المسلمين، وسمْعَك سمعَك، صُنه عن التحسُّس والتجسس، فهذا – وربي – عملٌ ليس بخير، ولا يأتي بخير.
تذكَّر أخي المسلم، كما أنَّ للناس عيوباً، لك عيوبٌ أيضاً، وكما أن لهم حرماتٌ ومحارم، لك أيضاً مثل ذلك.. تذكر أنَّ الجزاءَ من جنس العمل، جزاءً وفاقًاً، فمن فضح إخوانَه المسلمين، سلَّط الله عليه ألسنةً حداداً تهتك ستره، وتفضح أمره.
يقول بعضُ السلف: أدركتُ أقواماً لم يكُن لهم عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناس، فذكر الناسُ لهم عيوباً، وأدركت أقواماً كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوب الناس، فنُسِيَت عيوبُهم.
أيها المسلمون : وإذا جعل المرءُ مَخافةَ الله بين عينيه واستشعر حقًّاً وصدقًاً أنَّه سيتحمل وِزرَ كلِّ كلمة تهدم ولا تبني، لعفَّ لسانُه، وصَلَحَ منطقُه، وزان قولَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيراً أو ليصمت.
وأخيراً، إخوةَ الإيمان فخُلُقُ الستر هو الأصل والأساس في التعامُل مع الخطأ والأخطاء، إلاَّ أنه أحياناً يكون التشهير والفضيحة هو الدَّواء وهو النصيحة، فإذا أعلن المرءُ فجوره، ودعا له ونادى، كان التحذيرُ منه وفضحه أسلوباً واجباً لا تبرأ الذِّمَّة إلا به… سُئِلَ الإمامُ أحمد رحمه الله: إذا عُلِمَ من الرجل الفُجُور، أيُخبر به النَّاس، قال: لا، بل يستر عليه؛ إلاَّ أن يكون داعية لهذا الفجور.
ويكون التشهيرُ بأهل المعصية مطلوباً أيضاً إذا كان ضررُها متعدِّياً للمجتمع كلِّه؛ كمن يروج للانحرافات العَقديَّة والفكرية، ويدعو للعنف والإرهاب، أو وينشر الفواحش والمنكرات والفساد في المجتمع، أو يتعاطى السِّحر والكهانة والشَّعوذة، أو يروِّج للمُخدِّرات، أو يهدد الأمن ويتآمر على البلاد والعباد، ويتعاون مع الأعداء، فهؤلاء يَجبُ فضحُهم وهَتْك سترهم؛ حماية للدين، ونصحاً للأمة، وحفظًاً للأعراض والعقول والدِّماء. نسأل الله تبارك وتعالى أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويتجاوز عن زلاَّتنا وهفواتنا، وأن يصون عوراتنا، ويؤمن روعاتنا؛ إنَّه سبحانه قريب مجيب الدعاء.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون: لقد حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، على سَترِ العوْرات، بأحاديثَ كثيرةٍ منها: قولُه صلى الله عليه وسلم: (لا يَسْتُرُ عبدٌ عبداً في الدُّنيا إلا سَتَرَهُ اللهُ يومَ القيامة) والسَّترُ عباد الله: إخفاءُ ما يظهرُ من زلاَّت الناسِ وعيوبهم وعوراتهم، وتجنُّبُ فضحِهم قولاً وعملاً، همزاً وغمزاً، إشارةً وإيماءً. والعَورةُ: كلُّ ما يُستقبَحُ ظُهورُه للناسِ حِسِّيّاً كان أو معنويًاً من الأفعال والأقوال والأبدان والهيئات والأحوال.. وتتبُّع العورات حفظكم الله وحماكم هو الاستشرافُ إليها، والفُضولُ في البحثِ عنها، ومُتابعةُ ما يتعلَّقُ بها بنظرٍ أو سماعٍ أو غير ذلك، وسَترُ ذلك كلِّه يُطفِئُ نارَ الفساد، ويُشيعُ المحبَّةَ، ويُثمرُ حُسنَ الظنِّ بالله وبالناسِ. ولله در القائل:
إذا شِئتَ أن تَحيا سليماً مِنَ الأَذى
وحَظُّكَ مَوفُورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
لسانُكَ لا تذكرْ بهِ عورةَ امْرىءٍ
فكلُّكَ عوْراتٌ وللناسِ أَلْسُنُ
وعينُكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِباً
فَصُنْها وقُل يا عينُ للنَّاسِ أعينُ
وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ منِ اعتَدَى
وفارِقْ ولكنْ بالتي هي أحسَنُ
أيها الأخوة والأخوات في الله: ومما ينبغي التنبيه عليه هنا هو ما أنتشر بين الناس من استخدام الهواتف النقالة التي تحتوي على كاميرات للتصوير، في تتبع العورات المحرمة، فهذه قد عم البلاء بها ، وقد كشفت بها عورات، وهتكت بها أعراض، ونشر بها الفساد، وأصبح بعض من لا يخشى الله تعالى يشتريها ليستعرض بها صور العهر والمجون والفساد، وأصبح من نزع الله التقوى من قلبه، ونزع الإيمان من صدره يستخدمها في إشاعة الفاحشة بين المؤمنين والمؤمنات، فتصور بها المؤمنات العفيفات الغافلات في المدارس والجامعات والأسواق والمجمعات والمتنزهات، وصالات الأعراس، وهؤلاء نحذرهم من عواقب هذه الجرائم التي يرتكبونها، وندعوهم للتوبة إلى الله والرجوع عن هذه الأفعال المحرمة، فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل ، ونتلو عليهم قول الله تعالى في الآية السابقة: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فليتق الله أولئك المفتونون بتلك الصور المحرمة التي تعرض على هذه الهواتف، وليتقوا الله في أعراض المسلمات الطاهرات العفيفات الغافلات، ولتعلم أيها المسلم أن الله مطلع على سرك ونجواك، مراقب لك في كل أحوالك ، فكيف تأمن مكر الله بك وأنت مصر على معاصيك؟ كيف أمنت من أن يبتليك الله بمرض، أو يعاجلك بعقوبة نتيجة كشفك لعورات عباد الله المؤمنين. فاتقوا الله عباد الله وإياكم وتتبع عورات المسلمين أصحاب المعاصي المستترين بذنوبهم ومعاصيهم، وعليكم بنصيحتهم وتحذيرهم من أعمالهم السيئة والحرص على إصلاحهم ورجوعهم إلى الحق والصواب..أما من كان من المجاهرين بالمعصية أو من كان معروفاً بالشر والأذية والفساد والإفساد فهذا يرفع أمره للجهات المختصة كي تردعه ولكي لا ينتشر شره وضرره بين الناس. وكذلك من كان من أهل البدع في الدين الداعين إليها يجب التحذير منه ومن بدعته بالحجج والأدلة لمن قدر على ذلك حتى لا ينخدع الناس بكلامه فيقعوا في بدعته…
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا ومالنا،اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وآمن روعاتنا , اللهم يمِّن كتابنا، ويسِّر حسابنا، وثقِّل موازيننا، وحقِّق إيماننا، وثبِّت على الصراط أقدامنا، وأقرّ برؤيتك يوم القيامة عيوننا، واجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أيامنا يوم لقاك.
اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم لا تشمت فينا عدواً ولا حاسداً ولا قريباً ولا بعيداً يارب العالمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…
اللهم انصر جندك وعبادك المستضعفين، وأيدهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي كل مكان، اللهم حرر الأقصى وأرضك المقدسة من أيدي الصهاينة الغاصبين، وارزقنا فيه صلاة طيبة قبل الممات يارب العالمين.
اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وأشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.
خطبة جامع الفاتح – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين