الجمعة 8 جمادى الأولى 1441 هـ

الموافق 3 يناير 2020 م

الحمدُ لله خلَق الإنسانَ ولم يكن شيئاً مَذكوراً، صوَّره فأحسَن صورتَه فجعله سميعاً بصيراً، أرسَل إليه رسلَه وأقام عليه حجَّته وهداه السبيلَ إمَّا شَاكراً وإمّا كفوراً، نحمَده سبحانَه ونشكره شكرَ من لم يرجُ من غيرِه جزاءً ولا شكوراً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له إنّه كان حليماً غفوراً، ونشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمَّداً عبد الله ورسوله، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة وعبد ربَّه حتى تفطّرت قدماه فكان عبداً شكوراً، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آلِه وأصحابه رجالٍ صدقوا ما عاهَدوا الله عليه فكان جزاؤهم موفوراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاةً وسلاماً وبركات دائمات رَواحاً وبُكوراً.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا) ويقول سبحانه وتعالى: (رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ، وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ)

عباد الله: مادة: (رجل) تدل بأصل وضعها في اللغة على طائفة كبيرة من المعاني، غير الذكورة المقابلة للأنوثة في بني الإنسان، تقول العرب في المفاضلة بين الاثنين وتفوُّق أحدهما على صاحبه: أرجل الرجلين، وللدلالة على القدرة على التصدي للأحداث: رجل الساعة، وفي ختام المباهاة بالشرف والثناء تقول العرب: هو من رجالات قومه. وعند ورودها في القرآن الكريم تضيف مع دلالتها على النوع معاني أخرى تسمو بالنوع إلى السمو والامتياز… استعمل القرآن (رجالاً) وصفًا للمصطفَيْن الأخيار فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ) ، والوصف بالرجولة في بعض المواطن تعريفٌ مقصودٌ يُوحي بمقومات هذه الصفة، من جرأة على الحق، ومناصرة للقائمين عليه، قال تعالى: (وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ) ، وقال سبحانه: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ) وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى الرجولة التي تناصره وتعتز بها دعوته، ويسألها ربه عز وجل فيقول: (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب)، قال الراوي وكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

يتطلع عليه الصلاة والسلام إلى معالم الرجولة التي تؤثر في نشر الدعوة وإعزاز الإسلام. كان إسلام عمر رضي الله عنه حدثًاً كبيراً، وُجدت رجولته في اللحظة الأولى من إسلامه، فبعد أن كان المسلمون لا يجرؤون على الجهر بدينهم جهروا به، قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر)… لم تكن رجولة عمر في قوة بدنه، ولا في فروسيته، ففي قريش من هو أقوى منه، ولكن رجولته كانت في إيمانه القوي، ونفسه الكبيرة التي تبعث على التقدير والإكبار. هاجر الصحابة رضوان الله عليهم خفية، أما عمر فقد تقلد سيفه ومضى إلى الكعبة فطاف وصلى في المقام، وأعلن هجرته على الملأ وقال لهم: (من أراد أن تثكله أمه، ويُيتِّم ولدَه، ويُرمل زوجته، فليتبعني وراء هذا الوادي) ، فما تبعه منهم أحد. يضع عمر البرامج لتعليم الرجولة فيقول: (عَلِّمُوا أوْلاَدَكُمْ الرِّمَايَةَ والسِّبَاحَةَ ورُكُوبَ الخَيْلِ، وروُّوهم ما يُجَمِّل من الشِّعر)

أيها المسلمون: الرجولة مطلب يسعى للتجمل بخصائصها أصحاب الهمم، ويسمو بمعانيها الرجال الجادون، وهي صفة أساسية، فالناس إذا فقدوا أخلاق الرجولة صاروا أشباه الرجال، غثاءً كغثاء السيل. الرجولة تُرسَّخ بعقيدة قوية، وتهذَّب بتربية صحيحة، وتنمَّى بقدوة حسنة. ميزان الرجولة عند عامة الناس هو ميزان مادي فقط، فمن كان جميل المظهر، مكتمل القوى، كثير المال، فهو الرجل الطيب. ولكن ميزان الرجال في شريعة الإسلام من كانت أعماله فاضلة، وأخلاقه حسنة، مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ : (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ،  وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا ؟ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا)

الرجال عباد الله لا يقاسون بضخامة أجسادهم، وبهاء صورهم، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه  قال: أمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ، (من ضعفها ونحافتها) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَضْحَكُونَ؟ والذي نفسي بيده لَرِجْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ) الرجولة الحقة عباد الله رأيٌ سديد، وكلمة طيبة، ومروءة وشهامة، وتعاون وتضامن، الرجولة تحمل المسئولية في الدعوة إلى الله، والنصح في الله ومحبة عباد الله، قال تعالى: (وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ) الرجولة قوة في القول، وصدع بالحق، وتحذير من المخالفة من أمر الله مع حرص وفطنة، قال تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)

الرجولة صمود أمام الملهيات، واستعلاء على المغريات، حذراً من يوم عصيب، قال تعالى: (رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ، وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ)

الرجل الحق يصدق في عهده، ويفي بوعده، ويثبت على الطريق، قال تعالى: (مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً). ليس من الرجال الذين نعنيهم أولئك الذين يعبُّون من الشهوات، أو الغارقون في الملذات، الذين قعدوا عن معاني الغايات، وأعرضوا عن خالق الأرض والسموات، وليسوا أولئك الذين ضخمت أجسادهم، وقد خلت من قول الحكمة ألسنتهم، وسداد الرأي عقولهم، هؤلاء الرجال أشباه رجال لا ننشدهم، بل نبغي الذين عناهم القرآن الكريم في قوله: ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَمًا وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ)

ليس من الرجولة  عباد الله أن يكون الشاب كالإمعة إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، وإذا ولغ أصحابه في مستنقعات السوء جرى في ركابهم لكي يكون رجلاً كما يزعمون. هل من معالم الرجولة الحقة أن تكون غاية مراد الشاب شهوة قريبة، ولذة محرمة في ليلة عابثة بلا رقيب ولا حسيب؟! أين هذا من رجل قلبه مُعلق بالمساجد؟! وأين هذا من رجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله؟! وأين هذا من رجل تصدق بصدقة فأخفاها؟! ورجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه؟! أولئك يمقتهم الرحمن، وهؤلاء يدنيهم، ويظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله…. قلم الأديب والصحفي المسلم تام الرجولة، شعْرٌ يهذب الأخلاق، ويسمو بالمعاني، وينبذ الإسفاف، وروايات تحكي قصص الخيرين من الأسلاف، وحوارات ترفع طموحات الأمة، وتحقق جليل الأهداف، أدبٌ لا ميوعة فيه ولا فحش، وقد ابتليت هذه الأمة في أعقاب الزمن ، في بعض نواحيها، بأدب لا يمتّ إلى الرجولة بصلة،أدب رخيص يدغدغ اللذة في حرام، ويناشد القلب في هُيام، ويصعد إلى الروح في ظلام. أدب يبيع الضمير، ويستهوي القلب في الغواية، ويرشّح للمعصية،ويفسد أخلاق الشباب، ويغرس الإلحاد والزندقة في النفس، ويربي على حب الشيطان في القلب، أدب يربي على الأغنية الماجنة،والفلم الخليع، ويحبب الفاحشة، ويبني الرذيلة، إن شر ما تُصاب به الحياة هو الخروج على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وذلك بتأنث الرجال واسترجال المرأة، أين الرجولة فيمن يتمايل ويتثنى في حركاته، ويتفنن في قصات شعره، ويقلد النساء، ويضع القلادة على رقبته، ويتأطّر في مشيته، بل قد يرقص كما ترقص النساء؟!

إن هذه السلوكيات نواة شر ونذير فساد لكل المجتمع؛ لأنها تحكي مسخًاً وانحرافًاً عن الفطرة، وانهزامية وانحطاطًاً على حساب أخلاق الأمة، ولهذا (لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال) ، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء..)

أيها المسلمون: بعض وسائل التربية العقيمة المستوردة جعلت بعض أبناء المسلمين لا يعرفون تكاليف الرجولة، وإذا عرفوها لا يطيقونها، ولا يقومون كما ينبغي بأعبائها، وهذا نتاج المخطط المدروس الذي يعمل على إفساد الشباب والفتيات لتعطيل التكاليف الشرعية الخاصة بكل منهما، وليجعل من لباس المرأة والرجل شيئاً واحداً، والتشابه في الظاهر يورث التشابه في الباطن، حين تختفي خصائص الرجولة بجناية الرجال أنفسهم، يحل بالمجتمع بسبب ذلك العطب، وبالبيت الضياع، وبالأمة والوطن الضعف والهوان، وتضيع القوامة، وتضعف الغيرة، فتتسع رقعة الفساد الخلقي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بوصايا دينكم، وتأسوا بهدي نبيكم، واعملوا بشرعه وتعاليمه، يصلح أمركم، وتستقم أحوالكم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

اللهم اجعل أبنائنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم جنبهم الفواحش والمحن والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم سلمهم من العلل والآفات، اللهم سلمهم من شر الأشرار آناء الليل وأطراف النهار، وأهدهم لما تحبه وترضاه، واغفر لهم يا غفار، اللهم لا تزغ قلوبهم بعد إذ هديتهم وهب لهم من لدنك رحمة وهيئ لهم من أمرهم رشداً.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إنّ مما يعاني منه كثير من الناس في هذا الزمان، ظهور الميوعة وآثار التّرف في شخصيات أولادهم، ولمعرفة حلِّ هذه المشكلة، وتداركِ الأجيال القادمة التي تعقد الأمة عليهم آمالها، لابد من الإجابة عن السّؤال التالي: كيف ننمي عوامل الرّجولة في شخصيات أولادنا؟

إن موضوع هذا السؤال هو من المشكلات التّربوية الكبيرة في هذا العصر، وهناك عدد من الحلول الإسلامية والعوامل الشرعية لتنمية الرّجولة في شخصية الطّفل، ومن ذلك ما يلي تكنية الصغير: أي  مناداته بأبي فلان أو الصغيرةِ بأمّ فلان، فهذا ينمّي الإحساس بالمسئولية، ويُشعر الطّفل بأنّه أكبر من سنّه فيزداد نضجه، ويرتقي بشعوره عن مستوى الطفولة المعتاد، ويحسّ بمشابهته للكبار، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يكنّي الأطفال الصّغار من الفتيان والفتيات كأبي عمير وأم خالد ونحوه… ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: أخذه للمجامع العامة وإجلاسُه مع الكبار؛ وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، ويرفعه عن الاستغراق في اللهو واللعب، وكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم..  ومما ينمي الرجولة في شخصية الأطفال: تحديثهم عن بطولات السابقين واللاحقين والمعارك الإسلامية وانتصارات المسلمين؛ لتعظم الشجاعة في نفوسهم، وهي من أهم صفات الرجولة.. ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تعليمه الأدب مع الكبار، ومن جملة ذلك، قوله  صلى الله عليه وسلم: (يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكبِير، والمارُّ على القاعِدِ، والقليلُ على الكثِيرِ) ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: إعطاء الصغير قدره وقيمته في المجالس، ومما يوضّح ذلك الحديث التالي : عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيّ  بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ : يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَال: (مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَداً يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ) ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تعليمهم الرياضات الرجولية كالرماية والسباحة وركوب الخيل والسباق على الأقدام والصيد أو الإنضمام إلى نادي من النوادي الرياضية وممارسة الألعاب والهوايات المباحة التي يرغب فيها.. ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تجنيبه أسباب الميوعة والتكسر والتأنث؛ في الأزياء وقصّات الشّعر والحركات والمشي، ويجب أن يمنعه وليّه من رقص كرقص النساء وتمايل كتمايلهن، ولبس كلبسهن، ويمنعه من لبس الحرير والذّهب ونحو ذلك مما يخص النساء ويبعده عن التّرف وحياة الدّعة والكسل والرّاحة والبطالة، وقد قال عمر رضي الله عنه: (اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم).. وأنيجنبه مجالس اللهو والباطل والغناء الماجن ونحوه، فإنها منافية للرّجولة ومناقضة لصفة الجِدّ… ومما ينمي الرجولة في شخصية الطفل: تجنب إهانته خاصة أمام الآخرين وعدم احتقار أفكاره وتشجيعه على المشاركة في الأعمال الجادة، وإعطاؤه قدره وإشعاره بأهميته، وذلك يكون بأمور مثل: إلقاء السّلام عليه، واستشارته وأخذ رأيه، وتعليمه الجرأة في مواضعها، وأيضاً توليته مسئوليات تناسب سنّه وقدراته، واستكتامه الأسرار.

تلك يا عباد الله طائفة من الوسائل والسبل التي تزيد الرجولة وتنميها في نفوس الأطفال  نسأل الله تبارك وتعالى أن يصلح لنا ولكم النية والذرية، وأن يجعلهم لنا خلفاً صالحاً،وأن يقيض لهم قرناء صالحين مصلحين، يهدونهم لما يسعدهم في دينهم ودنياهم، وأن يصلح مرشديهم ومعلميهم، ليكونوا قدوة حسنة لهم، تزكوا بهم الأعمال وترشد بهم الأجيال، وأبعد عنهم رفقاء السوء وشر الأشرار يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم بارك لنا في أولادنا ووفقهم لطاعتك وارزقنا برّهم، اللهم اجعلهم في حفظك وكنفك وأمانك وجوارك وعياذك وحزبك وحرزك ولطفك وسترك من كل شيطان وإنس وجان وباغ وحاسد ومن شر كل شيء أنت آخذ بناصيته إنك على كل شيء قدير.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان  وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.. اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح قادتهم وعلمائهم وشبابهم وفتياتهم ونساءهم ورجالهم يا سميع الدعاء.. اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، ناصراً ومؤيداً، اللهم وأصلح أحوالهم، وفرج همهم ونفس كربهم، وألف بين قلوبهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلا.. اللهم حرر الأقصى من أيدي الصهاينة الغاصبين، وارزقنا فيه صلاة طيبة قبل الممات يا رب العالمين.. اللهم كن للأقليات المسلمة المضطهدة المنسية في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم احقن دماءهم، وأحفظ أعراضهم، وأطفالهم ونساءهم ورجالهم وشيوخهم، ولا تسلط عليهم من لا يخافك ولا يرحمهم.. اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا واشف مرضانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير.. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

عِبَادَ الْلَّهِ: (إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ). فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين