الجمعة 8 ربيع الأول 1440هـ
الموافق 16 نوفمبر 2018م

الحمد لله من علينا بالإسلام، وأرسل لنا خير الأنام, محمدا عليه أفضل صلاة وأزكى سلام، أرسله الله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا،،(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الملك العلام، ونشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله؛رسول الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى اله وأصحابه، الذين امنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.

أما بعـد: فأوصيكم عـباد الله ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله تعالى وأطـيعوه، (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ،  ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) واعلموا رحمكم الله أن محـبة رسـولنا محمد صلى الله عليه وسـلم وطاعته، أصل من أصول الدين والإيمـان، يجب على كل مسـلم ومسـلمة اعـتقادها والوفاء بها، والحذر من نواقضها. يقول الله تبارك وتعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْـوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُـكُمْ وَعَشِـيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـارَةٌ تَخْـشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَـبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُـولِهِ وَجِـهَادٍ فِي سَـبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِـينَ) يقول أهل التفسير: (فكفَى بهذا حظًّاً وتنبيهاً ودلالةً وحُجَّةً على إلزامِ محبَّته، ووجوبِ فرضِها، وعظمِ خَطرِها، واستحقاقِه لها  صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ؛ إذْ قرَّعَ الله تعالى من كان مالُه وأهلُه وولدُه أحبَّ إليه من اللهِ ورسولِه وتوعَّدهم بقوله سبحانه: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلَمهم أنَّهم ممن ضلَّ ولم يهدِه الله جل وعلا: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)

وفي الصحيح عن عبدِ اللهِ بنِ هِشَامٍ رضي الله عنه قال: (كُنَّا معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهُوَ آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه، فقالَ لَهُ عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، لأَنْتَ أحَبُّ إليَّ مِن كُلِّ شيءٍ إلاَّ مِن نَفْسِي، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا، والذي نفسي بيَدِهِ، حتى أكُونَ أحَبَّ إليكَ مِن نَفْسِكَ)، فقالَ لَهُ عُمَرُ: فإنَّهُ الآنَ واللهِ، لأَنْتَ أحَبُّ إليَّ مِن نَفْسِي، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (الآنَ يا عُمَرُ الآنَ يا عُمَرُ) (أي قد تمَّ الإيمان وكَمُل) ويقول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا يُؤمِنُ أحَدُكُم، حتى أكُونَ أحَبَّ إليهِ، مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والناسِ أجمعِينَ) ويقول عليه الصلاة والسلام: (ذاق طعم الإيمان، من رضي بالله ربًّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولًاً)

لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم الرحمـة المهداة، والنعمة المسـداة للعالمـين جمـيعاً، كانت ولادته للإسـلام فتحـاً، وبعثته للهدى والإيمان فجـراً، بدد الله به ظلمات الجـهل والشرك، وأخـرج به الناس من الظلمات إلى النور، كان صلى الله عليه وسلم أكرم الناس خـلقاً، وأوسـعهم صدراً، وأصدقهم لهجـة، وأكرمهم عشـرة، وأوفاهم عهداً، وأجـودهم يداً، وأسـخاهم نفـساً، وأشـدهم صبراً، وأعظمهم عفواً ومغفرة وشـجاعة، وصولاً للرحـم حـسن الجوار، قريباً من كل بر ومعروف، بعيداً عن كل إثم ومنكر، لا يقول إلا حـقاً، ولا يعد إلا صدقاً، ولا يفعل إلا خـيراً، براً كريمـاً بالمؤمنـين رءوف رحـيم.. فجـدير بمن كان بتلك المنـزلة الرفيعة، والخـلق الجم، أن تتوجـه القلوب لمحـبته، وأن تلهج الألسـنة بذكره والصلاة عليه، وأن تزداد النفوس شـوقاً إلى لقائه وصحـبته، ودراسة شمـائله، ومعرفة سـيرته وكريم خـلقه، وقد كان يكفي من عاصره أن ينظر إلى وجـهه الكريم فـيرى علامات الصدق، وآيات النبوة واضحـة على محـياه جلية، في سمـته وهديه صلى الله عليه وسلم.

كما قال حـسان ابن ثابت رضي الله عنه في وصفه :

لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ

كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تُنْبِئُكَ بِالْخَبَرِ

ويقول عمرو ابن العاص رضي الله عنه: (َمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)

أيها المؤمنون: لقد نال الصحـابة رضي الله عنهم وأرضاهم، شرف لقاء النبي صلى الله عليه وسـلم وصحـبته، فكان لهم النصيب الأوفى في محـبته وتعظيمه، مما سـبقوا غيرهم ولم يدركوا فيه من بعدهم في حـب النبي صلى الله عليه وسـلم، وتعظيمه والدفاع عنه، وفداءه بالنفـس والمال والأهل والولد، آمنوا به واتبعوه وهاجـروا معه وناصروه، وجـاهدوا في سـبيل الله بأموالهم وأنفـسهم، فأوذوا وقاتلوا وقتلوا، وأخرجـوا من ديارهم وأموالهم، فخرجـوا في سبيل الله طائعـين يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسـوله. فـ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَـنَّاتٍ تَجْرِي تَحْـتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً، ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِـيمُ)

(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِـينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْـتَ الشَّـجَرَةِ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) بذلوا أرواحـهم ودماءهم وأموالهم رخـيصة في سبيل الله، وجاءوا إلى المصطفى صلى الله عليه وسـلم، يحكمونه في أموالهم وأنفسهم وهم يقولون : هذه أموالنا بين يديك يا رسول الله فاحكم فيها بما شـئت، وهذه نفوسـنا بين يديك، لو استعرضت بنا البحر لخـضناه معك ما تخلف منا أحد، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فامض بنا يا رسول الله حيث شئت.

فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أثناء الهجرة، يمـشي مرة عن يمين رسـول الله صلى الله عليه وسـلم، ومرة عن شمـاله، وساعة خـلفه، وحـيناً أمامه، يخـشى أن يدركه العدو من أية ناحـية من النواحي.

وأبى إلا أن يدخـل الغار أولاً ليسـتبرئه لرسول الله صلى الله عليه وسـلم من الدواب والهوام… ولم يقتصر خوف الصديق على رسول الله مما قد يلحق به من الأعداء والهوام، وإنما كان خوفه عليه من حر الشمس التي قد تؤذيه، ففي الحديث:(حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه)

وسئل الإمام علي ابن طالب رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : (كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وأبنائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ). وصدق رضي الله عنه وأرضاه وبر، فإنه قد نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجـرة وهو يعلم أن السـيوف قد تصيـبه في أي لحـظة، لكنه يقدم نفسه فداء للمصطفى صلى الله عليه وسلم، في موقف من أعظم مواقف الإيمان والمحـبة والشجاعة والتضحـية، وقد اجتمع حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم فرسان المشـركين الذين أجمـعوا على قتله صلى الله عليه وسـلم، وتفريق دمه بين القبائل، ولكن النفوس المؤمنة تهـون دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ينجـو من مكرهم ويخرج من بيته، ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَـيْرُ الْمَاكِرِينَ) وسئل الصحابي الجليل زيد ابن الدثنة رضي الله عنه حـينما أخرجه أهل مكة من الحـرم ليقتلوه وقد كان أسـيراً عندهم أسروه في بئر معونة فقالوا : ننشـدك بالله يا زيد، أتحـب أن محـمداً الآن عندنا مكانك، نضرب عنقه، وأنك في أهلك، قال: والله ما أحب أن محـمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جـالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحـب أحداً كحب أصحاب محـمد محـمداً.. والصحابي الجليل خـبيب ابن عدي رضي الله عنه وأرضاه، يقع أسـيراً في يد المشـركين يوم الرجيع، فيعذبونه عذاباً شـديداً وينكلون به، لأنه اتبع محـمداً وآمن بما جاء به، ويقولون له في استـهزاء وكـبرياء: أتحـب أن محـمداً مكانك، وأنك معافى في أهلك ومالك، فيقول: والله ما أحب أنني معافى في أهلي ومالي ويشـاك محـمد صلى الله عليه وسـلم بشوكة، ثم يخـرجون به ليقتلوه، فيصلي ركعتـين ثم يقول: لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لطولت الصلاة، ثم ينصرف إليهم فيقول، اللهم أحـصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحدا. ثم أنشد

ولست أبالي حين أقتل مسلماً

على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع

ثم يقتلونه شـهيداً في سبيل الله ودفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسـلم.

ولَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، أنتشر خبرٌ بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، حَتَّى كَثُرَتِ الصَّوَارِخُ فِي نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَاسْتُقْبِلَتْ بِأَخَيهَا وَابْنِهَا وَزَوْجِهَا وَأَبِيهَا (أي أخـبرت بمقتلهم جمـيعاً) فَلَمَّا مَرَّتْ عَلَى آخِرِهِمْ قَالَتْ: (مَنْ هَذَا؟ قَالُوا:  أَخُوكِ وَأَبُوكِ وَزَوْجُكِ وَابْنُكِ، قَالَتْ: مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أرونيه (تسأل عن سلامته وتطلب رؤيته) فَيَقُولُونَ لها: أَمَامَكَ! حَتَّى ذَهَبَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَتْ بِنَاحِيَةِ ثَوْبِهِ، ثُمَّ جَعَلَتْ تَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا أُبَالِي إِذَا سَلِمْتَ مَنْ عَطب). كل مصـيبة بعدك جـلل (أي يسيرة هينة).

عباد الله: وهكذا كان التابعون وأهل الفضل والعلم من سـلف هذه الأمة رحمهم الله: يقدمون حـب الله تعالى، وحـب رسـوله صلى الله عليه وسـلم على ما سـواهما، معظمـين لرسـول الله صلى الله عليه وسـلم، عاضـين على سـنته بالنواجـذ، حـذرين من محـدثات الأمور والبدع والضلالات، لا يقدمون على أمر الله وأمر رسـوله قولاً ولا رأياً ولا أحداً. وقد كان أئمة السـلف رحمهم الله كمالك ابن أنس، وقتادة، وعبد الرحمـن ابن مهدي، والزهري، وابن القاسم، وأيوب السخـتياني، وابن الزبـير، والأعمـش، وحمـاد ابن سـلمة وغـيرهم، إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسـلم عندهم، تغـيرت وجـوههم، وسـالت دموعهم، وبكوا بكاء شـديداً فلا يزالون كذلك، حتى يرحمـهم جلـساؤهم ويقومون عنهم، كل ذلك محـبة للنبي صلى الله عليه وسـلم وإجـلالا وتوقيراً.

وكان إمام دار الهجـرة مالك ابن أنس رحمه الله إذا أراد الخـروج لتحـديث الناس، توضأ وضوءه للصلاة، ولبـس أحـسن ثيابه، وتطيب ومشط لحـيته، توقيراً لحـديث رسـول الله صلى الله عليه وسـلم.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (مِنْ أَشَـدِّ أُمَّتِي لِي حُـبًّاً، نَاسٌ يَكُـونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَـدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ)

اللهم صل وسـلم على عبدك ورسـولك سيدنا ونبينا محـمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن ارتِفاعَ شأن الأمة وقوَّتها وعزَّتَها وانتِصارَها على أعدائِها، كلُّ ذلكم مرهونٌ بمدَى محبَّتهم لنبيِّهم صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً؛ فإن من قرأَ سجِلَّ الأمة الحافِلِ بالنصر والتمكين والرِّفعةِ بين الأُمم، سيُوقِنُ صحَّةَ هذا الأمر.. فإنه ما ضعُفَت الأمةُ واستكانَت، إلا لضعفِ ولائها ومحبَّتها لنبيها صلى الله عليه وسلم، وبُعدِها عن نهجِه، وعدمِ نُصرتِه ونُصرة سُنَّته، حتى طغَى لديها تقديمُ العقل على الوحيِ الذي نطَقَ به، ما سبَّب ازدِيادَ الجُرأة على السنَّة النبوية المُفضِيَة إلى القَدح في مُبلِّغِها بأبي هو وأمي، صلواتُ الله ربي وسلامُه عليه.

عباد الله: إن أمةً ضعُفَت فيها محبَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقصرت في نُصرته لجديرةٌ بالذلِّ والهَوان، وتسلُّط الأُمم عليها. كيف لا، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم  يقول: (لا يُؤمنُ أحدُكم، حتى أكون أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناسِ أجمعين) وقد قال الله  جل شأنُه: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) فإن من تأمَّل هذه الآية وذلكُم الحديث، أدرَكَ أن من أحبَّ الرسولَ  صلى الله عليه وسلم  فقد آمَنَ، ومن آمَنَ فلن يكون للأعداء سبيلٌ عليه، سواءٌ أكانوا أفراداً في الأمة أو مُجتمعات بها. وليس بلازمٍ من هذا الأمر أن الأمة إذا ضعُفَت لضعفِ تحقيقِ محبَّة النبيِّ  صلى الله عليه وسلم  ونُصرتِه، أنه دليلٌ على كُرهِها له. حاشا وكلا، فهذا فهمٌ مغلوط؛ وإنما المُراد غيابُ كمال المحبَّة، التي تجعلُ أمرَه وحُكمَه ونُصرتَه مُقدَّمٌ على كل شيءٍ. فإن الشُّرور إنما تُرهَنُ بكمال المحبَّة له صلى الله عليه وسلم وجوداً وعدماً، وقد قال الله  جل وعلا: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: إن محبَّة النبيِّ  صلى الله عليه وسلم  ليست ضرباً من الخيال، ولا هي من التكليفِ بما لا يُطاق؛ وإنما هي روحانيَّةٌ وانشِراحٌ وسعادةٌ لا يُحِسُّ بها إلا من رُزِقَها، ولا يزهَدُ فيها ويُهوِّنُ شأنِها إلا من كان قلبُه لضَخِّ الدم فحسب؛ إذ هذه خِلالُ غِلاظِ الأكباد، قُساةِ القلوبِ، تُجَّار الدنيا، يملئون قلوبَهم بالصوارِفِ عنه  صلى الله عليه وسلم.

وما هذه واللهِ خِلال عباد الله الصادِقين المُخلِصين، وصحبِ نبيِّه الأمين  صلواتُ الله وسلامُه عليه. فإنه لما قدِمَ عُروةُ بن مسعودٍ في صُلحِ الحُديبية من طرف قُريش،(وكان على الشرك) قال واصِفًاً ما رآه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وتعظيمِهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، ووَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ، وَكِسْرَى، وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكاً قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ تَعْظِيمَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ محمداَ…) وفي نفسِ القصة: أن عُروةَ جعلَ يُحدِّثُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويُشيرُ بيدِه إليه حتى تمَسَّ لحيةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمُغيرةُ بن شُعبة واقِفٌ على رأسِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بيدِه السيفِ يحرسه، فقال له: اقبِض يدَكَ عن لحيةِ رسولِ الله  صلى الله عليه وسلم، قبل ألا ترجِعَ إليك. فقَبَضَ عُروةُ يدَه.. فلأتباعِه الهُدى والأمن والفلاح، والعِزَّةُ والكفاية، واللذَّةُ والولاية، والتأييد وطِيبُ العيش في الدنيا والآخرة. ولمُخالفِيه الذلُّ والصَّغارُ، والخوفُ والضلال، والخُذلانُ والشقاءُ في الدنيا والآخرة.

ألا فاتقوا الله عباد الله، فها أنتم عرفتُم فالزَمُوا؛ فإن المُوفَّق من وفَّقَه الله تعالى، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ،  فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)

هذا، وصلُّوا وسلموا رحمكم الله على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكَته المُسبِّحةِ بقُدسِه، وأيَّه بكم أيها المُؤمنون فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، صاحبِ الوجه الأنور، والجَبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك، وسُنَّة نبيِّك، وعبادَك المؤمنين.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافتيك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا،واجعله آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان  وولي عهده سلمان بن حمد اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد والقول السديد ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..

اللهم يا ناصِر المُستضعَفين ومُنجِي المؤمنين انتصِر لإخوانِنا المُستضعَفين المظلُومين في فلسطين، وفي سُوريا، ، وفي اليمن، وفي بُورما، اللهم قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكربُ، واشتدَّ عليهم الأمر، اللهم فانتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وارحم شهدائهم، وشافي جرحاهم، وألّف بين قلوبهم، واجمع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك. اللهم إنا نسألُك لهم نصراً مُؤزَّراً، وفرَجاً ورحمةً وثباتاً، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، وقوِّ عزائِمَهم..

اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.

اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين…الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ.

عِبَادَ الْلَّهِ:إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ، فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ،وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أكبروالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين