الجمعة 15 جمادى الأولى 1441هـ

الموافق 10 يناير 2020 م

الحمد لله الذي يسر لنا الأسباب المانعة من الضلال والافتتان، ووضح لنا الفتن وبين لنا الأسباب التي نتحصن بها أعظم بيان ،ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المنان، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى من بني عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة مستمرة باستمرار الزمان، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين:صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال): إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ، وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهاً، (أي هنيئاً له) والفتن جمع فتنة، ومعناها: الاختبار والامتحان والبلاء والابتلاء. قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)،وقال سبحانه: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً، أَتَصْبِرُونَ)  إنها الفتن  يا عباد الله  إذا تلاطم موجها، وغشيت كقطع من الليل مظلماً، عندها تضطرب الأفهام وتزل الأقدام، وتختل الموازين، فإذا بدهماء الناس يسيرون خلف كل ناعق ويهتفون لكل صائح،  يرددون بلا وعي، ويتعجلون بلا روية حتى قال حذيفة رضي الله عنه : (تكون فتنة تموج فيها عقول الرجال حتى ما تكاد ترى رجلاً عاقلاً) . والفتن عباد الله منها ما هو خاص بالمرء في ذاته، ومنها ما هو عام عليه وعلى أمته ومجتمعه ووطنه، فقد يفتن المرء بنفسه فيصيبه: الغرور والعجب، والكبر، والبطر، وحب الشهرة والتعالي، والاعتداد بالرأي المجحف، والعناد والتعصب للهوى، والفجور في الخصومة والافتراء،  والحسد  والفخر … وقد يفتن المرء في أهله وولده وماله، يقول تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنةً  وفتنة أمتي المال) ومن ذلك الافتتان بمتاع الحياة الدنيا، والمنصب والجاه والنسب، ونحو ذلك، والافتتان بالسحر والشيطان وقرناء السوء، وفتنة النساء بالتبرج والتكشف وعدم الاحتشام والمجاهرة بالسوء والفحشاء، والتشبه بالأعداء والتقليد الأعمى فتنة، وقبض العلم وذهاب الصالحين، وارتفاع الأسافل، وإسناد الأمر إلى غير أهله فتنة، والحروب والقتل والتعذيب والسجن والإبعاد والحرمان والتشريد فتنة، وعلماء السوء ودعاة التغريب والتخريب والفساد فتنة..

وتسلط أعداء الإسلام على كثير من بلدان المسلمين وحرماتهم ودمائهم وأعراضهم ومقدساتهم وممتلكاتهم ومقدراتهم ، وهواننا عن نجدتهم واستنقاذهم فتنة وأي فتنة ..

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (حبذا موتاً على الإسلام قبل الفتن) وإن من الفتن يا عباد الله: أن يأتي على الناس زمان لا يُتبع فيه العالم، ولا يُستحي فيه من الحليم، ولا يوقر فيه الكبير، ولا يرحم فيه الصغير، زمانٌ تنتكس فيه الفطر، وتختل فيه الموازين فيصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويخوّن فيه الأمين ويُكذب فيه الصادق، وتشتد على المسلم غربته في دينه بين أهله وقرابته وفي مجتمعه ووطنه وأمته.. فتن يكثر فيها الهرج والمرج، يكثر فيها القتل بحق وبغير حق، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ ، فَقِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : الْهَرْجُ ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) وقال صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّاً عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا  وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ  وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) فنحن في زمن يا عباد الله كثرت فيه الفتن،  وما هي إلا من علامات الساعة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه و سلم، أن يسلط بعض الأمة على بعض، ويقتل بعضها بعضاً و تسيل الدماء، و تنتهك الحرمات، و تسلب الأموال، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًاً فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ،(أي بالقحط يعمهم)  فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا) و في رواية:  (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً و يسبي بعضهم بعضاً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ. قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: (الْقَتْلُ، القتل). قَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضاً). قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: (إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ). إنها الفتن يا عباد الله لا تطيب معها حياة و لا يصفو معها عيش، تذهل لها العقول وتضيق بها الصدور، وتزل فيها الأقدام، نسأل الله السلامة والعافية.

فما هو المخرج يا ترى من هذه الفتن التي نراها ونسمع بها من حولنا ولربما بلينا ببعضها وعايشناها؟ إن أول الواجبات على المسلم تجاه الفتن: عدم الفرح بها أواستشرافها، أو السعي فيها ولها .. دليل ذلك ما صح عنه عليه الصلاة والسلام من تعوذه من الفتن، وسؤال الله أن يصرفها عن أمته، وكان يكثر الاستعاذة من الفتن، ويدعو أصحابه لذلك ويقول: (تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن) ويقول صلى الله عليه وسلم: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا أي(يتعرض ويتطلع لها) تَسْتَشْرِفْهُ أي (تهلكه)، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًاً فَلْيَعُذْ بِهِ) وقال عليه الصلاة والسلام : (لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوّ، وَسَلُوا اللَّه الْعَافِيَة، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) … عباد الله: ومن أسباب النجاة من الفتن: الفزع إلى الصلاة والعبادة والدعاء. قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) ولما اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فزعاً قَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ، وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ، أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ- يريدُ زوجاته لكي يصلين- فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ) ولما نزلت الفتنة بعثمان بن عفان رضي الله عنه في مقتله، دخل عليه عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ ، وَهُوَ مَحْصُورٌ في داره، فَقَالَ لَهُ : إِنَّكَ إِمَامُ الْعَامَّةِ، وَقَدْ نَزَلَ بِكَ مَا تَرَى، ويُصَلِّي بِنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ، ونتَحَرَّجُ مِنَ الصَّلاةِ مَعَهُ . فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : (إِنَّ الصَّلاةَ أَحْسَن مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ، فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ) وقال صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إليّ)… ومن الوسائل المشروعة تجاه الفتن : الثبات على دين الله عز وجل،  والتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ)- ومحل الشاهد الثبات – قال: فمن أحب أن يعلم أصابته الفتنة أم لا ؛ فلينظر هل يرى شيئاً حلالاً كان يراه حراماً ، أو يرى شيئاً حراماً كان يراه حلالاً).. ومن الوسائل المشروعة تجاه الفتن: كف اليد واللسان .. يقول صلى الله عليه وسلم : (وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَفَّ يَدَهُ) وقد ذكر العلماء حرمة بيع السلاح حال الفتن وهذا من كف اليد .. قال الحسن البصري رحمه الله عن الفتن: (وما الخروج منها كيوم دخلوا فيها إلا السلامة، فسلمت قلوبهم وأيديهم وألسنتهم). وقال صلى الله عليه وسلم: (من صمت نجا) ولما سئل أحد السلف الصالح عن القتال الذي حصل بين الصحابة رضي الله عنهم قال : (تلك دماء طهر الله منها أيدينا، أفلا نطهر منها ألسنتنا؟

أيها المؤمنون: ومن أسباب النجاة من الفتن: الحذر من المنافقين والمخذلين والمرجفين والمصطادين في الماء العكر ممن وصفهم الله بقوله: (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) ولا تستغربوا أن يكون هؤلاء المنافقون المندسون من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.. عباد الله: ومن الوسائل المشروعة زمن الفتن: الصبر على البلاء، يقول الله تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وقال صلى الله عليه وسلم: (لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة).فأعدوا للبلاء صبراً،  ومن ذلك الأخذ على يد الظالم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ)… ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ؛ فهذا الركن هو صمام الأمان من الفتن ، وبفقده تتحول النعم  وتحل النقم .. ومن أسباب النجاة من الفتن: الائتلاف والاجتماع على كلمة الحق، وعدم التفرق والشتات، ووزن الرايات والشعارات المرفوعة حال الفتنة بميزان الشرع، والرجوع إلى العلماء الربانيين الثقات والاقتداء بهم، والالتفاف حول ولاة الأمر في البلاد وطاعتهم بالمعروف، وذلك لأن أعداء الإسلام يستهدَفون دين الأمة عند الفتن وأمنها واستقرارها، ويستهدفون خيراتها ووحدتها، واجتماع كلمتِها، ويُسْتهدفون كلُّ خير تتمتَّع به الأمّة والأوطان، فواجب على المسلمين أن لا يوجِدوا ثغرةً للأعداء يلِجون من خلالها، بل يكونوا صفًّاً مترابِطاً، صفًّا واحداً كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، وكالجسد الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسَد بالحمَّى والسهر ، التحاماً على الخير، وإغلاقاَ للأسمَاع عن كلِّ الأراجيف والأباطيل، لأنَّ الأمة اليوم بحاجةٍ إلى تكاتُف وتعاون واجتماع وارتباط وثيق يشدّ بعضُهم أزرَ بعض، وبهذا يكونوا مؤمنين (وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) إنَّ اتحادَ جبهة الأمة وقوّة تماسكِها لعنوانُ صلاحها وسلامتها بتوفيق من الله ، وإنَّ هذه الغمَّة والفتن والبلايا سيزيلها الله بفضلِه وكرمه، لكن على المسلمين أن يتمسَّكوا بدينهم، وأن يثقوا بربهم وبتعاليمِ دينِهم وأنها الحق، وأن يكونَوا على المنهج القويم، فدينُنا منصورٌ بإذن الله إن نحن قمنا به خير قيام، وصدق الله العظيم: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ  إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ  وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ)  ولا يكون النصر إلا بالتواصي بالحق واجتماع الكلمة، ولمِّ الشعث، كلُّها أمور تُمِدّ الأمّة بالقوة أمام كلِّ التحديات، لنعلم أنَّ الله جلّ وعلا أعدل العادلين وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين ، فليلجأ إليه المسلمون دائماً وأبداً  ولنشكو إليه حالنا، ولنثِق بالله وبنصرِه، ولنأخذ بالأسبابِ النافعة المشروعة عند حلول الفتن… نسأل الله تعالى أن يجمعَ كلمةَ المسلمين قادة وشعوباً على الحقّ، وأن يردَّ كيدَ أعدائهم في نحورهم، وأن يوفِّقَهم جميعاً للعَمَل بشرعه والتمسّك بدينه والاعتصام بكلمة التقوى، وأن يولي عليهم خيارهم وأن يهلك شرارهم إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه .

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله اللطيف بعباده، فلا يكون أمر يقضيه عليهم إلا دائر بين عدله و حكمته، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله القائل: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، ويتقارب الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج أي القتل)، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إنَّ أهلَ الإيمان لا تزيدهم الأحداث إلا صلابةً في دينِهم وثباتاً على إسلامهم، لا تزحزِحهم الأحداث ولا تسلُّطُ الأعداء، ولا يضعف الإيمان ، بل يقوى اليقين ويقوى الإيمان، قال تعالى عن أصحاب نبيه وقد أصابهم ما أصابهم يوم أحد:(ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ)  يعلَمون أنّ الأعداءَ يرجفون بهم، ويثبِّطون هممَهم ، قال الله تعالى:   (إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ)  أهلُ الإيمان حقاً يعملون بما دلّ عليه كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وما أرشدهم إليه، من  أنَّ النصرَ لأهل الإسلام والعاقبة للمتقين، قال تعالى :  (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)  فإذا وُجِد الإيمان الصادق فلأهل الإيمان التمكين والنصرُ والتأييد  (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ أَنَّ ٱلأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ) والمؤمنَ أمام الأحداث يتقَّرب إلى الله بما يُرضيه ، فيبذل المعروفَ ، ويكثِر الإحسان والإنفاق في وجوه الخير ، فإنَّ الصدقاتِ يدفع الله بها البلاء  ويرفع الله بها المِحن ، فبالإحسان إلى عباد الله، ورحمةُ عِباد الله، يرحم الله بذلك العباد، (فصنائع المعروف تقي مصارع السوء) أهلَ الإيمان أمام الأحداثِ والبلايا يكثُر التِجاؤهم إلى ربِّهم وتضرُّعهم بين يدَيه ، مع أخذِهم بكلِّ سببٍ نافع ، يلجئون إلى الله ، ويُلحّون عليه في الدعاء آناء الليل وأطرافَ النهار، فما أصاب المسلمين من كَرب وفوّضوا أمرَهم إلى ربِّهم، والتجئوا إليه، إلا وجَدوا الله توّاباً رحيماً . ها هم أنبياؤه ورسلُه إذا نزلت بهم البلايا والمضايق يلجئون إلى الله عز وجل، (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ،  فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ)، (وَذَا ٱلنُّونِ (أي يونس) إِذ ذَّهَبَ مُغَـٰضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ، (أي: ظن أن لن نضيق عليه في بطن الحوت)  فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ،  فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـٰهُ مِنَ ٱلْغَمّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـى ٱلْمُؤْمِنِينَ)

أيّها المسلمون: إن أهل الإيمان مع ذلك يحسِنون الظنَّ بربِّهم ، ولا يسيئون الظنَّ به سبحانه ، ويعلمون أنَّه الحكيم العليم فيما يقضي ويقدِّر، لا يظنُّون به ظنَّ المنافقين الظانّين بالله ظنَّ السوء، لكنَّ ثقتَهم بربهم ، وأنَّ الأمور بيَد الله ، وموازين القوى بيدِ الله،  والعباد كلّهم خاضعون لله ، لكن الابتلاء والامتحان لا بدَّ منه ؛ ليظهرَ صدق المؤمنين وثباتُهم وارتباطهم وقوّتهم ووقوفهم أمام عدوّهم وقفةَ الصدق واليقين والارتباط والثباتِ وشدّ الأزر والتعاونِ القويّ بين أفراد الأمّة . فوصيتنا للجميع ولأهلنا ممن فتنوا وابتلوا بتسلط  أعداء الله عليهم، في بعض البلدان العربية والإسلامية،نوصيهم بتقوى الله، والتمسك بتلك الوصايا التي ذكرناها آنفاً. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وقال عز وجل: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)

اللهم جنبنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين يارب العالمين.. اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نعوذ بك  من الفتن بأموالنا وأولادنا وأزواجنا وشهواتنا وحظوظ أنفسنا يا رب العالمين… اللهم أطفأ نار الفتن والمصائب والحروب والخلافات والمنازعات بين المسلمين وأخرجهم من هذه المحن، وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم ،وردنا وإياهم إليك رداً صحيحاً جميلاً يا ذا الجلال والإكرام. اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وخليجنا من كل سوء ومكروه، وأن تحفظ علينا أمننا وأيماننا، وأن تجعلنا حماةً وجنداً لهذا الوطن الغالي.. اللهم سدد على طريق الخير خطى مليكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وبارك لهم في جهودهم وأعنهم على تحقيق آمال وطموحات مواطنيهم،وما يصبون إليه من تقدم وتطور ونماء وازدهار ورخاء يا ذا الجلال والإكرام… اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ألف بين قلوبهم، ووحد صفوفهم، وبصرهم بأمرهم، ولم شملهم، واجبر كسرهم، واحقن دمائهم، وولي عليهم خيارهم، ولا تسلط عليهم شرارهم، ولا تسلط عليهم من لا يخافك ولا يرحمهم يا أرحم الراحمين. اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عِبَادَ الْلَّهِ: إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ،. فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

       خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين