الجمعة 12 صفر 1441 هـ 

الموافق 11 أكتوبر 2019 م

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدّر فهدى، الذي أخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، سبحانه هو أمات وأحيى، وأضحك وأبكى، أنزل علينا الكتاب والفرقان ليهلِك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على طريقهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أما بعد:فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى،  اتقوا الله وأطيعوه، وأنفقوا ينفق عليكم، وأبقوا من أموالكم أثراً يستمر لكم بعد موتكم، وقدموا لأنفسكم ما تجدونه أمامكم (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً، وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) .

معاشر المسلمين: إن الإحسان في الإسلام واسع الأبواب، متعدد الطرق، متنوع المسالك قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

عباد الله: وهذه وقفة مع صورة كبرى من صور البر والإحسان في الإسلام، صورة تغطي جانباً من جوانب التكافل، وتعالج معالجة حقيقية لكثير من حاجات المجتمع واحتياجاته، وغُصَصِه وآلامه، صورة تبرز ما للمال من وظيفة اجتماعية، تُحقِّق الحياة الكريمة، وتدفع وطأة الحاجة، وينعم المجتمع كله بنعمة الأخوَّة الرحيمة، والألفة الكريمة، صورة يجد فيها الفقير المحتاج في مجتمعه من يشاطره همومه وآلامه، ويفرّج عنه أحزانه وغمومه، تلكم أيها الإخوة، الأوقاف والأحباس؛ حقيقة طالما غابت عن أذهان كثير من المسلمين ممن أنعم الله عليهم بشيء من المال، فغالب الناس اليوم لا يعرفون إلا الوصية، ولا يعرفون الوقف.

الوقف يا عباد الله من أفضل الصدقات، وأجل الأعمال، وأبر الإنفاق، وكلما كان الوقف أقرب إلى رضوان الله، وأنفع لعباد الله، كان أكثر بركة، وأعظم أجراً؛ الوقف في الدنيا برٌ بالفقراء والأصحاب، وفي الآخرة تحصيلٌ للثواب، وطلبٌ للزلفى من رب الأرباب…

كم ستعيش يا عبد الله؟ يا مَن تملك مالاً وفيراً في هذه الدنيا، هل فكرت أن تنفع نفسك وتوقف شيئاً من مالك لله، ينفعك في قبرك ويوم معادك؟ هل تعلم بأن الوقف، انتفاع لك دائم متواصل، على طبقات المحتاجين من الأقربين والأبعدين، من الأحياء والميتين؟ إنه عمل صالح، ومسلك رابح…

الوقف: وعاءٌ يُصَبُّ فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد، تتحقق به مصالح خاصة ومنافع عامة… الأوقاف: تُجسّد مسئولية القادرين على القيام بمسؤولياتهم، (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الوقف: إحسان بالمال والقول والعمل.. في الوقف: ضمان لحفظ المال، ودوام للانتفاع به، وتحقيق للاستفادة منه مُدداً طويلة، وآماداً بعيدة.

أيها المؤمنون: لقد ذكر التاريخ الإسلامي، في المجال التطبيقي لفكرة الوقف كثيراً من الأوقاف، التي تبارى المحسنون من المسلمين في كل أقطارهم وعصورهم، وعلى اختلاف مذاهبهم في إنشائها على جهات البر الكثيرة، التي ما زال كثير منها قائماً حتى اليوم، فمنذ أيام الإسلام الأولى، بادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

بوقف جزءٍ من أموالهم، وحبس أشياء من دورهم وعقارهم… فها هو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرق الخير ووجوه البر قائلاً: يا رسول الله، إني أصبتُ مالاً بخيبر لم أُصب مالاً أنفَس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن شئتَ حبّستَ أصلها وتصدقت بها، غير أن لا يباع أصلُها، ولا يُوهَب، ولا يورث). قال الراوي: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف، لا جُناح على مَن ولِيَها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطْعِمَ صديقاً غير متمولٍ فيه… وهذا أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه كان أكثر أنصاريّي المدينة مالاً، وكان أحب ماله إليه بيرحاء (بستان)، مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ طيب فيها. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فلما نزل قوله تعالى: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ) قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عنده، فضعها حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخٍ بخٍ! ذلك مالٌ رابحٌ، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، فقال أبو طلحة: أفعل ذلك يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه… وأوقف أبو بكر رضي الله عنه رباعاً (داراً) له في مكة على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وذوي الرحم القريب والبعيد، وأوقف عثمان وعليّ وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر والزبير وخالد بن الوليد، رضي الله عنهم أجمعين. ومن أمهات المؤمنين أوقفت عائشة وأم سلمة وصفية وأم حبيبة، رضي الله عنهن. يقول جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلّا وَقف. وقال الشافعي رحمه الله: وأكثر دور مكة وقف.. ثم سار من بعدهم الأغنياء والموسرون من المسلمين في كل الأقطار والأمصار، فأوقفوا الأوقاف، وأشادوا الصروح، بنو المساجد، وأنشئوا المدارس، وأقاموا الأربطة، ولو تأمَّلْتَ دقيق التأمُّلِ لرأيتَ أنَّ هؤلاءِ القادرين الأخيار، والأغنياء الأبرار، لم يدفعهم إلى التبرع بأنفَس ما يجدون، وأحب ما يملكون، ولم يتنازلوا عن هذه الأموال الضخمة، والثروات الهائلة، إلا لعظم ما يرجون من ربهم، ويؤمّلون من عظيم ثواب مولاهم، ثم الشعور بالمسؤولية تجاه الجماعة والأقربين، يدفعهم كل ذلك إلى أن يرصدوا الجزيل من أموالهم؛ ليستفيد إخوانهم أفراداً وجماعات، جمعيات وهيئات، أقرباء وغرباء… في الوقف عباد الله تطويل لمدة الاستفادة من المال، فقد تُهيَّأُ السبل لجيل من الأجيال لجمع ثروة طائلة، ولكنها قد لا تتهيأ للأجيال التي بعدها، فبالوقف يمكن إفادة الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة…

أيها المسلمون: الوقف ليس محصوراً ولا مقصوراً على الفقراء والمساكين كما يظن البعض، ويظن أنه أعظم أجراً من غيره، ولكنه أوسع من ذلك وأشمل، لقد كان للوقف أثرٌ عظيمٌ في نشر الدين، وحمل رسالة الإسلام، ونشاط المدارس، والحركة العلمية في أقطار المسلمين وأقاليمهم في حركة منقطعة النظير غير متأثرة بالأحداث السياسية، والتقلبات الاجتماعية، توفر للمسلمين نتاجاً علمياً ضخماً، وتراثاً إسلامياً خالداً، وفحولاً من العلماء برزوا في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ العالم كله..

ففي الوقف تحقيق مصالح للأمة، وتوفير لكثير من احتياجاتها، ودعم لتطورها ورقيها وصناعة حضارتها، إنه يوفر الدعم المادي للمشروعات الإنمائية، والأبحاث العلمية، إنه يمتد ليشمل كثيراً من الميادين والمشروعات التي تخدم في مجالات واسعة، وميادين متعددة ومتجددة…

إن المساجد لم تكن لتنتشر هذا الانتشار في تاريخ الإسلام كله إلا بطريق الأوقاف، أوقاف يصرف ريعها من أجل حفظ كتاب الله، وطباعته، ونشره، ويصرف في الدراسات القرآنية، وخدمة علوم السنة، وسائر فروع علوم الشريعة. كما يصرف ريعها على الدعوة إلى الله تعالى ودعوة غير المسلمين.

الأوقاف دعامة من الدعامات الكبرى للنهوض بالمجتمع، ورعاية أفراده، وتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية، بالأوقاف تبنى مصحّات ومستشفيات، يراعى فيها أحوال الفقراء وذوي الدخول المتدنية، تشاد بها دور وملاجئ وأربطة تحفظ اليتامى، وتؤوي الأرامل، وتقي الأحداث مصارع الضياع، نُزلٌ وفنادق تؤوي المنقطعين والمحتاجين من الغرباء وأبناء السبيل، مؤسسات إغاثية ترعى المنكوبين من المسلمين في كل مكان، صناديق وأوقاف لإعانة المعسرين وتسديد ديون المنقطعين.

عن طريق الوقف انتشر في العالم الإسلامي المدارس والمكتبات والأربطة وحِلَق العلم والتأليف، وتحسنت بدعمها الأحوال الصحية للمسلمين، وازدهر علم الطب، وأنشئت المستشفيات، إضافة إلى دَورها في دعم الحركة التجارية، والنهضة الزراعية والصناعية، وتوفير البنية الأساسية من طرق وقناطر وجسور، ناهيك عن تحقيق التكافل الاجتماعي، والترابط الأسري، وبناء المساكن للضعفاء ومساعدة المحتاجين، وتزويج الشباب غير القادرين، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجَزة، وبناء القبور، وتجهيز لوازم التغسيل والتكفين للموتى.

أيها المسلمون: إن الإسلام في تاريخه وحضارته قد تميّز فيما تميّز بما أبرزه المسلمون من أوقاف على مساجدهم ومدارسهم وطلبة العلم فيهم وذوي الحوائج منهم، مما كان له الأثر البالغ في نشر الإسلام، وتنشئة المسلمين على العلم والصلاح وحفظ كرامة المحتاجين، ورعاية الأقربين، وحفظ أصول الأملاك، فأغنت بإذن الله، وأغاثت وأعفّت، فعاشوا أعزةً لا يمدون يداً إلى لئيم، ولا يذلون أنفسهم لحقير.

وإننا لنحمد الله تبارك وتعالى أن وفق ملكنا حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه إلى أن يخصص وقفاً خيرياً باسم المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الوالد الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة ـ طيب الله ثراه ـ لرعاية الطلبة المحتاجين للدراسة الجامعية والدراسات العليا من أجل ضمان مستقبلهم بالعلم والمعرفة، وهو أول وقف موحد في البحرين يخدم جميع المواطنين من دون تفريق بين الأديان والمذاهب والثقافات.

نسأل الله تبارك  وتعالى أن يجزي ملكنا حمد خير الجزاء على ما قدم لدنياه وأخراه ولوطنه ومواطنيه، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته وحسنات والده، وأن يبارك له في عمره وفي أولاده وذريته وأمواله إنه سميع مجيب الدعاء.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن مال الإنسان الحقيقي هو ما قدمه لنفسه ذخراً عند ربه، كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم، يقولُ ابنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهلْ لَكَ، يا ابْنَ آدَمَ مِن مَالِكَ إلَّا ما أَكَلْتَ فأفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ، وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركه للناس)، وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ بعده، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) والإنسان ينتقل من دنياه غنياً عما خلّف، فقيراً إلى ما قدّم، يقول الله تعالى: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فلأنفسكم وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) ففكر جيداً -يا عبد الله- في هذا الباب، فو الله إنه لباب عظيم من أبواب الخير! غفل عنه الكثيرون، أوقِفْ يا عبد الله داراً صغيرةً، أو عمارةً هنا أو هناك، واجعل ريعها في أحد وجوه الخير التي سمعتَ، تنفعُك نفعاً عظيماً بإذن الله تعالى إذا خلصت النيات… واجعل على هذا الوقف للنظارة إدارة الأوقاف أو شخصاً أو شخصين من أهل الخير والصلاح ممـَّن عرفوا بالأمانة والنـزاهة، يرعون شؤونها، ويُديرون أمورها، يأتيك أجرك وأنت في قبرك، ويدعو لك كل من استفاد منها، وكلما كان الوقف متعديَ النفع فهو أفضل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْماً عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ،  وَوَلَدًا صَالِحاً تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًاً وَرَّثَهُ،  أَوْ مَسْجِداً بَنَاهُ ، أَوْ بَيْتاً لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ ، أَوْ نَهْراً أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ)

أيها المسلمون: ليتقِ الله الواقفون ونُظَّار الأوقاف، وليتحرَّ الواقف في وقفه أن يكون مما يُتَقَرَّب به إلى الله عز وجل، مبتعداً عن المبتدَعات والمحرَّمات، مبتغياً في وقفه مرضاة الله، متبعاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، معظِّماً حرمات الله.

وليحذر مما يفعله بعض الواقفين هداهم الله وغفر لهم، من المقاصد السيئة الذين يجعلون من الوقف ذريعةً لحرمان بعض الذرية، فيحرِمون البنات، أو بعض الأولاد أو يجعلون القسمة جائرة بين الذكور والإناث مما يولد الأحقاد والبغضاء والصراع بين الأبناء: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أما نُظَّار الأوقاف والمتولُّون عليها فقد سلَّطهم الله على هذه الأوقاف ومكَّنهم منها، فليتقوا الله عز وجل في ما عَهُد إليهم وما ائتمنوا عليه من أموال المسلمين، والحذرَ الحذرَ مِن التساهل فيها مهما كانت المسوِّغات والتبريرات! فالله سبحانَه وتعالى يقول: (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) وليحذروا غضب الله وسخطه، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)..

يا نظراء الأوقاف! إن في أعناقكم صِغاراً وقُصَّاراً، وعجزة وأرامل، لا يحسنون التصرف في الأموال، ولا يقدرون على الإحسان بالأعمال، بل لعلهم لا يعرفون ما الذي لهم، إن في أماناتكم فقراء في أشد الحاجة إلى سد العَوَز. فاتقوا الله فيهم. وعلى قضاة المسلمين -وفقهم الله وأعانهم- أن يولوا الأوقاف مزيد العناية في أهلها ومستحقيها وأصولها ونُظَّارها ومتوليها.

والمسلمون كلهم في الحق متضامنون ومتعاونون، وعلى دفع الظلم والإثم متآزرون، والجميع غداً بين يدي الله موقوفون، وبأعمالهم مجزيون وعلى تفريطهم نادمون: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

نسأل الله تعالى أن يضاعف للواقفين الأجر والثواب أضعافاً مضاعفة،  ويتقبل منهم، ويبارك لهم فيما رزقهم، وأن يشرح صدر كل قادر على الوقف للإيقاف على مصلحة من مصالح المسلمين، وأن يوفقنا جميعاً لكل خير، وأن ييسر لنا أبواب البر والخير والإحسان، وأن يهدينا سواء السبيل.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وأدخلنا الجنة مع السابقين المقربين، وارزقنا الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين.

اللهم آمنا في وطننا واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزراءه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.. اللهم أحفظ بلادنا وخليجنا وقادتنا وجيوشنا وشعوبنا من كل سوء ومكروه، ومن شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجنبنا شر الأشرار وكيد الفجار، وطوارق الليل والنهار، بحولك ورحمتك وقوتك ولطفك. يا رحيم يا رحمان..اللهم ألف بين قلوبنا ووحد صفوفنا ودولنا وقادتنا وشعوبنا على الخير والهدى يارب العالمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، ناصراً ومؤيداً، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان. اللهم ولي عليهم خيارهم، واصرف عنهم شرارهم، ووحد صفوفهم، يا سميع الدعاء. اللهم فرج همهم ونفس كربهم وأصلح أحوالهم، وألف بين قلوبهم، وصن أعراضهم، واحقن دمائهم، وانصرهم على أعدائهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلاً.. اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم الله موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.

( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.)  اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير.. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون …

   خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين