الجمعة 10 جمادى الآخرة 1440هـ

الموافق 15 فبراير 2019م

الحمدُ للهِ الذي أَبَانَ لخلقِه الهُدى والسَّداد، وهدى أولياءَه للصِّراطِ المستقيمِ وسَبِيلِ الرَّشَادِ، نحمدُه سبحانه ونشكرُه على ما أَسْبَغَ مِنَ النِّعَمِ وأَعَادَ، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يَهدي من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد. ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه، أفضل المرسلينَ وأكرم العباد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يوم التناد.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون)

معاشر المسلمين: إن التاريخ لم يشهد رجالاً اشتد بالله عزمُهم، وصدقت لله نواياهم، في غايات شريفة من الإيمان والإصلاح، نذروا لها حياتَهم، صدقوا ما عاهدوا الله عليه في جسارة وتضحية. نعم عباد الله! إن التاريخ لم يشهد ذلك، كما شهده من صحب محمد صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم وأرضاهم، في حبهم وتضحيتهم وعبادتهم وزهدهم وسمعهم وطاعتهم لله ورسوله، وحديثنا اليوم عباد الله عن رجل لا كالرجال، وفذٍّ لا كالأفذاذ يكفيه أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه عبد الله بن عثمان بن عامر، ويكنى بأبي بكر، ويُلقَّب بعتيق الله، ثم لُقب بالصدِّيق.. ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وصحب الرسول صلى الله عليه وسلم سنة قبل البعثة وسبق إلى الإسلام. وكان من أوائل الذين أسلموا، بل هو أول من أسلم من الرجال، كما أن خديجة رضي الله تعالى عنها هي أول من أسلمت من النساء، وأن عليَّاً رضي الله عنه وكان غلاماً صغيراً لما جاء الإسلام فكان هو أول من أسلم من الغلمان والصبيان… كان أبو بكر رضي الله عنه نحيفاً، خفيف شعر الوجه واللحية، منحني الظهر قليلاً، بارز الجبهة  أبيض البشرة.

إنه علم من أعلام الأمة، ورجل عظيم القدر، رفيع الشأن، شديد الحياء، كثير الورع، حازم رحيم، تاجر كريم شريف، غني بماله وجاهه وأخلاقه، لم يشرب الخمر قط؛ لأنه سليم الفطرة، سليم العقل، ولم يعبد صنماً قط؛ بل يكثر التبرم منها، ولم يُؤثَر عنه وينقل كذبة قط، نصر الرسولَ صلى الله عليه وسلم يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدَّقه يوم كذَّبه الناس.. دعاه النبي إلى الإسلام، فما كبا ولا نبا، يقول  صلى الله عليه وسلم: (ما عرضتُ هذا الأمر على أحدٍ إلا كانت منه كَبْوَةٌ وتردُّدٌ ونَظَرٌ، إلا ما كان من أبي بكر، ما إنْ عرضتُ عليه الأمر حتى صدَّقني وآمن بي). وَيقول صلى الله عليه وسلم عَنْهُ: (إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَداً يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهِا يَوْمَ القِيَامَةِ) ويقول الإمام عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه لأصحابه:ناشدتكمُ اللهَ أيُّ الرجلينِ خيرٌ:مؤمنُ آلِ فرعونَ أو أبو بكرٍ؟ فأمسكَ القومُ، فقال عليٌّ: واللهِ، ليومٌ واحدٌ من أبي بكر، خيرٌ من مؤمنِ آلِ فرعونَ، ذاكَ رجلٌ كَتَمَ إيمانَه فأثنى الله عليه، وأبو بكرٍ بذلَ نفسَه ودمَه ومالَه في سبيل الله) وأنزل الله في فضائل أبي بكر رضي الله عنه آياتٍ من القرآن الكريم، منها قول الله عز وجل: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ولَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ المقصود هو أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَوَصَفَهُ رَبُّهُ بِالْفَضْلِ.. وأثنى عليه  جل وعلا  في كتابه فقال: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).. شهِد له ربُّ العالمين بالصُّحبة، وبشَّره بالسَّكينة، وحلاَّه بثاني اثنين؛ وقف رسول صلى الله عليه وسلم يوماً بين أصحابه مثنياً على أبي بكر، وقال: (مَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ)، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: وَهَلْ أَنَا وَمَالِي إِلا فداء لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ).. وهو من أوائل مَن يدخل الجنة بعد الأنبياء والرسل، ويُدعَى من أبواب الجنة كلها،يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَنْفَقَ (نفقة) فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا.. قَالَ:(نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يا أبا بكر).. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على أبي بكر دائماً ويقول: جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ  وَعُمَرُ،  وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، ويقول: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًاً مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي.. )

عباد الله: ليس في الصحابة مَن أسلم أبوه وأمُّه، وأولاده وأولاد أولاده، وأدركوا النبي  صلى الله عليه وسلم سواه؛ يقول المحققون من أهل العلم: (فهم أهل بيت إيمان، ليس فيهم منافق، ولا يعرف هذا لغير بيت أبي بكر وكان يقال: للإيمان بيوت، وللنفاق بيوت، وبيت أبي بكر من بيوت الإيمان)…

إنَّه أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.. قَارِئُ القُرآنِ وجَامِعُهُ، رَقيقُ القَلْبِ عِندَ تِلاوتِهِ، لا يَملِكُ دُموعَهُ إذَا قَرأَهُ، كَانَ رَجُلاً أَسِيفًاً سَرِيعَ البُكاءِ، إذَا صَلَّى بالناسِ لَمْ يَسمَعُوا قِرَاءَتَهُ مِنَ البُكَاءِ.. كمَا وصفه الواصفون… ومن هذا البيت العامر بالإيمان خرجت أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم وحبيبته، حيث   ترعرعت في هذا البيت على يد والدها، فقد كان أبوبكر صوَّاماً قواماً..  في يوم واحد صام ذاك اليوم، وتبع جنازة، وأطعم مسكيناً، وعاد مريضاً، وشهد له الرسول بالجنة، وهو أول مَن أوذي بعد رسول الله  صلى الله عليه وسلم، وعندما تعرض سفهاءُ قريش للنبي  صلى الله عليه وسلم  وهو يطوف بالبيت وآذَوْه، لم يطق أبو بكر رضي الله عنه  ذلك، ودخل يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم يضربون أبا بكر، حتى ضربه عتبة بن ربيعة بنعلين مخصوفتين على وجهه، حتى ما يُعرَف أنفُ أبي بكر من وجهه؛ من كثرة الدم، وحلَف بنو تيم (قوم أبي بكر) إن مات ليقتلُنَّ به عتبة بن ربيعة، فلما أفاق أبو بكر وكان مغشيًّاً عليه، فحمله أهله إلى البيت، كان أول ما قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأبى أن يأكل أو يشرب، حتى يحملوه إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم ليطمئن عليه ويراه.

أيها الأخوة والأخوات في الله: كانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه كَثِيرَ النَّفَقَةِ مُجاهِداً بِنَفْسِهِ ومالِهِ، فقد أَعْتَقَ عشرين من الصحابة من ربقة العبودية، الذين كانوا يعذَّبون بأشد أنواع العذاب وأقساه، وأنفق في ذلك أربعين ألف دينار؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر، إن بلالاً يعذَّب في الله)، فعرف أبو بكر ما يريد رسول الله  صلى الله عليه وسلم،  فانصرف إلى منزله، فأخذ وزناً من الذهب، فاشتراه فأعتقه، ولرأفته رضي الله عنه كان يُسمى (الأوَّاه)..

يقول عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْماً، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟، قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قال عمر، فقُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَداً)..

عباد الله: وفي الهجرة، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: بَيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ يَوْماً في حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَإِذْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقَنِّعاً في ساعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيها أَبَداً، فَقال أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وأُمِّي، ما جاءَ إِلَّا لِأَمْرٍ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ علَى سَرِيرِ أَبي بَكْرٍ وقالَ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ يا أبا بَكْرٍ، قالَ: إِنَّما هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يا رسولَ اللهِ، قالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي في الهِجْرَةِ، قالَ أَبُو بَكْرٍ وهُوَ يَبْكِي مِنَ الفَرَحِ: الصُّحْبَةَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: الصُّحْبَةُ يا أبا بَكْرٍ) قالت عائشة: فو الله، ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يومئذٍ يبكي من الفرح).. وفي جبل أجرد، في غارٍ قفرٍ مخوف، بلغ الروعُ صاحبَه، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، وَاللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنا، فقالَ الرَّسولُ وهُوَ واثِقٌ بِرَبِّهِ: يَا أَبا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاْثَنْينِ اللهُ ثَالِثُهُما؟! (ولما سارا في طريق الهجرة كان أبوبكر يمشي حيناً أمام النبي صلى الله عليه وسلم وحيناً خلفه، وحيناً عن يمينه، وحيناً عن شماله.. ولما هاجر مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم دفع ماله كلَّه في سبيل الله.. وحين مرض النبي صلى الله عليه وسلم،  أمر النبي أبا بكر أن يُصلي بالناس؛ ولذا قال عمر رضي الله عنه: أفلا نرضى لدنيانا مَن رضيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لديننا؟!   إنَّه أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، الَّذِي نَالَ مِنْه أَقوَامٌ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! لَيْسَ أحَدٌ مِنْكُمْ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي ذَاتِ يَدِهِ وَنَفْسِهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى حَسَانَ فَقَالَ: هَاتِ مَا قُلْتَ فِيَّ وَفِي أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ حَسَّانُ رضي الله عنه:

إذَا تَذَكَّرْتَ شَجْواً مِنْ أَخٍي ثِقَةٍ

فَاذْكُرْ أَخَاكَ أبا بَكْرٍ بِمَا فَعَلا

التَّالِيَ الثَّانِيَ المَحْمُودُ شِيمَتُهُ

وأَوَّلُ النَّاسِ طُرَّاً صَدَّقَ الرُّسُلا

والثَّانِيَ اثْنَيْنِ في الغَارِ الْمُنِيفِ وَقَدْ

طَافَ العَدُوُّ بهِ إذْ صَعَّدَ الجَبَلا

خَيرُ البَرِيَّةِ أَتقَاهَا وَأَرْأَفُهَا

بَعْدَ النّبيِّ، وأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلا

فقَالَ صلى الله عليه وسلم: صَدَقْتَ يَا حَسَّانُ.

نعم، إنَّه صَاحِبُ الْحُبِّ الشَّدِيدِ وَالْفِدَاءِ الكبير، لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُحَدِّثُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْه فَيقُولُ: جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْماً فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْداً بَيْنَ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فعجبنا لبكائه، وقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْداً بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا)

وَاسْتَمَرَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع الرسول صلى الله عليه وسلم طِيلَةَ إقامَتِهِ فِي مَكَّةَ وَفِي الْهِجْرَةِ وَالْغَارِ، وَشَهِدَ مَعَهُ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَى أَنْ تُوفِّيَ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتِ الرَّايَةُ مَعَه يَوْمَ تَبُوكَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ من الهجرة فِي حَيَاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَمَرَّ خَلِيفَةَ الْأرْضِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسّلامُ،فكان الخليفة الأول، وَلُقِّبَ بِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.. اللهم اجعلنا بنبيك مقتدين، وبهديه عاملين، ولأصحابه مبجلين وموقرين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله يحي القلوب بالوعظ والتذكير، نحمده سبحانه وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: وحينما تمَّت البيعة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، بإجماع من المهاجرين والأنصار، وقف أبو بكر خطيباً في مسجد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بعد أخْذ البيعة، وقال:(أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ، وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، والضَّعيف فيكم قَوِيٌّ عندي حتى أرجِّع عَلَيْهِ حقَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضعيف عندي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يَدْعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلا خذلهم اللَّهُ بالذُّل، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا عمَّهم اللَّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ)..

إنها يا عباد الله خطبة بليغة شاملة جامعة أتبعها بالعمل لخدمة هذا الدين ونشره، فأنفذ وأرسل جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه لغزو الروم، وبلغ من تكريم أبي بكر لهذا الجيش الذي جهزه الرسول  صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، أن سار في توديعه ماشياً على قدميه، وأسامة راكب وقد أوصى أبوبكر الجيش بوصية عظيمة فيها تعاليم الإسلام ومبادئه السمحة. أيها الأخوة والأخوات: ثم قام أبو بكر رضي الله عنه بعمل عظيم لا ينهض له إلا الرجال الموفقون، فقد وقف للردة التي وقعت بعد وفاة الرسول  صلى الله عليه وسلم، موقفاً لا هوادة فيه ولا ليونة، وقال كلمته المشهورة: (والله لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكاةِ فَإِنَّ الزَّكاةَ حَقُّ الـمالِ، واللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقالًاً كانُوا يُؤَدُّونَهُ لِرَسولِ اللهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ)

ولما يسر الله عز وجل القضاء على المرتدين انطلقت عينا أبي بكر خارج الجزيرة العربية؛ رغبة في نشر هذا الدين وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فوجَّه الجيوش إلى الجهاد في أرض فارس والروم، وكانت أولى المواقع العظيمة موقعة اليرموك التي فتح الله فيها للمسلمين أرض الروم وما وراءها.

أيها المؤمنون: ومن أجلِّ أعمال أبي بكر  رضي الله عنه  جمع القرآن الكريم، وقد عهد بذلك إلى زيد بن ثابت  رضي الله عنه، فقام بالأمر حتى كتب المصحف في صحف جُمعت كلها ووضعت عند أبي بكر، حتى انتقلت من بعده إلى عمر، ثم إلى عثمان رضي الله عنهم..

عباد الله: مرض أبو بكر رضي الله عنه، ولما ثقل تمثلت  أبنته عائشة رضي الله عنها هذا البيت:

لَعَمْرُكَ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الفَتَى

إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وضاقَ بِهَا الصَّدْرُ

فكشف أبو بكر رضي الله عنه عن وجهه وقال: ليس ذلك يا بنية ولكن قولي: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)

وتوفي رضي الله عنه وأرضاه في سنة ثلاث عشرة من الهجرة،عن ثلاث وستين سنة، كعمر رسول الله، ودفن بجوار الرسول  صلى الله عليه وسلم، ورأسه عند كتفي رسول الله، ويالها من نعمة وكرامة، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وعهد للخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

عباد الله: إن سيرة الصحابة رضي الله عنهم، والاقتداء بهم، نهجٌ غفل عنه البعض، وطواه النسيان عند آخرين، ومعرفة سيرتهم وفضائلهم، والدفاع عنهم، وكشف الشبهات والأباطيل والأكاذيب التي حامت حولهم، سببٌ لمحبتهم، وتقربٌ إلى الله بذلك، وقد قال  صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحبَّ) فرضيَ اللهُ عن أبي بكر وأرضاه، وطاب ذِكرُهُ حيّاً وميتّاً، وجزاه الله الجزاء الأوفى، جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين، ورضي الله عن الصَّحابَةِ أجمعين، اللهم احشرنا في زمرة الصديقين، وأمتنا على محبتهم، واجعلنا من أتباعهم.

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، وآله وأصحابه، ويقتدي بهم،ولا تجعل في قلوبنا غلا على أحد منهم،واجعلنا ممن قلت في وصفهم، (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) اللهم إنَا نسألك حبك و حب نبيك، وحب من أحبه وحب كل عمل يقربنا إلى حبه  اللهم وفقنا لإتباع سنته، وتوفنا على ملته، وارزقنا شفاعته، واحشرنا في زمرته وابعثنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم ألحقنا بالصالحين، واحشرنا في زمرة المتقين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان  وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصرا ومؤيدا،اللهم كن لهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي كل مكان… اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافتيك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين…

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ،وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ.

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

عِبَادَ الْلَّهِ:إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ، فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أكبر والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

    خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين.