الجمعة 1 رجب 1440 هـ

الموافق 8 مارس 2019 م

 

الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وهو اللطيف الخبير، علم ما كان وما يكون، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة في يوم النشور، ونشهد أن نبينا  محمداً عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على طريقتهم يسير وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

معاشر المسلمين: إن جيل الصحابة رضوان الله عليهم خير جيل ظهر على وجه الأرض، فهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، حبهم واجب، والدعاء لهم قربة، والإقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة… ومن بين الصحب الكرام، صحابي جليل أحبه الله تعالى، وأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الإمام إذا عُد الأئمة، وهو البطل إذا عُدّ الأبطال، هو الشجاع المِقدام، والبطل الهُمام، هو الشهيد الذي قُتِل غدراً، ولو أراد قاتله قتله مواجهة ما استطاع، ولكن عادة الجبناء الطعن في الظهر.. فمن هو يا ترى صاحب هذه الصفات؟ إنه أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه بالمؤاخاة، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم. ولد الإمام علي قبل البعثة بعشر سنين، وتربى في حجر النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي بيته، وكان أول من أسلم بعد خديجة وهو غلام صغير… وصفه أهل السير بأنه كان أسمر اللون، كثيف شعر اللحية، ربعة من الرجال، كثير شَعْرِ الصَّدْرِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، ضَحُوكَ السِّنِّ، خَفِيفَ الْمَشْيِ عَلَى الْأرْضِ، هُوَ إِلَى الْقِصَرِ أَقْرَبُ.. كان الإمام علي، يلقب حيدرة، ويكنى أبا الحسن، وكنّاه النبيّ أبا تراب. أحد العشرة المبشرين بالجنة، زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة الزهراء وهو أبو السبطين الحسن والحسين سيدَي شباب أهل الجنة. وهو رابع الخلفاء الراشدين المهديين. اجتمع لعلي من الفضائل الجمّة ما لم يجتمع لغيره…ولمّا هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، أمر الإمام عليًّاً أن يبيت على فراشه، وأجله ثلاثة أيام ليؤدي الأمانات التي كانت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها ثم يلحق به إلى المدينة، فهاجر الإمام علي من مكة إلى المدينة المنورة ماشياً.. شهد الإمام علي المشاهد كلها مع النبيّ  إلا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسول  صلى الله عليه وسلم في أهله وقال له: (أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟) وأعطاه النبي اللواء يوم خيبر ففتحها، واقتلع باب الحصن… فضائله جمّة لا تُحصى، ومناقبه كثيرة لا تعد، كان الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه غزير العلم، زاهداً ورعاً متواضعاً شجاعاً، وقد ورد عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: (لم ينقل لأحد من الصحابة من الفضائل ما نقل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه). جمع إلى جانب مهارته في القضاء والفتوى العلم بكتاب الله، والفهم لمعانيه ومقاصده، فكان من أعلم الصحابة رضي الله عنهم بأسباب نزول القرآن، ومعرفة تأويله؛ يشهد لهذا ما رُوي عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما أخذتُ من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب). فإذا كان هذا شأن ابن عباس رضي الله عنه وهو ترجمان القرآن فكيف والحال كذلك بمن أخذ عنه؟!

روى الإمام مسلم في فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: (وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ: (أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ) وقال عنه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ) دعاه الرسول  وزوجته فاطمة وابنيه الحسن والحسين وجلَّلهم بكساء وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرْهُم تطهيراً) وذلك عندما نزلت الآية الكريمة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).. ولقد كانت أخلاقه رضي الله عنه قبساً من نور خلق النبي صلى الله عليه وسلم الذي تربى في حجره وعاش على مائدة مكارم النبوة، حتى شب عن الطوق، واكتملت رجولته، وزاد من ذلك مصاهرته للنبي عليه الصلاة والسلام حيث كان يتعاهده وفاطمة الزهراء بالمواعظ والآداب العظيمة، فتنامت أخلاقه شموخاً، وسجاياه علواً ورفعة، وظلت فضائله وأخلاقه ومكارمه حية متألقة في روحه حتى فارق الدنيا، ولقد أجاد ضرار بن ضمرة الكناني رحمه الله في وصف تلك الأخلاق الباهرة والمكارم النادرة، وأبان عن جوهرها ومكنوناتها عندما سأله معاوية أن يصف علياً رضي الله عنهما، فقال ضرار: (كَانَ وَاَللَّهِ بَعِيدَ الْمَدَى،‏ شَدِيدَ الْقُوَى،‏ يَقُولُ فَصْلًاً،‏ وَيَحْكُمُ عَدْلًاً وَيَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ، ‏وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ،‏ يَسْتَوْحِشُ مِنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا،‏ وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ،‏ كَانَ وَاَللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ،‏ طَوِيلَ الْفِكْرَةِ،‏ يُقَلِّبُ كَفَّهُ،‏ وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ، يُعْجِبُهُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا خَشِنَ، وَمِنْ الطَّعَامِ مَا جَشِبَ (بِلَا أُدُمٍ)، كَانَ وَاَللَّهِ كَأَحَدِنَا يُجِيبُنَا إذَا سَأَلْنَاهُ،‏ وَيَبْتَدِينَا إذَا أَتَيْنَاهُ، وَيَأْتِينَا إذَا دَعَوْنَاهُ، وَنَحْنُ وَاَللَّهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا وَقُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً‏ وَلَا نَبْتَدِيهِ لِعَظَمَتِهِ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ،‏ يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ،‏ وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ‏ وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ ‏فَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَرَأَيْته فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ، وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدوله، وَغَارَتْ نُجُومُهُ‏ وَقَدْ مَثُلَ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضاً عَلَى لِحْيَتِهِ، يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ‏ فَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا أَبِي تَعَرَّضْت‏ أَمْ لِي تَشَوَّقْت،‏ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ،‏ غُرِّي غَيْرِي،‏ قَدْ طلقتك ثَلَاثًاً لَا رَجْعَةَ لِي فِيك،‏ فَعُمُرُك قَصِيرٌ وَعَيْشُك حَقِيرٌ‏ وَخَطَرُك كَبِيرٌ، آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ،‏ وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ ‏.‏

حينها ذَرِفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، فَمَا يَمْلِكُهَا وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ،‏ وَقَدْ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ،‏ ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ‏:‏ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ كَانَ وَاَللَّهِ كَذَلِكَ،‏ فَكَيْفَ حُزْنُك عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ‏؟‏ قَالَ حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرهَا فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا،‏ وَلَا تَسْكُنُ حَسْرَتُهَا ‏.‏

أيها المسلمون: اشتهر الإمام عليّ رضي الله عنه بالفروسية والشجاعة والإقدام، وكان اللواء بيد علي رضي الله عنه في أكثر المشاهد، في غزوة خيبر قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لأعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَداً رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) فكان علي رضي الله عنه هو المقصود والمُعْطَى وفُتِحَت خيبر على يديه.

وكان لعليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه دورٌ بارزٌ في غزوة بدر؛ فقد كان أحد الثلاثة الذين بدأوا المعركة بالمبارزة، وقد بارز الوليد بن عتبة بن ربيعة، وقتله.

وفي اُحد قام طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين فقال: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْجَلُنَا بِسِيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ، وَيَعْجَلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ ، فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَعْجَلُهُ اللَّهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ يَعْجَلُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  فَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَعْجَلَكَ بِسَيْفِي إِلَى النَّارِ، أَوْ تَعْجَلَنِي بِسَيْفِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ، فَقَطَعَ رِجْلَهُ فَسَقَطَ، فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ يَا ابْنَ عَمِّ، فَتَرَكَهُ ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لِعَلِيٍّ أَصْحَابُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟ قَالَ : إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي حِينَ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ  فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ)… ومما يدلّ على شجاعته رضي الله عنه أنه نام مكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد رسول الله الهجرة. ومع شجاعته هذه فهو القائل: (كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ  وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْهُ). فما أحد أشجع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم… عباد الله: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع علي أبا بكر الصديق رضي الله عنهما، فكان أحد وزرائه ومستشاريه، وظل طيلة حياة أبي بكر نعم العون والوزير، يساهم في إدارة الدولة وتصريف الشؤون بصدق وإخلاص، وكذلك كان مع عمر، فقد كان له وزير صدق، حتى زوجه بنته أم كلثوم. وكثيراً ما كان عمر يستخلفه على المدينة إذا غاب عنها، وكان في عهد عمر من كبار رجال الدولة الذين تعقد عليهم الآمال، حتى جعله عمر من الستة الذين يختار منهم الخليفة من بعده، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (لولا علي لهلك عمر)، ويروى عنه كذلك أنه قال: (أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن). ولما استخلف عثمان بايعه فيمن بايع من جمهور الصحابة، والتزم نصحه ومؤازرته، وكان موقفه منه حين ثارت الفتنة موقف الناصح والمدافع عنه. ولما أطبق الثوار على قصر الخليفة الشهيد أرسل ولديه الحسن والحسين بسيفيهما للدفاع عن عثمان، حتى نفذ قضاء الله… بويع بالخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وكانت أيامه فيها فتن وحروب ومعارك دامية، ومع هذه الفتن التي أحاطت بخلافته فقد كان رضي الله عنه شديداً في الحق، مقيماً للعدل، خاشعاً لله، مجتهداً في نصح الأمة، يولي الأخيار، ويحاسب المقصرين، ولا يجامل في الحق أبداً، ولا يخاف في الله لومة لائم، زاهداً في الدنيا، بعيداً عن الترف، وكما كانت حياته جهاداً فقد كان موته استشهاداً رضي الله عنه، حيث طعنه الشقي عبد الرحمن بن ملجم الخارجي لعنه الله، وهو يصلي الفجر في مسجد الكوفة، فكان استشهاده في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة. فرضي الله عن أمير المؤمنين الإمام الشهيد علي بن أبي طالب وأرضاه، وارض اللهم عن جميع الآل والأصحاب، وجمعنا الله بهم في دار كرامته، وبحبوحة جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو على كل شيء قدير.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رفع قدر أولي الأقدار، نحمده سبحانه ونشكره على فضله المدرار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، من المهاجرين والأنصار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون: إن الباحث المنصف المحقق في كتب ومراجع الطوائف الإسلامية، يجد أن الإمام علياً رضي الله عنه كان مع سابقيه من الخلفاء الراشدين، على الأخلاق التي رباهم عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحبهم ويبجِلهم ويحترمهم، ويسمي أبناءه بأسمائهم، ويعترف بفضلهم على رؤوس الأشهاد وكان لهم ردءاً يصدقهم بما يقولون، ويصْدُقُهم بما يقول، ويبذل لهم رأيه ومشورته الناصحة، ويقف معهم صفًاً واحداً أمام الملمات والمواقف العصيبة، لا يُسلِمهم لمكروه، بل يفديهم بنفسه وولده.

ولقد فُجِع الإمام عليٌ بموت رجل الإسلام الكبير أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فوقف يرثيه متوجعاً، وقال: رَحِمَكَ اللَّهُ يا أَبَا بَكْرٍ، كُنْتَ والله أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلاماً  وَأَخْلَصَهُمْ إِيمَاناً وَأَشَدَّهُمْ يَقِيناً، وَأَخْوَفَهُمْ لِلَّهِ،

صَدَّقْتَ رَسُولَ اللَّهِ حِينَ كَذَّبَهُ النَّاسُ، ووَآسَيْتَهُ حِينَ بَخِلُوا، وَقُمْتَ مَعَهُ حِينَ قَعَدُوا، كنت والله للإسلام حصناً وللكافرين ناكباً لم تَهِن حُجَتُك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك..)

بل إن عمر الخليفة العظيم كان يأتي إلى عليٍ يطلب منه الموعظة والتذكير، فقال له ذات مرة: عظني يا أبا الحسن، قال: يا أمير المؤمنين، لا تجعل يقينك شكاً، ولا علمك جهلًا، ولا ظنك حقًاً، واعلم أنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، وقسمت فسويت، ولبست فأبليت، قال عمر: صدقت يا أبا الحسن.. ولما قتل عمر رضي الله عنه وغسل وكفن وسجي بثوبه نظر إليه علي رضي الله عنه وقال: (ما أحد أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى).

ولما قُتل عثمانُ وجاء الخبرُ علياً قال: (تبّاً لهم آخر الدهر). ودخل على عثمانَ فوقع عليه، وجعل يبكي حتى ظنّ منْ هناك أنه سيلحقُ به. وتبرأ إلى الله من دمِه في مواقفَ ومناسبات كثيرة، ثبت عنه ذلك من طرقٍ تفيد القطع، وعندما بلغه أن القتلة قد ندموا على فعلتهم تلا قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.)

وكان علي رضي الله عنه من أكثر الناس إنصافًاً لخصومه، فقد رأى عليٌّ رضي الله عنه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في واد مُلقى أي: مقتولًاً، فنزل فمسح التراب عن وجهه وقال: عزيزٌ عليّ -أبا محمدٍ- بأن أراك مجندلًاً في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عجري وبجري يعني: سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي. وروي أنه نزل عن دابته وأجلسه، ومسح الغبار عن وجهه ولحيته، وهو يترحم عليه، وقال: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.

وكان يقول: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ). ولما سُئل عن أهل النهروان من الخوارج: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرُّوا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، فقيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: إخواننا بَغَوا علينا، فقاتلناهم ببغيهم علينا.. فسلام الله عليك يا أبا الحسن، يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حياً، ورضي الله عنك وأرضاك وطاب ذكرك حياً وميتاً، ورضي الله تعالى عن الآل الطيبين الطاهرين وعن أصحاب رسول الله الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجمعنا معهم في جنات النعيم مع الحبيب المصطفى محمد سيد الأنبياء والمرسلين برحمتك يا أرحم الراحمين…

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، وآله وأصحابه، ويقتدي بهم،ولا تجعل في قلوبنا غلاً على أحد منهم يا رب العالمين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.

اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان  وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً،اللهم كن لهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي كل مكان… اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.

اللهم اجعل جزاءنا موفوراً، وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، اللهم أذِقْنا بَرْدَ عفوك، وحلاوة مغفرتك، ولذَّة مناجاتك، اللهم وفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبَّل صلاتنا ودعاءنا، وكفِّر عنَّا سيِّئاتنا، وتُبْ علينا، واغفر لنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين.

اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان، غير فاقدين ولا مفقودين، وأعنا على صيامه وقيامه، يا ذا الجلال والإكرام.

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ.

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

عِبَادَ الْلَّهِ:إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ، فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أكبر والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

        خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين.