الجمعة 27 ربيع الأول 1442 هـ
الموافق 13 نوفمبر 2020 م
الحمد لله، حكم بالفناء على أهل هذه الدار، وأخبر أن الآخرة هي دار القرار، وهدم بالموت مشيد الأعمار، نحمده سبحانه على نعمه الغزار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المصطفى المختار، القدوة المثلى في العمل لحسن الخاتمة وعدم الركون إلى هذه الدار، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى:(وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)
معاشر المسلمين: إن الله تعالى جعل لكل إنسان عمراً واحداً من عمر هذا الزمن الدنيوي، وأبهم عنه مقدار نصيبه من هذه الحياة الدنيا الموقوتة؛ ولهذا يظل المسلم اليقظ دائمَ الانتباه، حاضر الاستعداد لملاقاة أجله، واستيفاء عمره على هذه الدنيا فيما ينفعه حين رجوعه إلى ربه تبارك وتعالى.. هذا الحس الساهر، يبعده عن سِنة الغفلة، ونعاس الفتور، والقعود عن التهيؤ ليوم المعاد؛ فيكون عند ذلك من المسارعين على الصراط المستقيم، فإذا بقي هذا الشعور حياً ساق صاحبه إلى حسن الخاتمة.
عباد الله: إن الحديث عن خاتمة الإنسان ونهايته حديث تشرئبُّ إليه الأعناق المؤمنة، وتقف له القلوب الحية؛ لأنه حديث عن النهاية، وحديث عن المرحلة الأخيرة من سفر الدنيا، وحديث عن الحال التي سيقابل بها كل إنسان ربه، فهي الصفحة الأخيرة من دفتر الحياة، وعليها ختم السعادة أو الشقاوة.
فلأجلها بقيت سبل الخير آهلة بالعاملين، وظل المؤمن قريباً من ربه يتقرب إليه، ويتضرع بين يديه ولأجلها شمّر المشمرون، وجدّ العابدون، ولأجلها حلّق المؤمنون في آفاق العمر على جناحي الخوف والرجاء: يرجون رحمة الله وفضله، ويخافون عقوبته وتحويل القلوب عنه فكم ذرفت لها من دموع وهجرت جنوبٌ النومَ واللذائذ والهجوع.
أيها المسلمون: إن الصالحين من عباد الله جعلنا الله وإياكم منهم، ينظرون إلى الخاتمة بعين الاهتمام والاعتناء؛ خشية أن يتخبطهم الشيطان في أعقاب أيامهم، وقبيل غروب شمس حياتهم؛ فيظلون عاملين خائفين، فالقلوب بيد علام الغيوب يقلبها كيف يشاء، والنفوس أمارة بالسوء تتربص بالإنسان دوائر الشر، وفتن الشبهات والشهوات كثيرة تقف على كل طريق، والناجون قليل، والهالكون كثر. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكثر من الدعاء، (يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ) ولما سئل عن السبب قال: إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ .(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)
أيها المؤمنون: لقد جاء في كتاب الله سبحانه التأكيد على أهمية حسن الخاتمة. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ويقول تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).. فالأمر بتقوى الله تعالى وعبادته مستمر حتى الموت؛ لتحصل الخاتمة الحسنة، وقد ورد أن الأعمال بالخواتيم، وإذا كان الإنسان لا يدري متى يفجؤه الأجل، ولا متى يباغته الموت، فإن عليه أن يستعد لهذه اللحظة المفاجئة بالعمل الصالح، لا فرق في ذلك بين الكبير والصغير، والغني والفقير، والشريف والحقير، والمأمور والأمير والحاكم والمحكوم، والشاب والشيخ، والذكر والأنثى،إذ الكل متجرع مرارة الموت لا محالة، والخوف كل الخوف أن تفاجئ الإنسان هذه اللحظات القاسية، وهو على حال سيئة عياذاً بالله، ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يخافون من سوء الخاتمة خوفاً شديداً مع كثرة أعمالهم الصالحة رضي الله عنهم، قال بعضهم: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطْرة، وعند كل حركة، كيف لا ؟ وهم الذين وصفهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) وينبغي يا عباد الله أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً في كل لحظة أمام عين الإنسان؛ لأن الخوف باعث على العمل الصالح. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من خافَ أدلَجَ ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ غاليةٌ ، ألا إنَّ سلعةَ اللَّهِ الجنَّةُ). لكن إذا أحس العبد بدنو أجله، فينبغي أن يغلب جانب الرجاء على الخوف لقوله صلى الله عليه وسلم:( لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) وبهذا يُعْلَم يا عباد الله أنه من الخطأ والإفلاس أن يعتمد بعض الناس على سعة رحمة الله، وعفوه ومغفرته، فيدفعهم ذلك إلى الاسترسال في المعاصي، والاستمرار على ارتكاب المحرمات، فيندمون عند مفاجأة الأجل ولات ساعة مندم. (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قائلها ومن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)..
أيها المؤمنون: ولنقف معكم وقفة تأمل واعتبار، لنماذج من مشاهد احتضار من سبقونا من سلفنا الصالح، ممن هم أكمل الناس إيماناً، وأكثرهم عملاً وجهاداً، ننظر في مشاهد أولئك القوم، وكيف كان الواحد منهم يخرج من هذه الدنيا ويدخل عالم الآخرة؟ وبأي نفسية وشعور كان احتضارهم؟ ثم نقارن بين حالهم وحالنا، والله المستعان وحده على ما نقول ونفعل ونحاذر… فأول هؤلاء الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى محمد بن عبد الله بأبي هو وأمي عليه صلوات الله وسلامه، فقد عانى من هذه الساعة شدة وكرباً، صح في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة فيها ماء،(إناء صغير من جلد) فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه، وهو يقول لا إله إلا الله،إن للموت لسكرات، ثم نصَب يدَه، فجعل يقول: (في الرفيقِ الأعلى)، حتى قُبِض ومالَتْ يده، وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، فجعلت فاطمة رضي الله عنها، تقول واكرب أبتاه، فقال لها صل الله عليه وسلم: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلى صدر عائشة رضي الله عنها في كساء ملبد، وإزار غليظ ، فقامت فاطمة رضي الله عنها تقول: يا أبتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه من ربه ما أدناه، فلما دفن قالت: يا أنس:أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبوبكر رضي الله عنه حينها:
يَا لَيْتَنِي مِنْ قَبْلِ مَهْلِكِ صَاحِبِي
غُيِّبْتُ فِي جَدَثٍ عَلَيَّ صُخُورُ
ولما حضرت أبا بكر الصديق رضي الله عنه الوفاة، جاءته أبنته عائشة رضي الله عنها، فتمثلت بقول القائل:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى
إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فكشف عن وجهه رضي الله عنه وقال: ليس كذلك يا بنية، ولكن قولي:( وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ثم فاضت روحه إلى باريها رضي الله عنه وأرضاه… ولما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة، قال لابنه عبد الله: ضع خدي على الأرض، فلما وضعه قال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي، وددت أني عشت كفافاً لا لي ولا عليّ. وكان إصراره على أن يضع ابنه خده على الأرض من باب إذلال النفس في سبيل تعظيم الله عز وجل، ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورة تبين لنا قوة حضور قلبه مع الله ثم فاضت روحه إلى ربها رضي الله عنه وأرضاه.. وعن عثمان رضي الله عنه أنه قال حينما ضرب والدماء تسيل على لحيته، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستهديك وأستعينك على جميع أموري، وأسألك الصبر على بليتي. ثم فاضت روحه إلى ربها رضي الله عنه وأرضاه.
ولما احتضر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، جعل يكثر من قول لا إله إلا الله، وقد قيل: إن آخر ما تكلم به: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَهُ) ثم أوصى ابنه الحسن رضي الله عنه أن يغسله فقال: لا تغالي في الكفن، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً.وأوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله، ثم فاضت روحه إلى ربها رضي الله عنه وأرضاه… ولما حضرت الحسن بن علي رضي الله عنه الوفاة، قال لأهله: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرج، فقال:اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإني لم أصب بمثلها. ثم فاضت روحه إلى خالقها رضي الله عنه، ولما حضرت بلالاً رضي الله عنه الوفاة، صاحت زوجته: واحزناه، فكشف الغطاء عن وجهه و هو في سكرات الموت .. و قال: لا تقولي واحزناه ، بل واطرباه وافرحاه،غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه.وفاضت روحه إلى ربها رضي الله عنه… و لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة، قال انظروا هل أصبحنا ؟ فلما قيل له قد أصبحنا،قال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صباحها إلى النار، ثم قال: مرحباً بالموت زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. ثم فاضت روحه إلى باريها رضي الله عنه.. وروى المزني رحمه الله قال: دخلت على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه، فقلت له كيف أصبحت؟ قال أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوة مفارقاً،ولسوء عملي ملاقياً،ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها،أم إلى النار فأعزيها، وأنشأ يقول:
وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي
جَعَلتُ الرَجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّماً
تَعاظَمَني ذَنبي فَلَمّا قَرَنتُهُ
بِعَفوِكَ رَبّي كانَ عَفوُكَ أَعظَماً
ثم تشهد وفاضت روحه إلى باريها رحمه الله
ولما حضرت مالك بن أنس الوفاة، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم قال: لله الأمرُ من قبلُ ومن بعد ثم قبض رحمه الله تعالى.
فالله المستعان عباد الله، هذه حال القوم في ساعة الاحتضار والموت، وهم من هم في الإيمان والتقوى ومراقبة الله عز وجل رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا في الجنة وإياهم، فرحماك ربنا رحماك، وعفوك ورضاك وتثبيتك يا الله.
فاتقوا الله عباد الله واعملوا على حسن الخاتمة، واحذروا من سؤها، وسلوه العفو والعافية والستر في الدنيا والآخرة.
وتذكروا رحمكم الله الموت وحلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقائك، واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا في جناتك وجوارك وجوار نبيك يا ذا الجلال والإكرام.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الأول الباقي، والشكرُ له وإن سحَّت بالدموع المآقِي، نحمَدُ الله حمدَ الشاكرين الصابِرين، ونشهَد أن لا إله إلا الله وليُّ المتقين، ونشهَد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسولُه إلى الخلائِق أجمعين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون: الموتُ في هذه الحياة الدنيا نهايةُ كل حيٍّ، وخِتامُ كل شيءٍ، الكل يفنى ويموت، ويبقى الحي القيوم الذي لا يموت، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) وقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، وقال جل وعلا مخاطباً نبيه وحبيبه محمدأ صلى الله عليه وسلم: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)… وقال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)… عباد الله:الرَّحيلُ عن هذه الحياة ووداعُ الأحياء هو القدَرُ الذي ليس عنه مناص، والحَتمُ الذي لا مهرَبَ منه ولا خلاص. خطَّتْه الأقلامُ وأوقَعَتْه المقادير، فهو قدَرُ الحياة والأحياء، ومُنتهَى الخلائِقِ ومآلُ الأشياء، وهو المُصيبةُ التي قال الله عنها: (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ).ورغمَ يقين الخلقِ به وانتِظارِهم له، إلا أن لحُضورِه هيبة، ولوقعِه في النفسِ رهبة، يترُكُ حضورُه في النفوسِ انكِساراً وأحزاناً، ويُخلِّفُ مرورُه في الأفئِدة لوعةً وأشجاناً.ولئن استحكَمَ الحُزنُ على النفسِ لوفاةِ حبيبٍ أو قريبٍ، فإن الخَطبَ يجِلُّ والمُصيبةَ تعظُم حين يخطِفُ الموتُ الأمهات والآباء والزوجات والأبناء والبنات، والعلماء والفُضَلاء.. فكيف إذا غيَّبَ الموتُ أميراً وقائداً ورمزاً لبلد؟ ولقد رُزِئَت هذه البلادُ مملكة البحرين يوم أمسٍ بوفاةِ رئيس وزرائها صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، رحم الله منه الجسدَ والروح، وأقالَ الله عِثارَه، وأعلَى في الجنةِ مقامَه، وتغمَّدَه بواسِعِ عفوِه، وسكَبَ عليه من فُيوضِ رحماتِه، وأخلَفَ الله على بلادِنا وقيادتنا وأهله وأولاده والمُسلمين خيراً..
فقد كان رحمه الله رمزاً وقائداً ملهماً ومحنكاً، ورجلاً متواضعاً ومتواصلاً مع جميع الناس، ذا مبادئ ومواقف صلبة وقت الشدائد.. وكان أباً وأخاً وصديقاً لكل أهل البحرين. كرس حياته من أجل خدمة ونهضة ورفعة وطنه، بمعية صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى وولي عهده الأمين سلمان بن حمد، حفظهم الله ورعاهم، وكان له الأثر الكبير في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعمرانية والإنسانية، بل ووصلت هذه الآثار إلى جميع أنحاء العالم.
وسوف تبقى وقفاته وأعماله وبذله وعطاؤه وتضحياته وإنجازاته، حاضرة في قلوب جميع أهل البحرين. وسيبقى خليفة رمزاً وطنياً خالداً لهذا الوطن العزيز.. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا خليفة لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون. حقٌّ علينا أن ندعُو له ونُكثِر؛ فقد كان كثيراً ما يسألُ شعبَه الدعوات، ويأمَلُ منهم أن يسألُوا الله له العافيةَ والرَّحَمات… ونعزي في هذا المقام جلالة الملك حمد بن عيسى وولي عهده وأولاد الفقيد وذويه وأنجاله والأسرة المالكة وشعب البحرين بهذا المصاب الجلل، ونقول عظم الله أجركم وأحسن عزاءكم وغفر لميتكم، وتغمده بواسع رحمته ورضوانه وأدخله فسيح جناته وجزاه الله خيراً على ماقدمه لوطنه ومواطنيه وأمته وألهم الجميع الصبر والسلوان. .
اللهم إنا نسألك في هذا اليوم المبارك، أن تغفر لسمو الأمير خليفة بن سلمان، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا ينقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ من الدنس. اللهم أملأ قبره بالرضا والنور، والفسحة والسرور، وجازه عن الإحسان إحساناً، وعن الإساءة عفواً وغفراناً. اللهم اجعله في بطن القبر مطمئناً، وعند قيام الأشهاد آمناً، وبجود رضوانك واثقاً، وإلى أعلى علو درجاتك سابقاً.
اللهم نور قبره، وآنس وحشته، وارحم غربته، ونفس كربته، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اسقه من حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة مريئة لا يظمأ بعدها أبدا … اللهم آمنا في وطننا، وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ سلمان بن حمد واجعله خير خلف لخير سلف ووفقه وسدد خطاه لما فيه خير البلاد والعباد، الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ، وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَارَبْ الْعَالَمِيْنَ.
اللهم وفِّق المسئولين والعاملينَ والمتطوعين في فريق البحرين الوطني، وأَعِنْهم وانفع بهم، وبارك في جهودهم، وأحفظهم من كل سوء ومكروه، وأحفظ بلادنا وبلاد المسلمين والعالم أجمعين من الأوبئة وسيئ الأسقام، ومّن بالشفاء والعافية على المصابين بهذا الوباء، وارحم المتوفين به، وعجل بانتهائه في القريب العاجل برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً..
اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله وأطلق قيده، وفك أسره، وأحي في قلوب المسلمين والمؤمنين حبه ونصرته واجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين…
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا، واشف مرضانا واشف مرضانا وارحم موتانا وعلمائنا وارحم والدينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين