الجمعة 26 ذو القعدة 1441 هـ
الموافق 17 يوليو 2020 م
الحمد لله الغفور الشكور، العفو الصبور؛ ما أحد أصبر على أذى سمعه منه، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم، نحمده على عطائه، ونشكره على نعمائه، ونسأله الصبر في بلائه؛ فإنه سبحانه يمنح المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (بِيَدِهِ مَلَكُوْتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ) ونشهد محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى اله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإن التقوى مع الصبر من صفات ذوي العزم: قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوْا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُوْرِ) وقال لقمان الحكيم لابنه في موعظته له: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُوْرِ)… معاشر المسلمين: الصبر من أعلى مقامات اليقين، وبه مع التقوى تنال الإمامة في الدين، وقد جمل الله تعالى به المرسلين، وأمر به خاتم النبيين،فقال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِالله)، وقال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوْ الْعَزْمِ مِنَ الْرُّسُلِ) ، وقال: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) وَأَوَّلُ سُوْرَةٍ نَزَلَتْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْصَّبْرِ حَاضِرَاً فِيْهَا (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) وآيات سواها كثيرة في كتاب الله تعالى… والأخذ بعزائم الشريعة أمراً ونهياً لا يطيقه إلا الصابرون، ومواجهة شر الأقدار بالتسليم والرضا لا يقدر عليه إلا أهل الصبر، وكدر الدنيا وكربها وهمومها تحتاج إلى صبر؛ ولذا أمر المؤمنون أن يستعينوا بالصبر على ذلك كله؛ لينالوا معية الله تعالى وعونه ومدده،(يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آَمَنُوْا اسْتَعِيْنُوْا بِالْصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِيْنَ) وأن يتواصوا به فيما بينهم،(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالْصَّبْرِ) وَأَمَّا الْجَزَاءُ فَعَظِيمٌ جَدَّاً،يقول تعالى: (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا)،ويقول: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِيْنَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ)،ويقول (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُوْنَ)، (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيْرَاً) وَيَكْفِي فِيْ جَزَائِهِم أَنَّهُ بِلَا حِسَابٍ، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)..
وقص الله تعالى أخبار صبر الأنبياء عليهم السلام للتأسي بهم في ذلك؛ ففي صبر أيوب عليه السلام على مرضه الشديد الطويل قال الله تعالى فيه،(إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) وَفِيْ صَبْرِ إِسْمَاعِيْلَ عليه السلام وَهُوَ يُقَدَّمُ لِلْذَّبْحِ، (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِيْنَ) وَفِيْ صَبْرِ يَعْقُوْبَ عليه السلام عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) وَفِيْ َبْرِ يُوَسُفَ عليه السلام عَلَى مَا نَالَهُ مِنَ الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ، (قَالَ أَنَا يُوْسُفُ وَهَذَا أَخِيْ قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيْعُ أَجْرَ المُحْسِنِيْنَ) وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِيَثْبُتَ وَيَصْبِرَ، (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوْذُوْا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)، (وَكُلَّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) فحقق صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الصبر، وتحمل في سبيل الله تعالى أنواع الأذى، وكل ما قص الله تعالى علينا من أنواع الابتلاءات التي ابتليت بها الرسل فإن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمداً صلى الله عليه وسلم قد ابتلي بجميعها وبما هو أشد منها ؛ فصبر صبرا جميلا لا جزع فيه ولا سخط ولا شكاية.
أيها المؤمنون: لقد صبر عليه الصلاة والسلام على أذى المشركين في مكة، وعلى أذى اليهود والمنافقين في المدينة، وكل هذه الطوائف الثلاث حاولوا قتله غير مرة، وصبر صلى الله عليه وسلم على الابتلاءات العظيمة التي ابتلي بها في نفسه وأهله وولده وقرابته، وصبر على شدة الفاقة، وإلحاح الحاجة، وكان ابتلاؤه منذ نشأته عليه الصلاة والسلام…
لقد لازمته الابتلاءات منذ صغره بأبي هو وأمي فولد يتيماً، ونشأ فقيراً، وفجع بموت والدته طفلاً لم يتجاوز ست سنوات، فلم ينسها قط، والطفل لا ينسى فقد أمه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زَارَ الْنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ). ثم فجع بوفاة جده عبد المطلب وهو ابن ثماني سنوات، فأعاله عمه الفقير أبو طالب فضمه إلى بنيه، فأعانه النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل برعي غنم أهل مكة على قراريط… هذا اليتيم الفقير أراد الله تعالى أن يكون خاتم المرسلين، وخيره بأن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا فاختار الثاني. ولما بعث صلى الله عليه وسلم بالرسالة وآذاه المكذبون فجع بموت المدافع عنه عمه أبي طالب، وبموت المواسية له زوجه خديجة رضي الله عنها في عام واحد سمي عام الحزن… لقد فجع صلى الله عليه وسلم في قرابته وأهل بيته كأشد ما يفجع أحد في أهله فتتابع موتهم عليه منذ صغره عليه الصلاة والسلام، ورزق سبعة من الولد: القاسم وعبد الله وإبراهيم ورقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، ماتوا كلهم تباعا أمامه إلا فاطمة فماتت بعده، ودخل صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وهو ينازع الموت فأخذه (فقبله وشمه وضمه… وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله تبكي، فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال عليه الصلاة والسلام: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيْمُ لَمَحْزُوْنُوْنَ). وصبر صلى الله عليه وسلم على قلة ذات اليد، وعانى شظف العيش، ووجد ألم الحرمان، وأحس بقرص الجوع، أخبر عنه بذلك ألصق الناس به، فقالت زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: :(إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثم الهلال ثم الهلال ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِيْ شَهْرَيْنِ وَمَا أُوْقِدَتْ فِيْ أَبْيَاتِ رَسُوْلِ اللهُ صلى الله عليه وسلم نَارٌ) وقالت:(ما أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْلَتَيْنِ في يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ) وَقَالَتْ:(مَا شَبِعَ آَلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ المَدِيْنَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعَاً حَتَّى قُبِضَ) ، وَقَالَتْ:(وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِيْ يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) وَقَالَ خَادِمُهُ أَنَسٌ بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:(مَا أَعْلَمُ الْنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَغِيفَاً مُرَقَّقَاً حَتَّى لَحِقَ بِالله، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطَاً بِعَيْنِهِ قَطُّ، أَيْ: شَاةً مَشْوِيَّةً)، وَأَخْبَرَ عبد الله ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (كَانَ يَبِيْتُ الْلَّيَالِيَّ المُتَتَابِعَةَ طَاوِيَاً وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُوْنَ عَشَاءً، قَالَ: وَكَانَ عَامَّةُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الْشَّعِيْرِ) ، وَقَالَ الْنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:(لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَجِدُ مِنَ الْدَّقَلِ ( التمر الرديء) مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ َ:(لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهُ صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِى مَا يَجِدُ دَقَلَاً يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ). مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الطعام الطيب، والشراب الطيب، لكنه لا يجده من قلة ذات اليد؛ فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل،ويحب الذراع من اللحم، ويتتبع الدبآء، وهي التي تسمى اليقطين أو القرع… وذات مرة أتته ابنته فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز فقال: :(مَا هَذِهِ؟ قَالَتْ: قُرْصٌ خَبَزْتُهُ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى آَتِيكَ بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيْكِ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام)
عباد الله: وكان مرضه صلى الله عليه وسلم أشد من مرض غيره، وحماه أحر من حمى سواه، وصداعه ليس كصداع الناس، قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: (دَخَلْتُ عَلَى رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوَعَكُ وَعْكَاً شَدِيْدَاً فَمَسِسْتُهُ بِيَدِيْ ( فوجدت شدة حرارة جسده) فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ الله، إِنَّكَ لَتُوْعَكُ وَعْكَاً شَدِيْدَاً فَقَالَ: أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ، قال أجل) وسمته اليهود في خيبر، وسرى السم في جسده الشريف فعانى منه صداعاً شديداً، وألماً فضيعاً وهو صابر على ذلك لا يزيد إذا اشتد به الألم على قوله:وارأساه. ومكث وجعه أربع سنوات حتى قطع عرق قلبه فمات صلى الله عليه وسلم؛ كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ الْنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ فِيْ مَرَضِهِ الَّذِيْ مَاتَ فِيْهِ: يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الْطَّعَامِ الَّذِيْ أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ الْسُّمِّ) فعمل صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى له، وصبر كصبر أولي العزم من الرسل حتى لقي الله تعالى وهو صابر محتسب على أذى الناس له، راض بما قضاه الله تعالى وقدره عليه، فصلوات الله ربي وسلامه عليه صلاة وسلاماً تامين دائمين ما تعاقب الليل والنهار..
أيها المسلمون: رغم ما يعيشه كثير من الناس في هذا الزمان من رغد العيش، وتتابع النعم عليهم، وما رزقوا من وسائل الراحة والرفاهية، إلا أن القلوب قلقة، والنفوس ضيقة، والبركة تكاد تكون منزوعة من أوقات الناس وأعمالهم وأعمارهم وأموالهم، ويزعجهم واقعهم بتفصيلاته وتعقيداته، ويخافون المستقبل المجهول، ولا يدرون ما خبئ لهم من الأقدار.. كل أولئك كان سبباً في أمراض القلق والاكتئاب التي قد تودي بأصحابها إلى الهلاك أو الجنون.. ولا وقاية من ذلك كله إلا بالصبر على أقدار الله، الذي أرشد الله تعالى إليه، والصبر يكتسب كما تكتسب سائر الأخلاق، فمن أراد النجاة فليتروض على الصبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: :(وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ)
إن من عاش اليتم فعليه أن يتذكر يتم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره، ومن تألم لفراق أحبته وقرابته فليتذكر فراق أحبة النبي صلى الله عليه وسلم له، وصبره على ذلك؛ فلقد فارقه صلى الله عليه وسلم أمه وجده وعمه وزوجه وبنوه الثلاثة وثلاث من بناته ولم يبق له إلا واحدة… ومن عالج مرضاً مزمناً فليتذكر مرض النبي صلى الله عليه وسلم والسم الذي كان يسري في جسده حتى مات… ومن عانى قلة ذات اليد والحاجة، واهتم لديون ركبته؛ فليتذكر جوع النبي صلى الله عليه وسلم حين كانت تمر عليه ثلاث ليال طاوياً، وليعلم أنه عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة في شيء من شعير.. ومن أوذي في الله تعالى لدعوته، وصدعه بالحق، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فليتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوذي بما هو أشد وأكثر، فقابل الأذى بالحلم والصفح والصبر؛ حتى أظهر الله تعالى دينه، وأعلى شأنه، ورفع ذكره، ودحر أعداءه، وما نال صلى الله عليه وسلم ذلك إلا بالصبر والتقوى.. عباد الله: إن مقومات العيش الكريم ثلاث جمعها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنَاً فِيْ سِرْبِهِ مُعَافىً فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوْتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيْزَتْ لَهُ الْدُّنْيَا) وكل هذه الثلاث افتقدها نبيكم صلى الله عليه وسلم في كثير من فترات حياته؛ فكان لا يأمن غدر المشركين واليهود والمنافقين، وكانت الأمراض تصيبه حتى فتك به السم، وكان يجوع كثيراً من قلة ذات اليد، ولا يأتيه مال إلا أنفقه ولم يدخر لنفسه منه شيئاً، فمن تذكر اجتماع ذلك على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهو خير خلق الله تعالى أجمعين هانت مصائبه ولو كانت عظيمة، وتأسى به في الصبر والرضا.. والابتلاء عباد الله لا بد منه للتمحيص والتطهير، ولا ينجو في أمواج الابتلاء، ومحارق الفتن إلا من تسلح بالتقوى واستعان بالصبر والصلاة،يقول جل وعلا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِيْنَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِيْنَ) ربنا افرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين، اللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنَ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرْكِ الشَقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةَ الأَعْدَاءِ. ونعُوذُ بِكَ مِنَ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيِعِ سَخَطِكَ ياذا الجلال والإكرام.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
فضل أيام العشر من ذي الحجة
الحمد لله الذي شرع فيسر، ودعا العباد لما تزكو به نفوسهم وتتطهر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكل شيء عنده بأجل مقدّر، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أبلغ من وعظ وأصدق من وعد وأنصح من بشَّر وأنذر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب ومعشر، وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: نستقبل بعد أيام قليلة أياماً جليلة فاضلة معظمة، هي أعظم أيام السنة، إنها العشر الأُوَلُ مِن شهر ذي الحجة، وقد نوه الله جل وعلا في كتابه بشأنها وعظمها، وأنها أيام ذكر له سبحانه وتعالى، فقال جل وعلا (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ). وأعلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرها وأكبره وأظهره، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ، أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) أيها المؤمنون: وإذا كانت حكومة خادم الحرمين الشريفين بالمملكة العربية السعودية وفقها الله وجزاها الله خيراً، قد قررت ونعم القرار، تأجيل الحج لهذا العام لعموم المسلمين، وقصرته على أعداد محدودة من مواطني المملكة والمقيمين فيها من داخل السعودية، وذلك نظراً لتفشي وباء كورونا، حفاظاً على سلامة وصحة الحجاج، وحفظاً لأرواحهم، وخيراً فعلت، إذا كان الأمر كذلك، فإن الله تعالى من فضله وكرمه، قد عوضنا عن الحج، بهذه الأعمال الجليلة في هذه الأيام الفضيلة.. وإن التَّقرُب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة في أيام العشر أحبُّ إليه سبحانه مِن التَّقرُب في سائر أيام الدنيا كلها، كما صحت بذلك الأحاديث… وقد رغَّبت الأحاديث في الإكثار مِن الأعمال الصالحة في أيام العشر، كالصلاة والصيام والصدقة وتلاوة القرآن والتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح وذكر الله واستغفاره ودعائه والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأعمال الصالحة وبيَّنت أن الأجور عليها مضاعفة. واعلموا وفقكم الله أنَّ من الأعمالِ المشروعةِ أيضاً في هذهِ العشرِ، المحافظةُ على صلاةِ الفريضةِ، والإكثارُ من نوافل الصلوات كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وصلاة الليل، وصلاة الضحى وغيرها، وهي من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى، وأجلَّها وأكثرهَا فضلاً، قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه: (وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بأحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليهِ، وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فهي سبب من أسباب محبة الله، ومن شملته محبةُ الله حفظه وأجابَ دعاءه وأعاذه ورفع مقامه. وكذلكَ يُستحبُّ للمسلمِ أن يصومَ التسعَ الأولَ من ذي الحجةِ؛ لأنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم حثَّ على العملِ الصالحِ فيها.. وكذلك جميعُ الأعمالِ الصالحةِ التي أَوصى بها اللهُ جلَّ وعلا، ونبيُّه صلى اللهُ عليه وسلم كبرِّ الوالدينِ، وصلةِ الأرحامِ، وقيامِ الليلِ، وتلاوةِ القرآنِ، والبذلِ والإحسانِ، وكفالةِ الأيتامِ، وإعانةِ المسلمينَ، وقضاءِ حوائجهِم، وإفشاءِ السلامِ، وإطعامِ الطعامِ، وسائرِ الأعمالِ الصالحةِ الأخرى.
فاحرصوا رحمكم الله على استغلالِ هذهِ العشرِ المباركاتِ، وليكن همُّكم إرضاءَ ربِّكم، ونيلَ رحمتهِ وجنتهِ. واعلموا يا عبادَ اللهِ أنَّ التجارةَ مع اللهِ ليسَ لها منتهى، وكلٌّ حسَّبَ قدرتِه وطاقتِه، وفضلُ اللهِ واسعٌ يؤتيهِ من يشاءُ، والموفقُ من وفقهُ اللهُ، وأعانهُ على طاعتِه وصَرفَ عنهُ العوائقَ والمثبطاتِ.
نسأل اللهَ الكريمَ المعينَ أنْ يمنَّ علينَا وعليكم بالإعانةِ على كلِّ عملٍ صالحٍ يُرضيهِ عنَّا، وأن يغفرَ لنا ولكم ولوالدِينَا ووالدِيكم وجميعِ المسلمينَ الأحياءِ منهم والميتين.
اللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ..اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول
وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد،اللهم أصلح بطانتهم، ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.
اللهم وفِّق المسئولين في فريق البحرين الوطني ورجال جيشنا وأمننا، وصحتنا وإعلامنا وجميع المتطوعين، اللهم اجزهم خير الجزاء وأوفاه، على ما قدموا للبلاد والعباد، يا ذا الجلال والإكرام… اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وكن لهم ناصراً ومؤيدا،ً واحقن دماءهم، وألف بين قلوبهم، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.
اللهم ارفعْ وأدفع عنَّا البَلاءَ والوَباءَ والغلا والرِّبا والزِّنا، والفواحشَ والزَّلازلَ والمِحَنَ والفتنَ، وسَيءَ الأسقَامِ والأمراضِ، عن بلدِنا البَحرينِ خاصةً، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ والعالم عامةً يا ربَّ العالمينَ.
اللهم اكشف عنا الوباء، اللهم أنت الشافي، والكافي، والمعافي، اشف مرضانا، ومرضى المسلمين والعالمين، من (كورونا) وغيرها من الأوبئة والأسقام، يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات،
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين