الجمعة 26 جمادى الأولى 1440 هـ
الموافق 1 فبراير 2019 م
الحمدُ للهِ الذي أَبَانَ لخلقِه الهُدى والسَّداد، وهدى أولياءَه للصِّراطِ المستقيمِ وسَبِيلِ الرَّشَادِ، نحمدُه سبحانه ونشكرُه على ما أَسْبَغَ مِنَ النِّعَمِ وأَعَادَ، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يَهدي من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه أفضل المرسلينَ وأكرم العباد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يوم التناد.
أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: في هذه الخطبة تذكرة لأولي الألباب، وتسلية لكل محزون ومصاب، تشرح صدره، وتجلب صبره وتهون خطبه، وتنفس كربه. وهي وقفات مع آي الكتاب العظيم، وأحاديث المصطفى الكريم، وتجوالٌ في سير عباد الله الصالحين، ممن ألمت بهم المصائب، وحلت بهم الكوارث والفواجع، فثبتوا وصبروا، وحمدوا ربهم وشكروا، فكانوا مضرب المثل في الرضا بمرِّ القضاء، والصبر على ما كتب الله عليهم من عظيم البلاء .. إنها تسليةٌ لكل مكروب ومنكوب ومحزون، وعزاءٌ لمن حلت به مصيبة، ونزلت به فجيعة. دعونا أيها الإخوة والأخوات في الله نسير وإياكم في أفياء هذه الكلمات ونقف مع عبرها وآياتها وقفات ووقفات فلعل كلمة منها تقع في قلب مكروب طال حزنه، وغشيه من الهم ما غشيه، فتسليه وتعزيه وتصبره وتثبته..
أيها الأخ المكروب، أيها المحزون المهموم، أيتها الأخت المهمومة والمحزونة أسلما إليَّ قلبكما وفقكما الله، وأنصتا إلى هذا الحديث، فلعل الله أن يجمع لكما به بين سعادة الدنيا ونعيمِ الآخرة، وما ذلك على الله بعزيز، وتأملوا معي هذه الوقفات، ففيها آيات وعظات، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
الوقفة الأولى: الابتلاء سنة الله تعالى في خلقه، هي سنة علينا وعلى من سبقنا، ومن سيأتي بعدنا، يقول تعالى:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ). إن الدنيا دار امتحان واختبار وأسقام وأحزان وأكدار. تذكر أخي المكروب أن هناك خلقاً غيرك ممن حلت بهم المصائب، فلست وحدك في ساحة الابتلاء، بل لا أبالغ إذا قلت: إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض، إلا ولديه ما يُهِمُّه ويحزنه.. إن الدار التي ليس فيها كدر ولا حزن، هي الجنة جعلني الله وإياك من أهلها. نعم تلك المَحَلَّة، التي يكون فيها النعيم والسرور سرمدياً أبدياً، لا يحول ولا يزول، وأهلها في فرح دائم ومتعة باقية:(لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) فاصبر وصابر لها، واحصد ما استطعت من الحسنات، فلعلك أن تظفر بها وتكون من أهلها..إن هذه الدنيا أيها الحبيب مليئة بالهموم والأحزان والأكدار..
جُبلت على كَدَرٍ و أنت تريدها
صفواً من الآلام و الأكدارِ
و مُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِهـا
مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ
يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن لكل فرحة ترحة، وما مليء بيت فرحاً إلا مليء حزناً وترحاً). الوقفة الثانية:سبب المصيبة.. إن المصيبة حين تحل بالعبد، فلابدَّ أن يكون لنزولها سبب، وهذا السببُ في غالب الأمر، لأجل ما كان من العبد من معصية اجترحتها يداه أو مخالفة أو تفريطٍ في طاعة مولاه .
يقول تعالى :(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) ويقول سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ويقول جل وعلا: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ويقول صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي العظيم- الذي يرويه عن ربه تعالى، قال الله عز وجل: (يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) ويقول صلى الله عليه وسلم :(مَا اخْتَلَجَ عِرْقٌ(أي اضطرب ولا تحرك عرق) وَلَا عَيْنٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ) يقول محمد ابن سيرين رحمه الله:(إني لأعلم الذنب الذي حرمت به قيام الليل، أربعة أشهر ذاك أني قلت لرجل : يا مفلس ! قال أبو سليمان الداراني : قلّت ذنوبهم فعرفوا من أين أوتوا، وكثرت ذنوبناً فلم ندر من أين نؤتى والله المستعان..
عباد الله: كما أنه قد ينزل البلاء على العباد، رفعاً للدرجات أو وضعاً للآصار، و تكفيراً للخطايا و السيئات، فمما يكون لرفع درجات العباد، و يراد لهم الخير به، ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه ) أي : يبتليه بالمصائب و المحن ليرفع درجاته و يزيد في حسناته، على ما يكون من صبره و احتسابه، ويقول صلى الله عليه وسلم:عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إلا لِلْمُؤْمِنِ، إن أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً له، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً له) و مما يكون لتكفير السيئات، ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا)
ومما تقدم عباد الله، في الآي و الأثر يتقرر أن الابتلاء سنة عامّة لا ينجو منه مؤمن قط ، و إن كان ما يصيب العباد من البلاء متفاوتاً بحسب قوة إيمان العبد و ضعفه، فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) والبلاء في الحديث عام، يشمل كل أنواع البلاء، فيشمل الابتلاء بالسراء والضراء، ويشمل الابتلاء بالحروب والفتن والاضطرابات ويشمل الابتلاء بتولي المسؤوليات، كما يشمل الابتلاء بكثرة الفرق والبدع والضلالات وكثرة الشهوات والفجور وانتشار الفساد في الأرض ونحو ذلك وليس البلاء مقصوراً على الموت أو المرض أو الفقر أو الغنى أو نحو ذلك، يقول تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) يقول أهل التفسير:أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تَارَةً، وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى، لِنَنْظُرَ مَنْ يَشْكُرُ وَمَنْ يَكْفُرُ وَمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَقْنَطُ ، كَمَا قَالَ عبد الله ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (وَنَبْلُوكُمْ) أي: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ.. الوقفة الثالثة: من أسرار وفوائد الابتلاء وحكمه: حصول الإخلاص في الدعاء، وصدق الإنابة إلى الله، والالتجاء وشدة التضرع بمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ…)
ومن فوائد الابتلاء: تمحيص الذنوب والسيئات وبلوغ الدرجات العلية في الجنات، روي أنه كان في زمن حاتم الأصم رجل يقال له: معاذ الكبير، أصابته مصيبة، فجزع منها وأمر بإحضار النائحات وكسر الأواني. فسمعه حاتم فذهب إلى تعزيته مع تلامذته، وأمر تلميذاً له فقال إذا جلست فاسألني عن قوله تعالى:(إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) فسأله، فقال حاتم : ليس هذا موضع السؤال، فسأله ثانياً وثالثاً. فقال: معناه أن الإنسان لكفور، عداد للمصائب، نساء للنعم مثل معاذ هذا، إن الله تعالى متعه بالنعم خمسين سنة، فلم يجمع الناس عليها شاكراً لله عز وجل، فلما أصابته مصيبة، جمع الناس يشكو من الله تعالى ؟! فقال معاذ: بلى والله: إن معاذاً لكنود، عداد للمصائب، نساء للنعم، فأمر بإخراج النائحات وتاب إلى الله عن ذلك الفعل المنكر وأستغفر.
الوقفة الرابعة: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، يقول تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً أو رزقاً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ)
عباد الله: أما مصيبة المرض، فإن الله جعلها تذكرة وتنبيهاً للمؤمن، ليعود إلى ربَّه، وتنكسرَ نفسُه بين يديه جل وعلا، وقد جعل الله الأجور الوفيرة لمن صبر على مرضه الذي نزل به..والمرض إما أن يكون حسياً عضوياً، أو يكونَ مرضاً نفسياً ، والأمراض في كلَّ منهما تتفاوتُ درجاتُها، ولكنْ على قدر المشقة والألم يكون الأجر والجزاء .. فإذا حلَّ بك يا عبد الله مرض – صغيراً أو كبيراً – فاصبر عليه صبر الراضي بقضاء الله وقدره.. وتذكر ما أعده الله للصابرين على ما أصابهم من الأمراض والأوجاع ، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ (تعب) وَلَا وَصَبٍ،(مرض) وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) وفي هذا الحديث دلالة على أن المرض النفسي كالبدني في تكفير السيئات .. لَمَّا نَزَلَ قول الله تعالى: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه)ِ بَلَغَتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًاً شَدِيداً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا أَوْ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا) وعن أبي بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فَكُلَّ سُوءٍ عَمِلْنَا جُزِينَا بِهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ قَالَ بَلَى، قَالَ: فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ) وقال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبِّوا الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيد)..
عباد الله: والمرض خير للإنسان، وعلامة من علامات الإيمان، وأما من لم يصب بالمرض ولا بشيء من الأسقام فذاك نذير خطر ، وعلامة شر.. يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ، يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا، فَإِذَا سَكَنَتْ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ) وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال:(إنَّكُمْ تَرَوْنَ الْكَافِرَ مِنْ أَصَحِّ النَّاسِ جِسْماً، وَأَمْرَضِهِمْ قَلْباً، وَتَلْقَوْنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَصَحِّ النَّاسِ قَلْباً، وَأَمْرَضِهِمْ جِسْماً، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ مَرِضَتْ قُلُوبُكُمْ وَصَحَّتْ أَجْسَامُكُمْ لَكُنْتُمْ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلانِ) والجعلان:حيوان كالخنفساء يكثر في المواضع النَّدِيَة والرطبة… اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.. وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك يا ذا الجلال والإكرام.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: ومن أعظم المصائب التي تقع كثيراً ويحسن الحديث عن فضل الصبر عليها، واحتساب الأجر في حق من حلت به:المصيبة بفقد الأولاد والأحباب، فلا شك أنها من أعظم البلاء على النفس، وموتُ الولد خاصة: (ذكراً كان أو أنثى) فجيعةٌ وأيُّ فجيعة ، ومن ذاق الفراق عرف طعمَه المر، وفقد الولد من أشد البلاء وأقساه، فالولد قطعة من والديه، ولهذا جاء في الحديث أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيَقُولُ، قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ) ولكن نقول: أيها المبتلى بفقد ولده: كان ما كان وذهب ولدك فما أنت صانع؟ وإلى أين المفر والمشتكى، مالك إلا الصبرُ الجميل، الصبر الذي لا شكوى فيه والرضا والتسليم بما كتب الله، فتلك وديعة الله عندك، وقد استردها ، ونحن ملكُه وعبيده والخلقُ خلقُه ، والأمر أمرُه فاصبر وصابر..
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
أَوَ مَا تَرَى أَنَّ الْمَصَائِبَ جَمَّةُ
وَتَرَى الْمَنِيَّةَ لِلعِبَادِ بِمَرْصَدِ
مَنْ لَمْ يُصَبْ مِمَّنْ تَرَى بِمُصِيبَةٍ
هَذَا سَبِيلٌ لَسْتَ فِيهِ بِأَوْحَدِ
فَإِذَا ذَكَرْتَ مُصِيبَةً تَسْلُو بِهَا
فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
وهاهنا أيها المفجوع بفقد ولده جملة من المبشرات لمن صبر على ما أصابه لعلَّها أن تسلَّيَك وتعزيَ وتنفس عنك شيئاً من همومك وأحزانك. يقول صلى الله عليه وسلم لنسوة من الأنصار: (لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله ؟ قال: (أو اثنين وفي رواية أو واحد) ويقول صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ إِنَّ السِّقْطَ (الجنين يَسْقُطُ من بَطْن أُمِّه قبل تمامه ، ذكراً كانَ أَو أُنثى) لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسَرَرِهِ إِلَىْ الجَنَّةِ إِذَا احْتَسَبَتْهُ).. الوقفة الخامسة: الحزن لا ينافي الصبر.. لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم موت أحد أولاد ابنته، قال إنَّ للهِ ما أخَذ وله ما أعطى وكلُّ شيءٍ عندَه بأجلٍ مسمًّى فلْتصبِرْ ولْتحتسِبْ، ولما رأى رسول الله الصبي يحتضر عند الموت ، فاضت عيناه بالدموع، فقال له سعدُ بنُ عُبادةَ: ما هذا يا رسولَ اللهِ قال: (رحمةٌ جعَلها اللهُ في قلوبِ عبادِه، وإنَّما يرحَمُ اللهُ مِن عبادِه الرُّحماءَ)..فالحذر الحذر يا عبد الله، من الجزع والتسخط عند نزول المصيبة، فإنها علامة سوء، وآية من آيات الخذلان، واعتراضٌ على الرب جل وتقدس.
ومن مظاهر الجزع والتسخط على قضاء الله وقدره: النياحة على الميت، والصراخُ والعويل، وشقُ الجيوب، ولطم الخدود، ونحوُ ذلك مما هو من طباع أهلِ الجاهلية.. يقول صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلَيَّةِ) فالصبر الصبر عباد الله فهو المربح والنجاة، وإذا تكالبت عليك أخي الحبيب الهموم، وأحاطت بك الأحزان والغموم، فيمم وجهك للحي القيوم، وبث الشكوى إليه فهو السامع لكل شكوى، العالم بكل نجوى.. ولله در الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال:
إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ
وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
وَأَوْطَنَتِ الْمَكَارِهُ وَاطْمَأَنَّتْ
وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الْخُطُوبُ
وَلَمْ تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهاً
وَلا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الأَرِيبُ
أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٌ
يمنُّ بِهِ الْقَرِيبُ الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ
فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ
اللهم يا فارج الهم، ،ويا كاشف الغم ، ويا سامع النجوى ويا ورافع البلوى، يا من عز جاره وجل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، يا غياث الملهوفين، ويا رجاء المنقطعين، ويا راحم المستضعفين، ارزقنا الصبر على البلاء، والرضا بمرّ القضاء، وأملأ قلوبنا أنساً بذكرك ، وطمأنينة بوعدك يارب العالمين.
أللهم إنا نسألك رحمة من عندك، تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها أمرنا، وترد بها الفتن عنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا وتزين بها عملنا، وتبيض بها وجوهنا، وتعصمنا بها من كل سوء ومكروه.. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكها أنت وليها ومولاها. اللهم أعز الإسلام وأنصر المسلمين،اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين. اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزراءه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة، يارب العالمين.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان،اللهم كن لهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن، اللهم أصلح أحوالهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، ،وألف بين قلوبهم،ولا تجعل لعدو عليهم سبيلا..
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، وارحم الله موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير.. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…
عِبَادَ الْلَّهِ: (إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ). فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.
خطبة جامع الفاتح- عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين