الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور. نحمده سبحانه ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، يجدد الأيام والشهور ويصرف الأعوام والدهور ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الشافع المشفع يوم النشور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله على كلِّ حال وفي كلِّ مكانٍ، (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: حياةُ الإنسانِ مراحلٌ، والناسُ في هذه الدُّنيا بين مُستعدِّ للرحيلِ وراحلٌ، وكلُّ يومٍ، بلْ كُلُّ نَفَسِ يُدني من الأجلِ، فالكيِّسُ من حاسَبَ نَفْسَهُ يوماً بِيَومٍ، فما الناسُ إلاَّ حيٌّ أدركتُه منيِّتُهُ، فَوُرِيَ بالتُّرَابِ، أو صغيرٌ بلغَ سِنَّ الشَّباب، أو شيخٌ امتدَّت به الْحَيَاةُ حتى شابَ، ومن وراءِ الجميعِ نقاشٌ وحسابٌ، فهنيئاً لمن أَحْسَنَ واستقامَ، والويلُ لِمَنْ أساءَ وارتكبَ الآثامَ، ويَتُوبُ الله على مَن تاب، يقول جل وعلا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)

عباد الله: في توديعِ عامٍ هجري واستِقبال آخر، يجدُرُ بالنَّفسِ أن تقِفَ وقفةَ مُحاسبة، وقفةَ صِدقٍ وتفكُّرٍ واعتِبارٍ ومُساءَلة؛ فمَن حاسَبَ نفسَه في دُنياه، خفَّ عليه حِسابُه في أُخراه، ومَن أهملَ المُحاسَبَة، دامَت عليه الحَسرة، وساءَه المُنقلَبُ والمصيرُ.

حاسبوا أنفسكم اليوم، فأنتم أقدر على العلاج منه غداً. فإنكم لا تدرون ما يأتي به الغد. حاسبوها في ختام عامكم وفي جميع أيامكم. فإنها خزائنكم التي تحفظ لكم أعمالكم. وعما قريب تفتح لكم فترون ما أودعتم فيها. روي أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ فَانْتَهُوا إِلَى مَعَالِمِكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ:أَجَلٌ قَدْ مَضَى لا يَدْرِي مَا اللَّهُ فَاعِلٌ فِيهِ، وَأَجَلٌ قَدْ بَقِيَ لا يَدْرِي مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ، فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَمِنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْكِبَرِ، وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ، وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا مِنْ دَارٍ، إِلا الْجَنَّةَ وَالنَّار. وقال أبو بكر الصديق  رضي الله عنه  في خطبته: (إنكم تَغْدُونَ وَتَرُوحُونَ فِي أَجَلٍ قَدْ غُيِّبَ عَنْكُمْ عِلْمُهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلا يَمْضِيَ هَذَا الأَجَلُ إِلا وَأَنْتُمْ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ فَافْعَلُوا) وقال الفاروق عمر بن الخطاب  رضي الله عنه  في خطبته: (أيها الناس حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وتأهبوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ على الله عز وجل: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)

وَقَالَ الإمام  عَلِىٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبته: أيها الناس: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ وَغَداً حِسَابٌ وَلاَ عَمَلَ …

أيها المؤمنون: وخيرُ مُذكِّرٍ، وأعظمُ واعِظٍ: ذِكرُ هادِم اللذَّات، ومُفرِّق الأحِبَّة والجماعات. حفِظَكم الله وأطال أعماركم على طاعته!  جديرٌ بمَن الموتُ مصرَعُه، والقبرُ مضجَعُه، والقِيامةُ موعِدُه، والجنةُ أو النارُ مورِدُه، جديرٌ به ألا يكون له تفكيرٌ إلا في المصير، والنظرِ إلا في العاقِبة؛ فالقبرُ مقرٌّ، وبطنُ الأرض مُستقرٌّ. تفكيرٌ في الأجَل، والاستِعداد له، والاهتِمام به؛ فإن كلَّ ما هو آتٍ قريب، وأما ما ليس بآتٍ فهو البعيد. فلا تتعامَى ولا تتغافل يا عبد الله عن المصرَع؛ فإن النَّفَسَ قد يخرجُ ولا يعُود فأنت غرِيمُ المنايا، وأسيرُ الأمانِي وإن عسكرَ الموتَى لا ينتظِرُون.. يا عبدَ الله ! مَن ذكَرَ الموتَ حقيقةَ ذِكرِه، رشَّدَه في لذَّاتِه، وزهَّدَه في آمالِه.. والإمامُ القُرطبيُّ رحمه الله يقول: (النُّفوسُ الرَّاكِدة والقُلوبُ الغافِلَة، تحتاجُ إلى تطوِيلِ الوُعَّاظ، وتزويقِ الألفاظ، وإلا فإن في قَولِه تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ما يكفِي السَّامِع، ويشغَلُ النَّاظِر).. ذِكرُ الموتِ – يا عباد الله-  يُورِثُ الحذَرَ مِن الدنيا الفانِية، والاشتِغال بالدارِ الباقِية.. ذِكرُ الموتِ يُخفِّفُ عن أهلِ الضِّيقِ ضِيقَهم، ويُسهِّلُ عليهم مُعاناتهم، وحالُ الضِّيقِ لا يَدُوم، يقولُ كعبٌ -رحمه الله- (مَن عرفَ الموتَ هانَت عليه مصائِبُ الدُّنيا وهُمومُها). أما ذوُو الطَّول والسَّعَة والجاه والغنى فإن تذكُّرَ الموتِ يمنَعُهم مِن الاغتِرار بسَعَتهم، والرُّكُون إلى دعَتِهم.. يقول رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أكثِرُوا مِن ذِكرِ هادِمِ اللذَّات)، قالوا: يا رسولَ الله! وما هادِمُ اللذَّات؟ قال: (الموت). ويقولُ أحد علماء السلف رحمه الله: (أيها الناس! ألا تبكُون؟! كيف يعيشُ مَن الموتُ طالِبُه، والقَبرُ بيتُه، والترابُ فِراشُه، والدُّودُ أنيسُه، ومِن بعد ذلك الفزعُ الأكبرُ، ثم إما إلى الجنة وإما إلى النار). ذِكرُ الموتِ – غفرَ الله لي ولكم – يُورِثُ تعجِيلَ التوبة، وقناعةَ القلبِ، ونشاطَ العِبادة، إما نِسيانُ الموتِ فيُورِثُ تسويفَ التوبة، وعدمَ الرِّضا بالكَفافِ، والكسلَ في العِبادة. فتفكَّرُوا – رحمكم الله -، تفكَّرُوا في الموتِ وسكَرَاته، والكأسِ ومرارَتِه… وإنه لوعدٌ ما أصدَقَه! وحاكِمٌ ما أعدَلَه! كفَى بالموتِ للقلوب مُقرِّحاً،  وللعُيُون مُبكِّياً، وللجماعاتِ مُفرِّقًاً، وللأمنيَّات قاطِعاً. يقولُ أهل التفسير في قولِه تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) يعني: (أيُّكُم أكثرُ للموتِ ذِكراً، وله أحسنُ استِعداداً ومِنه أشدُّ خوفًاً وحذَراً).

أيها الأخوة والأخوات في الله: وأنجَعُ طريقٍ لذِكرِ الموتِ وأصدَقُها، التذكُّر المُفيد والمُرقِّق للقُلُوب، أنجَعُ ذلك وأصدَقُه: أن يذكُرَ المرءُ أقرانَه وأقربائه وأصحابه الذين مضَوا، فيتذكَّرُ أحوالَهم ومناصِبَهم وأعمالَهم وآمالَهم، كيف محَا التُّرابُ صُورَهم، وبدَّد أجزاءَهم؟! الأزواجُ ترمَّلَت، أو تزوَّجَت، والأطفالُ تيتَّمُوا، والأموالُ قُسِمَت، والمجالِسُ مِنهم خلَت، وآثارُهم انقطَعَت. خلَّفُوا الأحباب، وتقطَّعَت الأسباب، أعفَت عليهم الآثار، وخلَت مِنهم الدِّيار، والسَّعيدُ مَن وُعِظَ بغَيرِه.

أيها المُسلمون: وللمَوتِ سكَرَاتٌ وكُرُباتٌ وغَمَراتٌ، وقد قال نبيُّنا مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو في حالِ الاحتِضار: (لا إله إلا الله، إن للموتِ لسَكَرَات). ويقولُ عزَّ شأنُه: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ويقولُ  جلَّ شأنُه: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)

والإيمانُ لا يُقبَلُ إذا حضَرَ الموت، والتوبةُ لا تنفَعُ إذا غرَغرَ العبدُ. يقولُ عزَّ شأنُه: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) وإذا نزلَ الموتُ تمنَّى المرءُ العودةَ إلى الدُّنيا؛ فإن كان كافِراً فلعلَّه أن يُسلِم، وإن كان عاصِياً فلعلَّه أن يتُوب، يقولُ  عزَّ شأنُه: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) وحينما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) قالت أم المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَ : لَيْسَ كَذَلِكِ ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ  أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ، فليس شيءٌ أكرَهَ إليه مما أمامَه كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ، وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ)

والجنازةُ الصَّالِحة تقولُ: قدِّمُونِي، قدِّمُونِي، وغيرُ الصَّالِحة تقولُ: يا وَيلَها! أين تذهَبُون بها؟ يسمَعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان ولو سمِعَها الإنسانُ لصَعِق) بذلك صح الخبر عن نبيكم  صلى الله عليه وسلم.

عباد الله: وما يحدُثُ للميِّت حالَ الاحتِضار لا نُشاهِدُه، لا نراهُ، ولكن نرَى آثارَه، يقولُ  عزَّ شأنُه: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ، فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين)

وأهلُ الإيمان حالَ الاحتِضار تتنزَّلُ عليهم الملائِكةُ – كما قال جمعٌ مِن أهل التفسير -، (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) أما الكفَرَة -عِياذًا بالله- فقد قال الله -عزَّ وجل- فيهم: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) ويقولُ الحافظُ ابنُ الجوزيُّ -رحمه الله-: (مِن أطرَفِ الأشياءِ إفَاقَةُ المُحتضَر عند مَوتِه؛ فإنه يتنبَّهُ انتِباهاً لا يُوصَفُ، ويقلَقُ قلَقًاً لا يُحَدُّ، ويتلهَّفُ على زمانِه الماضِي، ويوَدُّ لو تُرِكَ يتدارَكُ مَافاتَه، ويصدُقُ في تَوبتِه على مِقدارِ يقينِه بالموت، ويكادُ يقتُلُ نفسَه قبلَ موتِها بالأسَفِ).

وبعدُ عباد الله: فالموتُ حَتمٌ لا بد منه، و(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الآجالُ مضرُوبة، والأيامُ معدُودة، والأرزاقُ مقسُومة، ولن يُعجِّلَ الله شيئاً قبل أجَلِه، ولن يُؤخِّرَ شيئاً بعدَ موعِدِه، ونعوذُ بالله مِن عذابٍ في النار، وعذابٍ في القَبرِ.

فاحذَروا حفِظَكم الله أن يكون عُمرُكم عليكم حُجَّة، وأيامُكم عليكم شِقوَة.. إن الموتَ لا يستمِعُ لصَرخَةِ ملهُوف، ولا لحَسرَة مُفارِق، ولا لرَغبَة راغِب، ولا لخَوفِ خائِف.

واحذَروا رحمكم الله ثم احذَروا، أن يكون خَوفُكم مِن الموتِ قلَقًاً مِنكم على الحياة.

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)

اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة، ونعوذ بك من سوء الخاتمة، ونسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، حكم بالفناء على هذه الدار، وأخبر أن الآخرة هي دار القرار، وهدم بالموت مشيد الأعمار، ونشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، حذر من الركون إلى هذه الدار، وأمر بالاستعداد لدار القرار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار، وسلم تسليماً كثيراً ما تعاقب الليل والنهار.

أما بعد فيا أيها المسلمون: في آخر أيام العام الهجري، لا بد من المحاسبة والمراجعة، فالمؤمن يعلم أن حياته ليست عبثاً، ويدرك أنه لم يخلق هملاً، وهو على يقين أنه لن يترك سدى، وقد يعمل الإنسان في حياته أعمالاً ثم ينساها، لكنه يوم القيامة سيوفاها كما قال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد) وقال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ)

عباد الله: إن النعم التي يتقلب الناس فيها، والصوارف التي تحيط بهم تجعلهم ينسون الحساب، ويغفلون عن ذكر يوم المعاد، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ، مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) عباد الله: لا بد أن ينظر الإنسان في عمله، ويتأمل حاله كيف قضى عامه؟ وفيم صرف أوقاته ؟ في عامه الراحل كيف كانت علاقته بربه؟ هل حافظ على فرائضه، واجتنب زواجره؟ هل اتقى الله في بيته وأهله؟ هل راقب الله في عمله وكسبه وفي كل شؤون حياته؟ فإنه إن فعل ذلك صار يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه، ومن حاسب نفسه في العاجلة أمن في الآخرة ، ومن ضحك في الدنيا كثيراً ولم يبك إلا قليلاً، يخشى عليه أن يبكي في القيامة كثيراً. كما قال تعالى:( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: إن عامنا يمضي وذنوبنا تزداد، وإن آخرتنا تقترب ونحن عنها غافلون – إلا من رحم الله وقليل ما هم!  نمنّ على الله بالقليل من الطاعات، ونواجهه بالكبائر والموبقات! فهل ندرك أننا لا نزال غافلين ؟! يقول تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) ويقول: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بسبب الذنوب والمعاصي والمخالفات، وإصرار كثير من العباد عليها: أصبحت أمة الإسلام مائدةً ممدودة لكل طاعم، وصندوقاً مفتوحاً لكل آخذ، وقصة يحكيها كل شامت، نسوا الله فنسيهم وتركوا أمره فسلط عليهم أعداءهم. أورثتهم الذنوب ذلاً ومهانة، سكنت معها القلوب بل ماتت، ألفت العيون دموع اليتامى،  واعتادت الآذان على أنات الأيامى، ولقد أصبح قتل المسلم الأعزل في كثير من الأقطار أمراً سهلاً ؛ بل ممتعاً يدعو للفرحة والنزهة من قبل أعداء الله والمسلمين .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم . والمصيبة أنه يصاحب هذا التسلط من الأعداء تفرق المسلمين، وتشتت أمرهم، واختلاف كلمتهم، فبعضهم يكره ويعادي بعضاً، ويتباغضون أشد من بغضهم لأعدائهم في كثير من الأقطار والبقاع . فلماذا كل هذا؟ إن النظرة المتأنية لأسباب هذا الذل والهوان  وذلك الاختلاف والافتراق، توجد قناعةً مفاداها أن الذنوب والمعاصي من أهم أسباب ذلك ؛ بل هي السبب الرئيسي له .

إن مشكلتنا يا عباد الله تتخلص في أننا لا نحس بأننا سبب من أسباب انحدار أمتنا وتخلفها، ونتغافل عن كوننا جزءاً من أجزاء الأمة التي نريد صلاحها وإصلاحها، وكل واحد منا يرمي باللائمة على الغير. ومن المضحك جداً أن نلوم عدوّنا  ونجعله سبب مشاكلنا، لكي نتنصل من مسؤولياتنا، ونرتاح من تبعات التحليل والتدقيق ، والمحاسبة والتقويم ، فهل ندرك ذلك في نهاية عام نودعه وبداية عام نستقبله؟  ونفقه أن الأمة لن تصلح وتنتصر حتى يصلح كل فرد من أفرادها نفسه، وينتصر على أهوائه وشهواته ؟! نرجو أن ندرك ذلك ونعقله  وما ذلك على الله بعزيز.

اللهم أقل العثرة واغفر الزلة،  وجد بالعفو على من لا يرجو غيرك، اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك،،اللهم بارك لنا في عامنا الهجري الجديد،واجعله من أبرك الأعوام علينا،اللهم أهله علينا وعلى بلادنا، وعلى جميع المسلمين بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والخير والبركات يارب العالمين، اللهم أعز الإسلام وانصر والمسلمين،اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا، وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء.

اللهم انصر عبادك المظلومين في كل مكان، اللهم كن معهم ناصراً ومؤيداً في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي كل مكان، اللهم كن للأقليات المسلمة المضطهدة المنسية في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم احقن دماءهم، وأحفظ أعراضهم، وأطفالهم ونساءهم ورجالهم وشيوخهم، ولا تسلط عليهم من لا يخافك ولا يرحمهم..اللهم حرر الأقصى وأرضك المقدسة من أيدي الصهاينة الغاصبين وارزقنا فيه صلاة طيبة قبل الممات يارب العالمين.. اللهم فرج الهم عن المهمومين ونفس الكرب عن المكروبين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين…

اللهم إنَ لنا أحباباً قد فقدناهم، وفي التُراب وسدَناهم، اللهم فاجعل النور في قبورهم يغشاهم، واكتُب يا ربنا الجنة سُكناهم، واكتُب لنا في دار النعيم لُقياهم، إنك مولانا ومولاهم برحمتك يا أرحم الراحمين. (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِىٱلْقُرْبَى وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح الإسلامي ـ عدنان بن عبد الله القطان ـ مملكة البحرين