الجمعة 3 جمادى الآخرة 1440 هـ

الموافق 8 فبراير 2019 م

 

الحمد لله الغفور التواب، الكريم الوهاب؛ خلق الخلق ودبرهم، وكَفَل أقواتَهم وأرزاقَهم، نحمدُه على ما أعطى، ونشكرُه على ما أولى، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تبارك اسمُه وتعالى جدُه، ولا إله غيرُه، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى بالدين المبارك، الذي عمَّت بركتُه الأرضَ جميعاً، وأنزل عليه كتاباً مباركاً يهدي العباد للتي هي أقوم، في الأمور كلها( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:فياعباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنه مالك الملك، ومدبر الأمر، ورازق الخلق، وذلك من بركاته سبحانه وتعالى على عباده،يقول تعالى: ( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) وفي دعاء الوتر نقول: (إِنَّهُ لا يَذِلُّ من وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ) وعقب كل صلاة نقول في أذكارها البعدية: (اللهم أنت السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) وهذا الاعتراف الدائم بالرب تبارك وتعالى، هو طلب للبركة منه سبحانه في أمورنا كلها؛ لمسيس حاجتنا إلى البركة التي هي سبب السعادة، وهناء العيش ورغده، وخوفاً من المحق الذي هو سبب الشقاء والتعاسة والفقر والجوع.

عباد الله: إن البركة والمحق وصفان مؤثران في الأرض وما فيها من أرزاق وأموال، وهما من أفعال الرب جل جلاله، فإذا بارك رزقاً قليلاً وَسِع الناس كلَّهم مهما بلغوا، وإذا محق شيئاً لم يكف صاحبه ولو كان كثيراً، وكما أن البركة هي كثرة الخير ودوامه، ولو بدا للناس قليلاً، فإن المحق قلةُ الشيء وزواله ولو كان في أعين الناس كثيراً. وأهل الإيمان يعرفون ذلك بنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة،بخلاف الملاحدة الماديين، الذين ينكرون الغيب، ولا يؤمنون إلا بالعد والحساب والإحصاء والميزان، ويظنون أن الله تعالى لما خلق الخلق ضيعهم، فلم تكفهم أرزاقهم، وبنظرتهم التشاؤمية، وسوء ظنهم بالله تعالى أوبقوا أنفسهم، وأضروا بغيرهم.

إن ربنا جل جلاله، موصوف بالغنى والجود؛ فهو سبحانه الغني الحميد، الجواد الكريم،    ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ يَمِينَ الله مَلأَى، لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ ما أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ، فإنه لم يَنْقُصْ ما في يَمِينِهِ).

ومن جوده وكرمه جل جلاله، أن يبارك في أرزاق عباده حتى يكفي قليلها كثيرهم، وهو عز وجل حين خلق الأرض، وبسط فيها الرزق، وجعلها مساكن للبشر؛ بارك سبحانه في منافعها ومواردها وأرزاقها، فهي تكفي البشر مهما بلغت أعدادهم، وهذه البركة في الأرض ثابتة بنص القرآن الكريم، يقول الله تعالى يصف خلقه للأرض،  (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) وهذه البركة ثابتة بالحس؛ فإن الناس يقتطعون جزءاً يسيراً من الأرض يزرعونه، فينتج من الطعام ما يشبع عدداً كثيراً منهم، وأكثر المزارعين في مشارق الأرض ومغاربها يعيشون وأسرَهم طوال حياتهم، على ما تنتجه أراضيهم من خيرات، وأكثر البلاد الفقيرة، يعيش أفرادها على الزراعة،ولولا الله ثم لولاها لهلكوا، بدليل أن البلاد التي يحبس عنها المطر، ويصيبها الجفاف يهلك أفرادها من الجوع.

أيها المؤمنون: والله سبحانه وتعالى لما بارك الأرض، جعل لبركة الخيرات فيها أسباباً، إن أخذ الناس بها، بارك الله تعالى لهم في أرزاقهم، فكفتهم وفاضت عنهم ولو بدت للناس قليلة، كما جعل سبحانه للمحق أسباباً، إن أتاها الناس محقت بركة أرزاقهم، فلا تكفيهم ولو كانت كثيرة.. إنها سنة ربانية في الرزق والمال والمعاملات التجارية، لا تتبدل ولا تتحول؛ إنْ فهمها البشر وعملوا بمقتضاها، بورك لهم في أرزاقهم وأموالهم، فلم يشتكوا ندرة ولا قلة، ولم يجدوا بخساً ولا نقصاً، وإن عارضها البشر جرت فيهم سنة الله تعالى فمحقت أرزاقهم، وذهبت بركة إنتاجهم.. ونجد هذا القانون الرباني واضحاً كل الوضوح في قول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) وفي قوله سبحانه: (وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ الله، وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ)

عباد الله: إن التعامل بالربا يزيد المال في الظاهر فتهفوا النفوس إليه، وإن الزكاة تُنقص المال في الظاهر، فيحجم الناس عنها، ولكن سنة الله تعالى تقضي بأن هذه الزيادة في الربا، تعود على المال وصاحبه بالمحق، كما أن الجزء المزُكى يعود على المال وصاحبه بالبركة والنماء؛ ولذا قيل في الزكاة، إنها النماء والزيادة، وهذه السنة الربانية المحكمة يعرفها المؤمنون؛ لأنهم يؤمنون بالغيب، ويجهلها الماديون، لأنهم ينكرون الغيب… ومن سنة الله تعالى، مباركة الأموال بالتجارة الحلال، والصدق في البيع والشراء، فتلحق بركة أرباحها المال كله، فيكون مالاً مباركاً، كما أن من سنته سبحانه، محق الأموال بالبيوع المحرمة، والمعاملات الفاسدة المبنية على الكذب والغش والضرر والاحتكار، فيحيط المحق بأصحابها وأموالهم، وقد دل على هذه السنة الربانية أحاديث كثيرة منها: حديث حَكِيمِ بن حِزَامٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ، ما لم يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) وفي حديث أبي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سمع رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ في الْبَيْعِ فإنه يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ)

أيها المؤمنون: ولو أمعنا النظر في هاتين السنتين الربانيتين القاضيتين بأن المال يتبارك بالزكاة وبالصدق والنصح في العقود والتجارة، وأن المال يُمحق بالربا وبالكذب والغش في التجارة، ثم نزّلنا هاتين السنتين على واقع البشر – فإننا سندرك يقيناً أن المحق قد حاق بالبشر في أرزاقهم بسبب انتشار الربا في أموالهم، وتفشي المحرمات في عقودهم ومعاملاتهم، وأن البركة نُزعت من أرزاقهم بسبب منع الزكاة، وقلة الصدق والنصح في العقود والمعاملات. وهذا هو السبب الحقيقي الذي يُغفله الناس في تلك الأزمات المالية المتلاحقة، التي تنذر بخطر كبير على البلاد والعباد.

أيها المسلمون: لنوقن تمام اليقين أن الله تعالى ما ضيع البشر حين خلقهم، وأنه سبحانه قد كفل أرزاقهم، وما من مولود يفد إلى الدنيا إلا ورزقه معه، ولكن البشر أفسدوا في الأرض، حتى ضاقت الأرزاق، ونزعت البركات… إن الأرض في القرن الأخير قد فاضت بالخيرات، وتحررت فيها التجارات عقب الثورة التجارية، ثم اتسعت الأرزاق أكثر بعد الثورة الصناعية، وزادت أكثر وأكثر بعد ثورتي الاتصال والمواصلات، ولكن الفقر ازداد في الأرض، وكثر الجوع، وتبع ذلك اختلال الأمن، واضطراب الأحوال.

بل بلغ من بطر الناس، وإفسادهم في الأرض عقب السيادة الرأسمالية أن موارد الأرض، وأرزاق البر والبحر؛ قد استُنزف منها خلال مئة سنة فقط أكثر مما استُنزف خلال القرون السالفة منذ خلقت الأرض إلى ما قبل مئة سنة. والمصانع العملاقة المتعددة تدور آلاتها في الليل والنهار؛ لتنتج ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وآلات الزراعة تستخرج المياه من أعماق الأرض، ويُزرع بها من مساحات الأرض ما لا يدركه البصر، فتُملأ المخازن بملايين الأطنان من الغذاء، ومع ذلك فإن ملياري إنسان تحت خط الفقر، أي ما يقارب ثلث البشر؛ فأين هذا الإنتاج العظيم من الطعام والكساء عن أفواههم وأجسادهم؟!

عباد الله: إن الفساد الرأسمالي في الفكر والتصور والإدارة والعمل قد تسبب في محقٍ عظيم أحاط بالبشر في كل بقاع الأرض، وأسبابُ هذا المحق جاءت به الرأسمالية المتوحشة؛ فالربا الذي هو الركن الأول للمحق لم يكتف الرأسماليون بالتعامل به فحسب، بل فرضوه نظاماً مالياً عالمياً كان سبباً لمحق أموال الناس في كل مكان، والآن يجنون بعض ثماره الفاسدة، ويعانون من محقه الأكيد… وأما المعاملات المحرمة فأكثر من أن تُحصى في نظامٍ أطلق لكبار المرابين والمقامرين والمتوحشين أن يمتصوا دماء الناس، وينتهبوا أموالهم، ويلعبوا بعقولهم، ويغشوهم في تجاراتهم عبر الدعايات الكاذبة للمنتجات الاستهلاكية التي تنفق الشركات المنتجة أموالاً طائلة عليها، لا هدف لها إلا التسويق وخداع المتلقين عنها بأي وسيلة، حتى حولوا الناس إلى مستهلكين دائمين لا ينفكون عن الاستهلاك والإسراف ولو استدانوا لذلك وافتقروا، فكان فعلهم هذا من أعظم الغش والكذب والغرر في التجارات، وتسويق المنتجات، وقد علمنا أن المحق من سنة الله تعالى في أموال أهل الكذب والغش.

وفي مقابل ذلك مُنعت الزكاة؛ لأن الرأسماليين لا يؤمنون بها ولا بأي إحسان ليس له عائد محسوس، وكثير من المتعاملين بالربا من المسلمين مع الأسف الشديد لا يؤدون الزكاة، وربما تحايلوا لإسقاطها.

إن أسوأ ما في النظام المالي المهيمن على العالم في هذا العصر أنه شرَّع أسباب المحق ونشرها وفرضها، وحارب أسباب البركة وحال بينها وبين أكثر الناس، وبهيمنة هذا النظام المالي الفاسد عمَّ المحق أموال البشر، ونُزعت البركة من أرزاقهم.

ثم كانت الجريمة الكبرى في ادعائهم أن الأرض لا تسع البشر، وأن مواردها لا تكفيهم، وبناء على ذلك احتكروا موارد الأرض لدولهم وشعوبهم، وحبسوها عن بقية الدول والشعوب، فحاصروها وأفقروها وجوعوها حتى بلغ من ظلمهم أن خمسة عشر بالمائة من البشر ينفقون خمسة وثمانين في المائة من ثروات الأرض، بينما يقتسم خمسة وثمانون بالمائة من البشر خمسة عشر بالمئة من موارد الأرض.

وهذا من أعظم الظلم والبغي ولا سيما أن شعوبا يموت منها كل يوم آلاف من الجوع، ودولا تعاني من الفقر والإفلاس،وصدق الله العظيم حيث يقول: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)

اللَّهُمَّ اكْفِنِا بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، يا سميع الدعاء.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن الله تعالى خلق الإنسان وتكفل برزقه؛ يقول تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) ويقول سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) ومن طبيعة البشر أنهم إذا وُسِّع عليهم في الرزق، بالغوا في النفقة بما يصل بهم إلى حد الإسراف والتبذير.. وقد بيَّن الله عز وجل أن هذه هي طبيعة الإنسان؛ فقال: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) وقال: (كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)

ولما كانت شريعة الإسلام قد أتت بكل ما يصلح العباد ويضمن لهم السعادة في الدارين فقد أمرت هذه الشريعة السمحاء أبناءها، بالقصد والاقتصاد في الأمور كلها، ومنها التوسط في أمر النفقة. فلا يكون العبد ممسكاً بخيلاً على نفسه وأهله، مانعاً الإحسان عمَّن يحتاج إليه، ولا يكون مبذراً مسرفًاً مضيعاً ما أنعم الله به عليه من نعمة المال في غير حقه، يقول تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)

عباد الله: تمر الدول والشعوب والمجتمعات والأفراد والمؤسسات بأزمات مالية صعبة، ومراحل اقتصادية، بين مد وجزر وزيادة ونقص، وبين وفرة وقلة، وكثرة ونقصان،  والعاقل من يديرها ويتعامل معها بحكمة في كلا الحالتين، فلا يسرف في الوفرة، ولا تقضي عليه الأزمة والنقص، فتنغص عليه معيشته وحياته… إن أكثر المشاكل الاقتصادية فيما أرى تكمن فيما اعتاده البعض من مستوى معيشة معينة، فيها زيادة ومبالغة في المآكل والمشارب والملابس والمراكب، والاحتفالات والملاهي والسفرات، وكثيرٌ منها لا يصل إلى مستوى الحاجات، فضلاً عن الضرورات، وأكثرها من التحسينات والكماليات وما هو دونها، وكلها تستهلك من إيرادات الناس وأموالهم، فتسمع الشكوى من الغلاء وارتفاع الأسعار، وقلة الدخل وإن كان كثيراً، ومن كثرة المصاريف والطلبات ولو كان أكثرها ليس له حاجة …

وإن من الملفت للنظر استِرسال بعض الناس في الإسراف والتبذير، فترَى الواجِدَ يُسرِف، والذي لا يجِدُ يقترِضُ من أجل أن يُسرِف، ويصرِف على ما لا يحتاجُه .

عباد الله: إن جل الأزمة فيما أرى ليست اقتصادية بل هي أزمة أخلاقية، وسوء تدبير وتبذير للأموال في الكماليات بل في التفاهات إن لم تكن في المحرمات، وعلى جميع المستويات، وإن كان الإسراف منهي عنه، لقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فكذا البخل مذموم، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَاماً) . ويقول صلى الله عليه وسلم: ثلاث منجيات وذكر منها: (وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ) وروي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، وما عال من اقتصد… ومن توجيهات الدين الاقتصاد في الإنفاق، بل رتب الله تعالى على ذلك أجوراً وثواباً عليه، يقول تعالى (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) فهذا أمر من الله تعالى بالإنفاق على قدر الرزق، ووعدٌ منه سبحانه للفقير باليُسر بعد العسر إذا أنفق على قدر رزقه..

ويقول عليه الصلاة والسلام: (إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ وَلِلْخَازِنِ(أي الخادم) مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئاً) فحاجة كثير من الناس إن لم يكن كلهم ليست لزيادة الموارد والدخل وكثرته، بل يحتاجون إلى التدبير في المعيشة وحسن التصرف والاقتصاد فيها .. وقبل ذلك وبعده البركة من الله فيما يرزقهم .. نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ويوسع لنا في أرزاقنا ويبارك لنا فيها، اللهم يا غني يا كريم يا ذا الفضل العظيم، يا واسع العطاء والكرم، أغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك. اللهم إن كان رزقنا في السماء فأنزله، وإن كان في الأرض فأخرجه، وإن كان في البحر فأطلعه، وإن كان بعيداً فقربه، وإن كان قريباً فيسره، وإن كان قليلاً فكثره، وإن كان كثيراً فهونه، وبارك لنا فيه، وارزقنا من حيث لا نحتسب رزقاً حلالاً طيباً غدقاً سحاً مباركاً فيه، وارزقنا حتى لا يكون لأحدٍ من خلقك علينا فيه مِنِّة، واجعل يدنا عُلْيا بالإعطاء، ولا تجعل يدنا سفلى بالاستعطاء، إنك على كل شيء قدير .

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء.

اللهم انصر جندك وعبادك المستضعفين، وأيدهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي كل مكان، اللهم حرر الأقصى وأرضك المقدسة من أيدي الصهاينة الغاصبين، وارزقنا فيه صلاة طيبة قبل الممات يارب العالمين.

اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وأشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)  فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

    خطبة جامع الفاتح- عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين