الجمعة 25 شعبان 1439هـ
الموافق 11 مايو 2018م
الحمد لله الذي لم يُستفتَح بأفضَل من حمدِه كلام، ولم يُستنجَح بأحسنَ من صُنعه مرام. ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بوَّأ المُبادِرين للخير مقاماً سنيًّاً، ونشهدُ أن سيدنا ونبيَّنا محمداً عبدُ الله ورسولُه الداعِي إلى الفضائل والخيرات بُكرةً وعشيًّاً، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وصحبِه السابِقين للمكرُمات خيراً جنيًّاً، المُتبوِّئين في الزُّلفَى مكانًاً عليًّاً، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي السِّراجُ الهادي لمن رامَ الهدى والنجاة، والفائزُ وحدَه من اتَّقى اللهَ مولاه، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)
معاشر المسلمين: الإنسان بحُسن عملِه لا بطُول عُمره، ولقد عوَّضَ اللهُ أمةَ الإسلام عن قِصَر أعمارِها بركَةَ أعمالِها، ومواسِمَ خيراتٍ مِن نفَحَاتِ دَهرِها، في نفَحَاتٍ ومُناسبَاتٍ لا تتناهَى. يخرُجُ المُؤمنُ مِن عبادةٍ ليستَقبِلَ أُخرى، ومَن لا يُطيقُ عبادةً مندوبة يَنتَقِلُ إلى غيرها، ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾
والمُؤمنُ كيِّسٌ فَطِنٌ، يعلَمُ أن أنفاسَهُ معدُودة، وأيَّامَه محدُودة، والحياةَ فُرَص فمَن أحسَنَ اغتِنامَها فازَ وسعَد، ومَن ضيَّعَ وفرَّط فلا يلُومنَّ إلا نفسَه. يقول صلى الله عليه وسلم وهو يعظ أحد أصحابه رضي الله عنهم:(اغتَنِم خَمساً قبلَ خَمسٍ: شَبابَك قبلَ هَرَمِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وغِناكَ قبلَ فَقرِك، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِك، وحياتَك قبلَ مَوتِك)
أيها المؤمنون: المُسابقةُ إلى الخيرات خُلُقٌ عظيمٌ، ومسلَكٌ كريمٌ لا يتَّصِفُ به إلا الجادُّون المُشمِّرون، والمُسارعةُ إلى أعمالِ البِرِّ طبعٌ لا يتخلَّقُ به ولا يُهدَى إليه إلا مَن وهَبَه الله تعالى علُوَّ همَّة، وقُوَّةَ عزيمَة، مع سلامةِ قلبٍ، ورَجاحَةِ عقلٍ، وانشِراحِ صَدرٍ.
عباد الله: المُسارعةُ والمُنافسةُ، إقدامٌ، ومُبادرةٌ، وسَبقٌ، وخِفَّةٌ، وجِدٌّ، ورَغبةٌ، ومَن بادَرَ في طلبِ شيءٍ سَهُلَ عليه تحصِيلُه.
المُسارعةُ والتنافُسُ، مُجاهدةُ النَّفس للتشبُّه بالأفاضِل، واللُّحُوق بالأخيار، مِن غير إدخالِ ضررٍ على أحدٍ، أو النَّيلِ مِن حقِّ أحدٍ.
واعلَمُوا رحِمَكم الله أن الأمرَ بالاستِباقِ إلى الخيراتِ قَدرٌ زائِدٌ على الأمرِ بفعلِ الخيرات؛ فإن الاستِباقَ إلى الخَيراتِ يستَدعِي فِعلَها وتكمِيلَها على أكملِ الهيئاتِ والأحوالِ، مع المُبادرةِ في ذلك والمُسارَعة.
أيها الأخوة والأخوات في الله: ومما يُعينُ على التنافُس في الصالِحات، والمُسارَعة إلى الخَيرات: معرفةُ قَدر الدنيا بالنسبةِ للآخرة.
حتى قال بعضُ السلَف: (لو كانت الدُّنيا من ذهبٍ يَفنَى، والآخرةُ مِن خَزَفٍ يَبقَى، لكان المُتعيِّنُ على العاقِل أن يُؤثِرَ الخَزَفَ الذي يَبقَى على الذَّهَب الذي يَفنَى، فكيف والآخرةُ هي الذَّهبُ الذي يَبقَى، وهي خيرٌ وأَبقَى).
ومما يُعينُ على التنافُس في الصالِحات كذلك: صُحبةُ الأخيار، وعَدمُ التوسُّع في المُباحات، والحَزمُ والعَزمُ، وأخذُ الأمر بجد واجتهاد، والإكثارُ مِن العباداتِ وقتَ الفراغِ. وإذا كان التأنِّي والتمهُّلُ مطلُوباً في أمورِ الدنيا، فإن أعمالَ الآخرة مطلُوبٌ فيها المُسارَعةُ والمُبادرةُ والمُسابقةُ، يقول عزَّ شأنُه: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ وقد ورَدَ في الأثر: (التُّؤدَةُ في كلِّ شيءٍ إلا في عملِ الآخرة). ويقولُ الإمامُ أحمد رحمه الله: (كلُّ شيءٍ مِن الخير يُبادَرُ إليه).
أيها المسلمون:بعد أيام قليلة تستقبلون بل يستقبل العالم الإسلامي بأسره شهر رمضان المبارك، وهو مَيدانٌ عظيم للتسابق والتنافس في الطاعات ، مَن تقرَّبَ فيه بنافِلة كان كمَن أدَّى فريضةً فيمَا سِواه، ومَن فطَّر فيه صائِماً كان له مثلُ أجره ولو فطَّرَه على تَمرةٍ أو مَذقةِ لَبَنٍ..
فيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألف شَهر، مَن قامَها إيماناً واحتِساباً غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه، ومَن صامَ شهرَ رمضان وقامَه إيماناً واحتِساباً غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبِه. وكان نبيُّكُم محمدٌ صلى الله عليه وسلم أجوَدَ النَّاس، وكان أجوَدَ ما يكونُ في رمضان، والجُودُ ليس مقصُوراً على بَذل المال، بل جُودٌ في كل أعمالِ الخير والبِرِّ والطاعاتِ والقُرُبات.
والخَيراتُ لا تُحصَرُ أنواعُها ولا تُحدُّ أبوابُها؛ مِن صلواتٍ، وزكَواتٍ، وصدَقاتٍ، وصِيامٍ، وقراءةِ قُرآن، وعمرة إلى بيت الله الحرام، واعتِكافٍ، وتفقُّد ذَوِي الحاجاتِ والأيتام والأرامِل والمساكِين، وذوِي القُربَى ممَّن لا يسأَلُون النَّاسَ إلحافًاً. وبر للوالدين وصلة للأرحام، ولا تنسَوا زِيارةَ المريض، والإحسانَ إلى الجار، وطلَبَ العلمِ، والدعوةَ إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإغاثَةَ الملهُوف، وإنصافَ المظلُوم، وكفَّ الظالِم، ورِعايةَ الأولاد والأُسَر، وإعمارَ المساجِد، والقِيامَ بالمسؤوليات، وأداءَ الواجِبات، وكلَّ قولٍ حسنٍ وفِعلٍ حسنٍ.
ثم تأمَّلُوا حفِظَكُم الله صِفاتِ المُسارِعين والسَّابِقين إلى الخيرات، يقولُ عزَّ شأنُه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾
وقد سألَت أم المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين يُؤتُون ما آتَوا وقلوبُهم وَجِلَة، (أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ : لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ! وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) لماذا يا عباد الله ، لماذا كان هذا الجوابُ؟! لأن في النُّفوسِ مَن هي عامِلةٌ ناصِبة، تَصلَى ناراً حامِية، وفِيهم مَن عملُه كسَرابٍ بقِيعةٍ، أو كرَماد اشتَدَّت به الرِّيحُ في يَومٍ عاصِفٍ. نعُوذُ بالله من الخُذلان.
نعم حفِظَكُم الله ، مَا حمَلَ هؤلاء الصالِحين على المُسارَعَة والمُنافسَة إلا خوفُهم ووجَلُهم وإشفاقُهم، وعظيمُ يَقِينِهم باليومِ الآخر، وأن المرجِعَ إلى الله يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ ويقول: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾
أيها الأخوة والأخوات في الله: وانظُرُوا إلى هذه النماذِج العجِيبة مِن صحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: فهذا أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وأرضاه في مُبادراتِه ومُسارعاتِه؛ فقد سألَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه:
(مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
وعندما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الخروجَ لقِتالِ الرُّوم في غزوةِ تبُوك، دعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إلى تجهيزِ الجَيشِ، وحضَّ على الإنفاقِ والبَذل، ولاسيَّما أهلُ الغنى واليَسار، وقد كان لهذه الغَزوة ظُروفُها مِن بُعد المسافَة، والحرِّ الشديد، والعدُوِّ الكثير والمُنافِقِين والخالِفين والقاعِدِين. فسارَعَ عُمرُ بن الخطاب رضي الله عنه وقال في نفسِه: (اليوم أسبِقُ أبا بكرٍ إن سبَقتُه يوماً، فجاءَ بنَصفِ مالِه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقَيتَ لأهلِك؟ ، فقال: مِثلَه يا رسول الله، وأتَى أبو بكرٍ بكلِّ ما عِندَه مِن مالٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقَيتَ لأهلِك؟، فقال: أبقَيتُ لهمُ اللهَ ورسولَه، فقال عُمر: لا أُسابِقُك إلى شيءٍ أبداً)… أما عُثمانُ بن عفان رضي الله عنه فكان أكثَرَ الصحابة مالًا، وأيسَرَهم حالًا، فلما سمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يحُثُّ على تَجهِيزِ الجيشِ، قامَ فقال: يا رسولَ الله! علَيَّ مائةُ بَعيرٍ بأحلاسِها وأقتَابِها في سَبِيلِ الله، (أي بجميع تجهيزاتها وأدواتها) ولما كرَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحضَّ على النَّفقَة، قال عُثمانُ رضي الله عنه: علَيَّ مائةُ بَعيرٍ بأحلاسِها وأقتَابِها)، وأعادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحضَّ والدعوةَ، فقال عُثمانُ: علَيَّ ثلاثُ مائةِ بَعيرٍ بأحلاسِها وأقتَابِها في سَبِيلِ الله، فدعَا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: (اللهم ارضَ عن عُثمان؛ فإنِّي عنه راضٍ) .ثم ذهبَ عُثمان رضي الله عنه، وجاء بألفِ دينارٍ وألقاها في حجرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقلِّبُها بيدِه ويقولُ: (ما ضَرَّ عُثمان ما عمِلَ بعد اليوم!)… وتتجلَّى صُورةُ المُبادَرة في هذا التوجيهِ الكريم؛ فقد جاء رجُلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسولَ الله! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْراً؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كذا)
بل يتجلَّى ذلك أكثرُ وأكثرُ في قولِه صلى الله عليه وسلم: (بادِرُوا بالأعمالِ فِتنًا كقِطَع الليلِ المُظلِم، يُصبِحُ الرجُلُ مُؤمناً ويُمسِي كافِراً، ويُمسِي مُؤمنًاً ويُصبِحُ كافِراً، يَبِيعُ أحدُهم دينَه بعَرَضٍ مِن الدنيا)؛ وفي الخَبَر الآخر: (هل تنتَظِرُون إلا فَقراً مُنسِياً، أو غِنًى مُطغِياً، أو مرضاً مُفسِداً، أو هرَماً مُفنِداً، أو مَوتًاً مُجهِزاً، أو الدجَّال فشرُّ غائِبٍ يُنتَظَر، أو الساعة والساعةُ أدهَى وأمَرُّ)
عباد الله: وما معنى: (بادِرُوا بالأعمالِ فِتناً)؟ أي: سارِعُوا قبلَ وقوعِ الفِتَن، وما هي الفِتَنُ رحِمَكم الله ؟ هي كلُّ ما شغل عن طاعةِ الله، أو أوقَعَ في معصِيةِ الله، ولعلَّ حالَ أهلِ هذا العصرِ وما شغلوا به من هذه المُشغِلات والأجهزة والآلات والأدوات مِن أعظم الشواهِدِ والمُخِيفات… ولهذا عظُمَت العبادة زمن الفِتَن؛ لصُعُوبتها ومشقَّتها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (العبادةُ في الهَرجِ كهِجرةٍ إلَيَّ). يقول أهل العلم: وسبَبُ كثرةِ فضلِ العبادة زمنَ الفِتَن: لأن النَّاس يغفلُون عنها، ولا يتفرَّغُ لها إلا الأفراد.. فلله أقوامٌ يُبادِرُون الأوقات، ويَحفَظُون الساعات، ويُلازِمُون الطاعات، ويُسارِعُون في الخيرات، فمَن قدَّم شيئاً اليوم قَدِمَ عليه غداً، ومَن لم يُقدِّم شيئًاً قَدِمَ على غير شيءٍ، ومَن خافَ أدلَجَ، ومَن أدلَجَ بلَغَ المنزِل، ومَن جدَّ وجَد، ومَن سهِرَ في طلَبِ المعالِي ليس كمَن رَقَد، ولا مُستراحَ للمُشمِّرين إلا تحت شجَرَة طُوبَى، ومَن صحَّ إلى اللهِ عز وجل فِرارُه فنِعمَ القرارُ قرارُه.
فاتقوا الله عباد الله وبادروا إلى الخيرات، وسارعوا إلى الصالحات، تنالوا البركات، وتستجاب منكم الدعوات وتفرج لكم الكربات، وتنالوا المرضات من رب البريات .
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
فاللهم ارزقنا فعل الخيرات، وثبت قلوبنا على المبادرة إلى الطاعات، وارزقنا الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأجرنا من النار وما قرب إليها من قول وعمل، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله يمُن على عباده بمواسم الخيرات، ونشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ربُ البريات،ونشهدُ أن سيدَنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسولُه المبعوثُ بكريم السجايا وشريف الصفات، صلى الله وسلم وبارك عليه،وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات.
أما بعد فيا أيها المسلمون:بعد أيام معدودة تستقبِل الأمّة الإسلامية شهر رمضان المبارك، بفرحٍ غامِر ، وسرورٍ ظاهرٍ .
يا رَمَضان، إنّ يومَ إقبالك لهوَ يومٌ تتفتح له قلوبُنا وصدورُنا، وتمتلئ فيه نفوسنا غبطةً وأمَلاً، نستبشر بعودةِ فضائِك الطاهر الذي تسبَح به أرواحُنا بعد جفافِها وركودِها، نستبشر بساعةِ صلحٍ مع الطاعاتِ بعدَ طول إعراضِنا وجفائنا، أعاننا الله على بِرِّك ورفدِك، فكم تاقت لك الأرواحُ وهفَت لشدوِ أذانِك الآذانُ، وهمَت سحائبُك الندِيّة هتّانةً بالرّحمة والغفران …
عباد الله: إن بلوغ رمضان، نعمة عظيمة، وفضل كبير من الله تعالى حتى إن العبد ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان .
فعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قدم رجلان عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعاً , فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَاداً مِنَ الْآخَرِ فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ , ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ : فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ : ارْجِعْ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ : (مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ) , فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَاداً ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً) قَالُوا : بَلَى , قَالَ : (وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ , فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ) قَالُوا : بَلَى , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) الله أكبر .. إنه فضل رمضان. بلغنا الله وإياكم بالصحة والعافية وحسن الطاعة.
فيا أيها المشتاق لهذا الشهر المبارك، هذا نسيم القَبول هبّ، هذا سيلُ الخير صَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا الشّيطان كبّ، يقول نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضانُ فتِّحت أبوابُ الجنة، وغلقت أبواب النّار، وصفِّدت الشياطين) ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا كانت أوّلُ ليلة مِن رمضان صُفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبوابُ النار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلَّ ليلة) أيها المؤمنون: قرُب منا رمضان، فكم قريب لنا فقدناه، وكم عزيز علينا دفنّاه، وكم حبيب لنا في اللحد أضجعناه. فيا من ألِف الذنوبَ وأجرمَا يا مَن غدا على زلاّته متندِّمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحبّ أن يجود ويرحمَا، ويُنيلَ التّائبين فضلَه تكرُّماً.
بادِر التّوبة ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتاً قبل أن لا تُقال العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار وأظهِر النّدم والاستغفار فإنّ الله يبسُط يده بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل، ويبسط يدَه باللّيل ليتوبَ مسيء النّهار.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على النية الصالحة والعزم الجاد على الاجتهاد في طاعة الله في رمضان … وحري بأفراد الأسرة والقرابة والجيران وزملاء المهنة أن يتواصوا بالحق ويتعاونوا على أعمال البر والتقوى في هذا الموسم المبارك.
نسأل الله تعالى أن يمن علينا ببلوغه ويحسن عملنا فيه إنه سميع مجيب الدعاء.
اللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان، وبلغنا برحمتك شهر رمضان،يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أهله علينا وعلى بلادنا ملكاً وحكومةً وشعباً وعلى جميع المسلمين بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى.. اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن والمحن. اَللّهُمَّ اجعَلنا فيهِ مِنَ المُستَغْفِرينَ، وَ اجعَلنا فيهِ مِن عِبادِكَ الصّالحينَ القانِتينَ، و اجعَلنا فيهِ مِن أوليائك المُقَرَّبينَ، بِرحمتك يا اَرحَمَ الرّاحمينَ. اللهم أقل عثراتنا،واغفر زلاتنا،وكفر عنا سيئاتنا،وتوفنا مع الأبرار.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان. اللهم آمنا في وطننا، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ وَرَئِيْسَ وُزَرَائِهِ خَلِيْفَةً بْن سَلْمَان وَوَلِيَّ عَهْدِهِ سَلْمَانَ بِن حَمَدٍ، الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ، وَسَدِّدْ عَلَىَ طَرِيْقِ الْخَيْرِ خُطَاهُمْ، وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَارَبْ الْعَالَمِيْنَ..
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم ومن قضيت بقطع آجالهم منا وتوفيتهم إليك ولم تبلغهم شهر رمضان، فنسألك اللهم أن تغفر لهم وترحمهم، وتعافهم وتعفوا عنهم، وتكرم نزلهم وتوسع مدخلهم، وتغسلهم بالماء والثلج والبرد، وتنقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم وأنزل في قبورهم الضياء والنور والفسحة والسرور والكرامة والحبور وجازهم بالإحسان إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفراناً… اللـهـم أنزلهم منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، اللـهـم أنزلهم منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. اللـهـم اجعل قبورهم روضة من رياض الجنة.. اللـهـم يمن كتابهم، ويسر حسابهم، وثقل بالحسنات ميزانهم، وثبت على الصراط أقدامهم، وأسكنهم في أعلى الجنات بجوار حبيبك ومصطفاك (صلى الله عليه وسلم) … وارزق أهلهم وذويهم الصبر والسلوان. وارحمنا يا مولانا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت الجنادل والتراب، ونجنا من عذاب القبر ومن هول الحساب برحمتك يا أرحم الراحمين.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله، فقال ربكم جل في علاه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
عباد الله:إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون،فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم،ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون،ويغفر الله لي ولكم.
خطبة جامع الفاتح – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين