عدنان بن عبد الله القطان

8 ذو القعدة 1442هـ – 18 يونيو 2021 م

——————————————————————-

الحمد لله المتفرّد بالدّوام والبقاء، المنزّه عن العَدَم والفناء، نحمده تعالى على قضائه وقدره، وصفاء الأمر وكَدَرِه، ونشكره على حال السرّاء والضرّاء، والشدّة والرخاء، ونسأله الصبر على مُرِّ القضاء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء الأنقياء، وصَحْبه بُدُور الاهتداء وأنجم الاقتداء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين:هذه رسالة عزاء، وكلمات مواساة، نوجهها لكل متألم مفجوع وموجوع، فقد عزيزاً أماً أو أباً أو زوجة أو أبناً أو أخاً أو أختاً أو قريباً أو صديقاً، وكلنا والله ذاك الشخص المقصود، نقولها تذكرة لأولي الألباب، وتسلية لكل محزون ومصاب تشرح صدره، وتجلب صبره وتهون خطبه وتنفس كربه بإذن الله تعالى… عباد الله: إن من يعش في هذه الحياة الدنيا يرى من عجائب الزمان صوراً، ومن حوادث الأيام عبراً، وكلما طال به الأمد، فإذا به يطوي المرحلة تلو المرحلة، حتى يصل إلى الغاية التي عندها منتهى أجله، وانقطاع أمله،(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وإنه بين ذلك، ليمر العبد بمحطات الابتلاء والاختبار والامتحان، فمرة ينجو ويسلّم،  ومرة يصاب في مقتل، وكلما كان إيمان العبد بالله أقوى، كلما كان بلاؤه أشد، يقول صلى الله عليه وسلم: يُبتلى المرءُ على حسبِ دِينِه فإن كان في دِينِه صلابةٌ، زِيدَ في بلائِه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ) وما هذا الابتلاء إلا من أجل تطهير العبد من الذنوب، ولا يزال الابتلاء به حتى يأتي يوم القيامة وقد كُفّرت سيئاته، يقول صلى الله عليه وسلم: مَا يَزَال الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ في نَفْسِهِ وَولَدِهِ ومَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تَعَالَى وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ).والفائز الحق عند هيجان عواصف الابتلاء من قوي بالله يقينه، واطمأن قلبه لأقدار الله، وعلم أن كل شيء بقدر: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). وعلى تنوع الابتلاءات التي تمر بالعبد، فإنه مأمور بالصبر على كل حال؛ لأن في الصبر تسلية للمصاب، وتهدئة للنفوس، وبعثاً للطمأنينة في قلب العبد. وإن من أعظم ما يبتلى به المرء: فقد الأحبة من عزيز قريب أو صاحب أو صديق.

وَما الدَهرُإلا هكذا فاصطبر لـه

                                   رَزِيَّةُ مالٍ أَو فِراقُ حَبيبِ

فبينما يعيش المرء في كنف والده، يغذوه بالحنان، ويمده بالعطف، ويعلّمه كيف يعيش في هذه الدنيا على خير حال، فإذا بالموت يخطفه، وإذا به قد أقام تحت الجنادل وحيداً، قد خلّف كل شيء وراءه، ولم يأخذ معه إلا عمله، وإذ بذلك الابن الذي كان لا يعرف الهمّ حمل همّ أسرة فقدت عائلها، فراح يكابد عناء المعيشة، وإذا بفراغ يخيم على قلبه كلما علم أنه فقد باباً من أبواب البر وطريقاً إلى الأجر، يقول صلى الله عليه وسلم: (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو أحفَظْه)، فقد كان يطمع أن يلج الجنة من خلال ذلك الباب بِراً وإحساناً، فإذا به يفقده، وكم هي حسرة إنْ لم يكن قد أحسن معاشرة أبيه في حياته؟ وآخرون افتقدوا نبع الحنان الذي لا ينضب، من أم كانت ترعى الصغير حتى كبر، وتأمل أن يكون لها متكئاً عند النوائب، تعلمه الوصل بإخوانه، والرحمة بأخواته، تسهر لينام، وتتعب ليرتاح، لا تسأم ولا تمل.  وفجأة فإذا بها تودّع الدنيا، مخلّفة قلوباً منكسرة، وأكباداً متصدّعة، لا يُعلم على أي حال يكونون. فإذا بالولد يحتاج إلى مستند، وإذا بالبنت يُخاف عليها الضيعة إن لم تجد أباً أو أخاً قوياً ناصحاً، وإذا بالأبناء قد افتقدوا سُلّماً إلى الجنة وجسراً موصلاً إليها، (جَاءَ رجلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ ‏ فَقَالَ: ‏(هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ)‏ ‏ قَالَ نَعَمْ ‏.‏ قَالَ :‏ فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا)‏ ‏.‏.. وحقٌّ على من علم أن برّ الأم كنـز موصل إلى الجنة: أن يحزن على خسران ما يرجوه من البر والخير والعمل الصالح، وأن يكون هذا دافعاً لحسن صحبتها في الدنيا.

عباد الله: ومن الناس من يفقد زوجةً حبيبة كانت عنواناً في الأدب، ورأساً في العفة والسلوك الحسن، ومُقدَّمة في الصلاح، تحوطه بنصحها وخدمتها، ولا تقصّر في مطالبه، وتعينه على صلة رحمه، تتودد إليه طاعة لله، لا تفشي سرّه، ولا تظهر أمره. فبينما هي كذلك إذ باغتها الأجل، فإذا به وحيداً من أنيس، وحوله أطفالٌ يُخشى عليهم الضياع بين يدي نساء لا يعرفن احتساب الأجر ولا جرّبن حلاوة الصبر.

وآخر قد افتقد ولداً (أبناً أو بنتاً) كان يراه يترعرع بين يديه، كلما كبر رأى أحلامه فيه تكبر، وبينما هو يراه كالشجرة اليانعة، في كل يوم تزداد أغصانها زهواً، وعذوقها ثمراً، وبينما يرى ابناً باراً به، يقوم بخدمته، ويتكئ عليه عند الملمات والضعف. فجأة! فإذا بالموت يخترمه، وإذا به قد تصدع قلبه، وعاد فراغاً بعد أن كان مغتبطاً به فرحاً، وقد عظم عليه المصاب، وكاد أن يفقد صوابه، لكنه أيقن بموعود الله وصدّق بوعده، فإذا به صابراً محتسباً، لما علم من أجر الصبر على فقد الأحبة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ (وهو أعلم به) قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ،‏ فَيَقُولُونَ نَعَمْ ‏.‏ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ ‏.‏ فَيَقُولُ اللَّهُ ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ) ‏وكان رجلٌ يأتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ ، ومعَهُ ابنٌ لَهُ فقالَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم : أتحبُّهُ ؟ فقالَ يا رسول الله: أحبَّكَ اللَّهُ كما أُحبُّهُ، فماتَ،  ففقدَهُ النبي صلى الله عليه وسلم فسألَ عنهُ فقال: ما فعل ابن فلان؟ قالوا: يا رسول الله مات، فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم له: أما يسرُّكَ أن لا تأتيَ باباً من أبوابِ الجنَّةِ إلَّا وجدتَهُ عندَهُ ينتظرك يسعَى يفتحُ لَكَ؟ فقال رجل: يا رسول الله له خاصة أم لكلنا؟ قال: (بل لكلِّكم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِنَ مُسْلِم، يَمُوتُ له ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إلَّا أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ بفَضْلِ رَحْمَتِهِ إيَّاهُمْ)…وصح في الحديث أن أمرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها فقالت: يا رسول الله ادع الله له فقد دفنت ثلاثة قبله، فقال صلى الله عليه وسلم: (دفنت ثلاثة قبله) مستعظماً أمرها، قالت: نعم، قال: (لقد احتضرتي بحضار شديد من النار). أي لقد احتميتِ بحمىً عظيمٍ من النار.

أيها المؤمنون: ومن الناس من يفقد أخاً أو أختاً أعزاء على قلبه، كانوا عوناً له على ملمات الحوادث، وصولاً لرحمهم، باذلاً نفسه في سبيل تحقيق راحتهم، قد رضع معهم من ثدي واحد، وعاش معهم متآلفاً،  كلٌ منهم يعد أخاه وأخته ليوم حاجته، يستأنس بهم في الوحشة، ويخلفهم في الغربة، وإذ بالموت يخطفهم، وإذ به خاوي اليدين منهم، وقد صار وحيداً فريداً بعد اجتماع، ضعيفاً بعد قوة ومنعة، مستهدفاً بعد تخوف، وكم يزداد حزنه إذا كانوا ذا طاعة لربهم، وسلوك حسن واستقامة على دين. لما استشهد زيد بن الخطاب شقيق عمر بن الخطاب الأكبر رضي الله عنهما (وهو من عبّاد الصحابة الأتقياء البررة) لما استشهد يوم اليمامة حزن عليه عمر حزناً شديداً، وكان كثيراً ما يتذكره ويقول: (مَا هَبَّتِ ريح الصَّبَا إِلاَّ وَأَنَا أَجِدُ رِيْحَ زَيْدٍ)… أيها الأخوة والأخوات في الله: ومن الناس من يفقد صديقاً عزيزاً، كان مؤنساً له في الوحشة، ومعيناً على الطاعة، يقوّيه إذا ضعف، ويرشده إلى سبل الخير، ويسهّل له طرقه، قد اجتمعا على الطاعة وحسن القصد، وفجأة! إذ بالأجل يباغت صاحبه، في زمن قلّ فيه الأصدقاء الناصحون، والأحبةُ المخلصون المعينون على طاعة الله، وإذا به قد فقد مَن في فقده أبلغ التأثير. فكم هو شديد على النفس أن تفقد ذا تقى، يهتدي به الضلال، ويستأنس به المستوحشون، ويسترشد به الحيارى. وهكذا عباد الله تتنوع الابتلاءات في هذا الباب، وكلٌّ يفقد شخصاً يحبه ويودّه ويألفه، ولكن المصيبة العظمى! أن كثيراً منا مفرطٌ في حقوق أحبته في حياتهم، فإذا رحلوا عن الدنيا بكى وتألم، وتمنى أن لو كان كذا وكذا. فما دمنا في زمن الإمهال فلماذا لا نحسن لأحبتنا ونعمل معهم في هذه الحياة، الذي طالما تمنينا فعله حين يُغَيَّبون عن أعيننا تحت الثرى؟..

عباد الله: وتهون المصيبة ويسهل المصاب بتذكر المصيبة العظمى والرزية الكبرى بانقطاع الوحي من السماء بموت الرسول الحبيب محمد، يقول صلى الله عليه وسلم:(إذا أصابَ أحدَكُم مُصيبَةٌ، فليذكُر مُصيبتَهُ بي، فإنها من أعظمِ المصائبِ) وقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناسُ، أيُّما أحَدٍ من الناسِ، أو من المؤمنينَ، أُصيبَ بمصيبَةٍ فليَتَعَزَّ بمصيبتِهِ بي عن المصيبةِ التي تُصيبُهُ بغيرِي، فإن أحَداً من أُمَّتي لَن يُصابَ بمُصيبَةٍ بعدي أشَدَّ عليهِ من مُصيبتي) ففقدنا للإباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأقرباء والأصدقاء ليس كفقد رسول الله… قال تعالى مخاطباً نبيه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وَقَالَ: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) ولله در القائل:

اِصـبِـر لِكُـلِّ مُـصـيـبَـةٍ وَتَـجَلَّدِ

                              وَاِعلَم بِأَنَّ المَرءَ غَيرُ مُخَلَّدِ

أَوَ مـا تَـرى أَنَّ المَصائِبَ جَمَّةٌ

                                وَتَرى المَنِيَّةَ لِلعِبادِ بِمَرصَدِ

مَن لَم يُصِب مِمَّن تَرى بِمُصيبَةٍ

                              هَـذا سَـبـيـلٌ لَستَ فيهِ بِأَوحَدِ

وَإِذا ذَكَـرتَ مُـحَـمَّداً وَمَـصابَهُ

                               فَـاِذكُـر مُصابَكَ بِالنَبِيِّ مُحَمَّدِ

وتهون المصيبة ويسهل المصاب يا عباد الله بتذكر الأجور العظيمة التي ينالها من صبر واحتسب، قال ربنا جل وعلا: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ،  الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) وانظروا إلى أم سلمة رضي الله عنها حين توفي زوجها أبو سلمة رضي الله عنه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ: (إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إلَيْهِ راجِعُونَ) اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْراً مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْراً مِنْها، قالَتْ: فَلَمَّا ماتَ أبو سَلَمَةَ، قُلتُ: أيُّ المُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِن أبِي سَلَمَةَ؟ ثُمَّ إنِّي قُلتُها، فأخْلَفَ اللَّهُ لي رَسولَ اللهِ ، ومن خير من رسول الله اللهِ ؟

اللهم اجبر قلوباً انكسرت بفراق حبيب وعزيز، ومزقتها الأحزان، اللهم وأنزل على أهلها من الصبر واليقين أضعاف أضعاف ما نزل بهم من البلاء إنك سميع الدعاء.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون:إن من نعم الله على المؤمن والمؤمنة: أن يعلم أنه في دار اختبار، فيورثه ذلك يقيناً لا ينقطع، ومن ابتُلي بفقد الأحبة فليعلم أن أعظم ما يعالج الإنسان فيه نفسه ويسلي قلبه، اليقين بأن ما قدره الله كائن لا محالة، وأنه لا يردّ شيء من قضاء الله وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) ، فإذا علم العبد هذا الأصل العظيم أورثه ذلك الصبر على الأقدار المؤلمة، ووجد بالصبر علاجه وراحته، قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فلعظم منـزلة الصبر جعل الله لعبده هذا الأجر العظيم، من ثنائه عليه ورحمته له، وجعْلِه مهتدياً، وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) .

أيها الأخوة والأخوات في الله: ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة، ويجلب الصبر، ويذهب الأسى أن يتذكر الإنسان ما وقع للخلق قبله وفي زمانه، فما من أحد إلا وأصيب، بمصيبة، قلب بصرك يمنة، فلن ترى إلا محنة، ويسرة فلن ترى إلا حسرة، فلست المصاب وحدك من بينهم، ولست أعظمهم مصاباً، فقد طرق هذا الطارق من حاكم وأمير ووزير ومستشار وكبير وصغير، وغني وفقير، وطبيب ولبيب، وعدو وحبيب، ولم يفرق بين عار وكاس، فكل دارت عليه هذه الكأس. لئنْ فقدت ولداً، فلقد فقد غيرك أولاد، ولئن فقدت والداً أو والدة، فلقد فقد غيرك والداً وولداً، ولئن فقدت زوجة أو أخاً أو أختاً أو قريباً أو صديقاً، فلقد فقد غيرك مثل ذلك، فارحم قلبك، واذكر ربك يسكن قلبك، أتدري يا عبد الله من هو الذي يجدد أحزانك، ويعظم مصابك، كأنك أنت الذي أصبت من بين العالمين، إنه الشيطان الرجيم، فلا تستسلم له، تذكر رسولك وحبيبك ، فقد أمه وأباه وعاش يتيماً، وفقد أبنائه كلهم في حياته إلا فاطمة رضي الله عنها، كما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها، وعمه حمزة وابن عمه جعفر، رضي الله عنهما، فكان صابراً محتسباً، فالموت كأس كل شاربه.

أيها المصابون بفقد الأقرباء والأصحاب والأحباب:أحسن الله عزائكم، وعظم أجركم، وجبر مصابكم، وغفر لموتانا وموتاكم، عليكم من الله الرحمات، يوم أصبتم وفقدتم، ويوم صبرتم، ويوم احتسبتم، جعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات، وأمنكم من الفزع الأكبر يوم تنشر السجلات، وكتب لنا ولكم السعادة في الحياة وبعد الممات.

اللهم يا فارج الهم، ويا كاشف الغم، ويا سامع النجوى، ويا ورافع البلوى، يا من عز جاره وجل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، يا غياث الملهوفين، ويا رجاء المنقطعين، ويا راحم المستضعفين، ارزقنا الصبر على البلاء، والرضا بمرّ القضاء، وأملأ قلوبنا أنساً بذكرك  وطمأنينة بوعدك يارب العالمين.

اللهم أغفر لموتانا وموتى المسلمين، اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لهم وَارْحَمْهُم، وَعَافِهِم وَاعْفُ عنْهم وَأَكْرِمْ نُزُلَهُم، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُم، وَاغْسِلْهُم بمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِم مِنَ الذنوبوالخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُم دَاراً خَيْراً مِن دَارِهِم، وَأَهْلًا خَيْراً مِن أَهْلِهِم، وَقِهِم فِتْنَةَ القَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ). اللَّهمَّ اغْفِرْ لحيِّنا وميِّتِنا وشاهدنا وغائِبنا وصَغيرنا وَكبيرنا وذَكرِنا وأُنثانا، اللَّهمَّ مَنْ أحييتَه مِنَّا فأحيِه علَى الإسلامِ، ومن تَوَفَّيتَه مِنَّا فتَوفَّهُ علَى الإيمانِ، اللَّهمَّ لا تحرمنا أجرَهم ولا تُضلَّنا بعدَهم، وأغفر اللهم لنا ولهم، وارحمنا إذا صرنا إلى ماصاروا إليه.

اللهم أعز الإسلام وأنصر المسلمين،اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين. اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزراءه سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة، يارب العالمين... اللهم ارْأَفْ بعبادِكَ، وأنزِلْ عليهم رحمتَكَ ولُطْفَكَ، اللهم أَنْزِلْ على عبادكَ الرحمةَ واللطفَ والإحسانَ، وارفع عنهم كلَّ بلاء وفتنة ومحنة ووباء يا ربَّ العالمينَ.

اللهم وأدفع عنا أسباب سخطك، وموجبات غضبك، ويسر لنا دروب مرضاتك، وسبل رحمتك وجناتك، ومُنَ بالشفاءِ والعافيةِ على المصابين بهذا الوباء، وارحم المتوفين به واكتبهم من الشهداء عندك، وألهم أهلهم ومحبيهم الصبر والسلوان، برحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وأهل فلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، والمصلين فيه واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

       خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين