الجمعة 9 ربيع الآخر 1441 هـ

الموافق 6 ديسمبر 2019 م

الحمد لله عمَّت رحمتُه كلَّ شيءٍ ووسِعَت، وذلَّت لعزَّته الرِّقاب وخضَعَت، نحمدُه سبحانه ونشكرُه، تمَّت آلاؤُه على عباده وتتابَعَت، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً خالصةً مُخلِصةً ندَّخِرُها ليومٍ تذهلُ فيه كل مُرضعةٍ عما أرضعَت، ونشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، جاهَدَ في الله حقَّ جهاده، حتى انتشَرَت أعلامُ الملَّة وارتفَعَت، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى عِترتِه الطيبين الطاهرين بنسبِه شرُفَت، وعلى صحابتِه الغُرِّ الميامين على هديِه سارَت ولدينِه نشرَت، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما أشرَقَت شمسٌ وغرَبَت، وظهرَت نجومٌ وأفَلَت، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: إن الله سبحانه وتعالى قد أودعَ في هذه الحياة الدنيا سُنناً ثابتةً لا تتغيَّرُ ولا تتبدَّلُ، والعاقلُ السعيدُ هو الذي يتعرَّفُ على هذه السُّنن الإلهية ليعملَ بمُقتضاها، ولا يُصادِمُها ولا يُخالِفُها، فيعيشُ في هذه الحياة عيشةَ الكرام المُوفَّقين السُّعداء، وله في الآخرة الأجورُ والنَّعماء.. ومن تلكُم السُّنن العظيمة: سُنَّةٌ طالما كان لها الأثرُ الكبيرُ في حياة الناس، وعاقِبة أمورهم ومآلهم، ألا وهي: سُنَّةُ أن (الجزاء من جِنسِ العمل)، إن خيراً فخير، وإن شرًّاً فشر.. إنها سُنَّةٌ إلهيَّةٌ كُبرى، وقبسٌ من قبَسات عدل الله وحكمته وقُدرته التي لا حدودَ لها، وقاعدةُ الجزاء الربَّاني في هذا الكون القائِم على العدل والميزان الذي لا يعولُ ولا يميلُ ولا يُحابِي أحداً… ولو تفكَّر الناسُ جميعاً في ظاهر أمرهم وباطنِه، وما هم عليه؛ لوجدُوا هذه السُّنةَ تتجلَّى لهم في كل شُؤون حياتهم، ولفقُهُوا طرفًاً من حكمة الله البالِغة في أقداره وأحكامِه، فالبرُّ لا يبلَى، والإثمُ لا يُنسَى، والديَّانُ لا يموتُ، وكما تدينُ تُدان، وكما تُجازِي تُجازَى.. أليس من العجيب أن يرحمَ الله بغيًّاً؛ لأنها رحِمَت حيواناً كادَ أن يهلِك فروَّت عطشَه؟ أليس من المُدهِش أن يخسِفَ الله بقارون وكنوزِه الأرض، ويُجرجِرَه فيها؛ لأنه طغَى وبغَى، وكادَ أن يفتِنَ الناسَ ويُزلزِلَ إيمانَهم بربِّهم؟! وإن تعجَبُوا.. فعجبٌ ما أصابَ الصحابةَ رضوان الله عليهم يوم أُحُد، حتى قالوا: (أَنَّى هَذَا) فجاء الجوابُ من الحكَم العدل  سبحانه  فاصلاً قاطعاً: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)… إن هذه السُّنة الربَّانيَّة هي محورُ الجزاء بالعدل وبالفضل المُماثِل لعمل العبد ومن جِنسِه، وهي مُطَّردةٌ شرعاً وقدراً وزماناً ومكاناً، دلَّت عليها أكثرُ من مائة آيةٍ في كتاب الله تعالى وتكاثَرَت النصوصُ النبويةُ في تقريرها وترسيخِها في النفوس… فهل سمعتُم أن الله يقول: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) وهل قرأتُم قولَه  سبحانه: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّاً وَلَا نَصِيراً)… ولقد توالَت الآياتُ تلوَ الآيات في بيان أن الله يُجازِي أهلَ الإيمان والتقوى بالحياة الطيبة، فيفتحُ لهم بابَ الأُنسِ به ومعرفته والفرح به سبحانه، ويُيسِّر لهم أمورَهم ويكشِفُ كُروبَهم ويُنجِّيهم ويحفظُهم في أنفُسهم وذُرِّيَّاتهم ويكفِيهم، وينصُرُهم ويُكرِمُهم جزاءً بما كانوا يعمَلون.. ومن اتَّقى الله وأخلصَ له، وعفَّ عن المُحرَّمات؛ صرفَ الله عنه السوءَ والفحشاءَ، وجعلَ له لسانَ صِدقٍ في الآخرين، (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ومن صدقَ مع الله، وأحسنَ في قوله وعمله؛ صدقَه الله وآتاه علماً وحكماً، وأقبلَ عليه بقلوبِ الخلق، وجعلَها تفِدُ إليه بكل الوُدِّ والمحبَّة والرحمةِ…

وأما عبادُ الله المُستضعَفون المظلُومون المغلُوبون فاسمَعوا بماذا يُجازِيهم الله تبارك وتعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ)

أيها المسلمون: حُسنُ العاقبةِ، وطِيبُ المآل من الجزاء الحسن؛ فقد ترى الرجلَ في كبره وشيبَته يعيشُ حياةً طيبةً هنيئةً رضيَّة، وما ذاك إلا لأنه كان لله في شبابه، مُحافِظًاً على طاعاتِ ربِّه ورِضاه، فحفِظَه الله في الكِبَر، كما قال النبي  صلى الله عليه وسلم: (أحفظ الله يحفَظك، أحفظ الله تجِده تُجاهَك) فهذا أبو الطيب الطبري رحمه الله، مات يوم مات و هو كبير السن صحيح العقل والفهم و الأعضاء،  يفتي و يشتغل إلى أن مات و قد ركب مرّة سفينة،  فلما خرج منها، قفز قفزة لا يستطيعها الشباب فقيل له: ما هذا يا أبا الطيب فقال:  هذه أعضاء حفظناها في الصغر، فحفظها الله لنا في  الكبر.

وقد يُبتلَى المرءُ بمُصيبةٍ فيرضَى ويُسلِّم، فيهدِي الله قلبَه، ويرضَى عنه، وتكونُ له العاقبةُ الحسنةُ، ويُؤتيهِ الله خيراً مما أُخِذَ منه، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمُؤمن، والعاقبةُ للتقوى. واعتبِروا  يا عباد الله، بأولئك الذين يُظلُّهم الله الكريمُ في ظلِّه، كيف أنهم لما صبَروا لله في هذه الدنيا، وتحمَّلوا المشاقَّ في سيبله؛ كانت عاقبةُ أمرهم: سُروراً وحُبوراً، وظلالاً وارفةً بارِدةً، والناسُ في هولٍ وكربٍ وشمسٍ لاهِبة، (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً).. ومن غضَّ بصرَه، وحفِظَ سمعَه ولسانَه عن الحرام؛ جازاه الله وعوَّضَه بأن يُطلِقَ له نورَ بصيرته وقلبِه، ويفتحَ له من الفهم والعلم وسَدادَ القول ما هو أعظمُ لذَّةً وفرحاً من هذه اللذَّات المُحرَّمة.. والكلمةُ الطيبةُ من رِضوان الله، يتكلَّمُ بها العبدُ؛ يكتبُ الله له بها رِضوانَه إلى يوم القيامة.. ومن برَّ والدَيه، ووصلَ رحِمَه؛ وصلَه الله برحمته وكرمِه.

ومن استغفرَ للمُؤمنين والمُؤمنات؛ كتبَ الله له بكل مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ حسنة.. ومن سترَ مُسلماً سترَه الله، ومن ينفق ماله في وجوه الخير، يجازيه الله تعالى بأن يخلف عليه خيراً مما أنفق، يقول تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَنْفِقْ يا ابن آدم أُنْفِقْ عليك) ومن يتعامل بالربا يمحق الله ماله ويُذهب بركته، فيكونُ سبباً لوقوع الآفات فيه.. ومن كان في عَون أخيهِ، كان الله في عَونه، وإنما يرحمُ الله من عبادِه الرُّحماء. وذلك كلُّه أثرٌ من آثار هذه السنَّة الربانيَّة، فالجزاءُ من جنسِ العمل.. كما جازَى الله تعالى خليلَه ونبيَّه إبراهيم  عليه السلام بأن جعلَه إماماً وأمةً يُقتدَى به، ونوراً يُستضاءُ بقوله وفعلِه، بعد أن اختبرَه الله بكلماتٍ فأتمَّهنَّ، ووجدَه صابراً حليماً أوَّاهاً مُنيباً.. وهذا يُوسف عليه السلام  جرَت له من الخُطوب والكُروب، ما كان سبباً لأن مكَّن الله له في الأرض، وكانت له العاقبةُ الحسنة.. وسيِّدُ الأولين والآخرين نبيُّنا محمدٌ  صلى الله عليه وآله وسلم، ابتُلِي البلاءَ العظيم، وكمَّل لله مقامات العبودية كلَّها، فكمَّله الله وجمَّله، ورفعَ له ذِكرَه في العالمين، وجعلَه إمامَ الخلق كلِّهم، في كل المقامات الشريفة في الدنيا والآخرة.. وزوجتُه الصفيَّةُ الرضيَّةُ خديجةُ رضي الله عنها، بشَّرها الله ببيتٍ في الجنة من قصَب اللؤلؤ، لأنها كانت أسرَع الناس إلى الإيمان برسولِ الله، فحازَت قصبَ السبق والشرف لا صخَبَ فيه ولا نصَبَ لأنها أحسنَت صُحبتَه، وواسَته بنفسِها ومالِها، وقامَت بحقوقِه صلى الله عليه وآله وسلم، بلا ممللٍ ولا كللٍ ولا رفعِ صوتٍ ولا ضجَر… وتتكاثَرُ الشواهدُ والأدلةُ والقصص، ليعلَم الناسُ كلُّهم أن الجزاءَ من جنسِ العمل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)

أيها المسلمون: ومن عجائبِ البيان لهذه السُّنَّة الإلهيَّة: أن من نسِيَ الله نسِيَه الله، فلا يُبالِي به، ومن سمَّع بعمله سمَّع الله به مسامِعَ خلقِه وصغَّره وحقَّره، ومن راءَى يُرائِي الله به، ومن تتبَّع عورات المُسلمين تتبَّع الله عورتَه وفضحَه، ومن زاغَ عن الهُدى أزاغَه الله ومدَّ له من العذابِ مدًّاً، ومن أعرضَ عن ذِكرِ الله عاشَ ضنكاً ونكَداً.

ومن عرَّض المُؤمنين والمُؤمنات للفتنةِ والعذابِ والقتل والتحريقِ؛ صرعَه الله شقيًّاً ذليلاً مبغُوضاً، وله في الآخرةِ عذابُ الحريق، (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ).. والذين نافقُوا وأجرَموا، لما سخِروا من الذين آمنوا وكانوا منهم في الدنيا يضحَكون ويتغامَزُون؛ كان الجزاءُ من جنسِ العمل، (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) وقد تحايلَ قومٌ على شريعةِ الله وأحكامه، فغيَّروا وبدَّلُوا وحرَّفُوا إتباعاً لأهوائِهم وأهواء الذين ظلَموا؛ فغيَّر الله صُورَهم وأشكالَهم، ومسخَهم قردةً خاسِئين، وختم على قلوبِهم فلا يعرفون معروفًاً، ولا يُنكِرون مُنكراً إلا ما أُشرِبَ من هواهُم.

وتوعَّد الله سبحانه مانِعِي الزكاة بكيَّاتٍ ثلاثٍ في جِباهِهم وجُنوبِهم وظُهورهم، وهي كيَّاتٌ مُناسبةٌ لسُوءِ عملهم، جزاءً لهم بنقيضِ قصدِهم. ومن كتمَ شرعَ الله، وأخفَى العلمَ الذي يجبُ أن يظهرَ للناس ولم يتُب من ذلك؛ فأولئك يعلنُهم الله ويلعنُهم اللاعِنون ويُلجِمُهم الله بلِجامٍ من نارٍ يوم القيامة، جزاءً وِفاقًاً.

وحين نتأمَّلُ -يا عباد الله-، العقوبات التي أنزلَها الله بمن عاندَ أمرَه وخالَفَ رُسُلَه، نجِدُ أنها مُناسِبةٌ أيَّما مُناسبَةٍ لذنوبِهم وأعمالهم، كما قصَّ الله علينا هلاكَ قومِ نُوحٍ، وعادٍ، وثَمُود وأصحابِ الأيكة وقوم لُوط، وفرعون، وسبأ، وغيرهم،يقول جل وعلا: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

قال عبد الله ابنُ عُمر  رضي الله عنهما: (كان بالمدينة أقوامٌ لهم عيوبٌ، فسكَتُوا عن عيوبِ الناسِ، فأسكَتَ الله الناسَ عن عيوبِهم، فماتُوا ولا عيوبَ لهم، وكان بالمدينة أقوامٌ لا عيوبَ لهم، فتكلَّموا في عيوبِ الناسِ، فأظهرَ الله عيوبَهم، فما زالُوا يُعرَفُون بها إلى أن ماتُوا)… وقال التابعي إبراهيمُ النَّخعيُّ  رحمه الله: (إني لأرَى الشيءَ مما يُعابُ، فما يمنَعني أن أتكلَّم فيه إلا مخافةَ أن أُبتلَى بمثلِه).

عباد الله: إن استِشعار سُنَّة أن الجزاء من جنسِ العمل، واستِحضارها في كل المواقِف والأحداث، يمنَحُ العبدَ اليقينَ بعدل الله وحكمته، وأنه القادرُ على كل شيءٍ، الذي لا تخفَى عليه خافِية، ويجعلُ العبدَ يتوقَّعُ الخيرَ من الله، فيُحسِنُ الظنَّ بربِّه، ويرجُو رحمتَه وكرمَه وحُسن ثوابِه، ويشعُر بالطُّمأنينة والرِّضا؛ لأنه يعلمُ علمَ اليقين أنه سوفَ يُجازَى الجزاءَ الأوفَى، فلا يبأَس ولا ييأَس، والله لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً.

ومن جازاه الله الجزاءَ الحسنَ، فلا يغترَّ بذلك ولا يفخَر؛ بل عليه أن يشكُر الله تعالى ويسألَه المزيدَ، لكي يستديمَ هذه النعمة (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ومن جازاه الله جزاءَ السُّوء فلا يقنَط من رحمةِ الله وعفوِه، وعليه بالتوبةِ والاستِغفار والبُعد عن مساخِطِ الله وغضبِه، فما نزلَ بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفِع إلا بتوبةٍ.

نسأل الله جلّ وعلا أن يأخذ بنواصينا إلى كل خير وأن يجزينا بالإحسان إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يهدينا سواء السبيل.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن سُنَّة الجزاء من جنسِ العمل، سُنَّةٌ عامَّةٌ على البشريَّة كلِّها، لا تُحابِي أحداً، ولا تستثنِي أحداً، وهي تحُلُّ وتنزِلُ بمن يستحقُّها في الوقت المُناسِب في علمِ الله وحِكمته… فقد كان بين دعوةِ مُوسَى  عليه السلام على فرعون وقومِه: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) كان بين هذه الدعوة وبين استِجابةِ الله لها وهلاكِ فرعون وقومه أربعُون سنة كما ذكرَ ذلك المُفسِّرون، فلا (تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)  وقد يُمهِلُ الله الظالمين المُعتَدين، ولكنه لا يُهمِلهم، وقد يفرَحون بقتل الأبرياء وسفكِ دمائِهم وتعذيبهم وسجنهم، ونهب أموالهم، ويظنُّون كلَّ الظنِّ أنهم أفلَتُوا من عقابِ الله عز وجل، فتفجؤُهم سُنَّةُ الله من حيث لم يحتسِبُوا. يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّه لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حتى أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ..) ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)

أيها المُسلمون: إن هذه السنَّة الربَّانيَّة تُربِّي المُسلمَ على التسليم المُطلَق لله تعالى الذي بهرَت حكمتُه العقولَ، وهي تُؤكِّدُ على أن بنِي آدم كلَّهم لا يُحيطُون به سبحانه علماً، ولا يُدرِكون أسرارَ قضائِه وقدَره وتدبيرِه العجيبِ لأحداثِ الكون… فقد يعترِضُ بعضُ بني آدم ويسخَطون، وقد يشُكُّون حينما يرَون بعضَ أقدار الله وكيف يرفعُ الله أقواماً ويضعُ آخرين، ويفتحُ أبواباً ويُغلِقُ أخرى، ويُعطِي ويمنَع، ويبتلِي ويُعافِي، ويُغنِي ويُفقِر، ويُكرِمُ ويُهين، ويُعزُّ ويُذلُّ، وأنَّى لابنِ آدم أن يُدرِك

حكمةَ الله وعلمَه؟ فيا ابنَ آدم: إنك إن أسلمتَ قلبَك لله، وسلَّمتَ لأمره، ورضيتَ بما قسمَ الله لك، واشتغلتَ بما فرضَ الله عليك، وتركتَ ما لا يعنِيك؛ أرحتَ قلبَك وسعِدتَّ في حياتِك، وكنتَ عند ربِّك محمُوداً. وإن لم ترضَ بما قسمَ الله لك، وضيَّعتَ ما فرضَ الله عليك، واشتغلتَ بما لا يعنِيك؛ أحاطَت بك الهُمومُ والغُمومُ، وأعرضَ الله عنك، ثم لا يكونُ لك من الدنيا إلا ما قسمَه الله لك، وكنت عند ربِّك مذمُوماً، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) إن بينَك وبين الله خطايا وذنوباً، وبينَك وبين الناسِ هفَواتٍ وهَنَاتٍ، فإن أحببتَ أن يغفرَ الله لك ويتجاوَز عنك، فأقبِل على الله وتُب إليه، وتجاوَز عن عبادِه وسامِحهم، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).. يا ابنَ آدم! إنك مهما ظلمتَ واستكبرتَ وعلَوتَ، واعتديتَ وآذيتَ، فلن تُفلِتَ من العدالة الإلهيَّة، وإن ربَّك لبالمرصاد، إذا أخذَ الظالمَ لم يُفلِتْه، فالجزاءُ

من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

يا ابنَ آدم: إن أنت بررتَ والدَيك، ووصلتَ رحِمَك، ورحمتَ أهلَكَ وعيالَك، وأحسنتَ للناس كافَّة؛ وجدتَّ حلاوةَ ذلك وثوابَه، ورأيتَ بعينيك جزاءَ صنيعِك وإحسانِك، وإن أبيتَ إلا العقوقَ والبغيَ والقطيعَة، وأذَى الناس بالحسَد والحقد والبغضاء والخُصومة، فاعلَم أن الجزاءَ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).. يا ابنَ آدم: من أطابَ مطعمَه استجابَ الله دعوتَه، ومن عزمَ على ترك الذنوبِ ذاقَ حلاوةَ الإيمان، وأتَتْه الفتوحُ، ومن أصلحَ سريرتَه، أصلحَ الله علانيتَه، ومن أصلحَ ما بينَه وبين الله، أصلحَ الله ما بينَه وبين الناس، ومن تركَ شيئاً لله عوَّضَه الله خيراً منه، ولم يجِد حسرةَ فقدِه، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). يا ابنَ آدم: إنما هي أعمالٌ يُحصِيها الله ويكتبُها، وسوف تقرؤُها في صحيفَة أعمالِك يوم تلقَاه؛ فمن وجدَ خيراً فليحمَد الله، ومن وجدَ غيرَ

ذلك فلا يلُومنَّ إلا نفسَه، فالجزاءُ من جنسِ العمل، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

اللَّهُمَّ إنّا نَعُوذُ بكَ أن نَضِلَّ أو نُضَلَّ، أو نَزِلَّ أو نُزَلَّ، أو نَظلِمَ أو نُظلَمَ، أو نَجهَلَ أو يُجهَلَ علينَا، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها شملنا وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا، وتصلح بها حالنا، وتحفظ بها غائبنا وترفع بها شاهدنا، وتبيض بها وجوهنا وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا وتعصمنا بها من كل سوء ومكروه.

اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها من قَولٍ أو عملٍ  ونعوذُ بِكَ منَ النَّارِ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ.. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.. اللهم أكتب الشفاء والمعافاة لسمو رئيس الوزراء خليفة بن سلمان اللهم أحفظه من كل سوء ومكروه،  ومتعه بالصحة والعافية، وأمد في عمره، ورده إلى أرض الوطن سالماً معافى يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أحفظ جيشنا ورجال أمننا، ووفقهم لكل خير، اللَّهُمَّ احْرُسْهم بِعَيْنِكَ الَّتِي لا تَنَامُ، وَاكْنُفْهم بِرُكْنِكَ الَّذِي لا يُرَامُ، اللهم من أراد بهم شراً وسوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء..

اللهم انصر عبادك المظلومين في كل مكان، اللهم كن معهم ناصراً ومؤيداً، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم احقن دماءهم، وأحفظ أعراضهم، وأطفالهم ونساءهم ورجالهم وشيوخهم، ولا تسلط عليهم من لا يخافك ولا يرحمهم.. اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

عِبَادَ الْلَّهِ: (إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ). فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين