الجمعة 17 صفر 1440هـ
الموافق 26 أكتوبر 2018م

الحمدُ لله الذي خَلَق المخلوقاتِ فأحكمَها خَلقًاً، وقسَم العبادَ إلى فريقين فأسعدَ برحمته السُّعداءَ، وأشقى بعدلِه مَن أشقى، نستغفِره سبحانه ونستهديه، فهو أهلُ المغفرةِ والتّقوى، ونشكره ونثني عليه لم يزَل  للشُّكر مستحِقًّاً، ونشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له حقًّاً حقًّاً، تعبُّداً ورِقًّاً، ونشهد أن  سيّدَنا ونبيّنا محمّداً عبد الله ورسوله، أكملُ الخَلق خُلقًاً وأحسنُهم خَلقًاً، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، هو الأخشى لربِّه والأتقَى، وعلى آله وأصحابه حازوا المكارمَ والفضائل تقدُّماً وسَبْقًاً، والتّابعين ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعــد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: كم هي الآيات في القرآن الكريم، التي اقترن فيها الإيمان بالعمل الصالح، فما تكاد تجد آية فيها نداء للمؤمنين، أو فيها توجيه العباد، ولفت أنظارهم إلى الإيمان وأهميته، إلا ويأتي بعد ذلك ذكر العمل الصالح وأهميته وثمرته، وهذه دلالة واضحة على أثر الإيمان في توجيه الأعمال، نحو الصلاح والخيرية والنفع والإتقان، يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ويقول سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ويقول جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) ذلك أن الإيمان يربي الضمائر، ويهذب الأفعال، وينفث في روع المسلم وقلبه عقيدة الخوف من الله ومراقبته، فيعتقد أنه ما من عمل يقوم به إلا وهو محاسب عليه، أو مجزيٌّ به عند الله الذي لا يعزب عن علمه وقدرته وسلطانه ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل مهما قل أو كثر، يقول تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) لقد كانت شريعة الإسلام تهدف بهذه العقيدة، وهي تربي أبناءها؛ توجيههم إلى إتقان الأعمال، والبعد عن الغش والخداع، والخيانة والرياء، والتقصير والإهمال؛ فيكون التميز والنجاح صفة لهذه الأمة في جميع ميادين الحياة… وإن من ينظر في هذا الكون الفسيح، والمترامي الأطراف يجد قدرة الله وإتقانه في الخلق والتدبير، يقول تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) وأمر سبحانه وتعالى عباده بالإتقان في جميع الأعمال، يقول تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ) أيها المؤمنون: لقد تميز الإسلام -عقيدة وشريعة، وأخلاقاً وتصوراً للكون والإنسان- بالجودة والإتقان؛ يقول تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) والإتقان في نظر الإسلام هو أن تبذل الجهد، وتتبع أحسن الطرق، وتأخذ بأفضل الوسائل لإنجاز الأعمال المكلف بها، ترجو بذلك ثواب الله ورضوانه ومغفرته؛ فما من عمل يقوم به المسلم إلا ويجب عليه أن يتقن ذلك العمل، سواء كان ذلك في العبادات والطاعات؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وسائر العبادات؛ فالصلاة تحتاج إلى إتقان الوضوء، وحسن الخشوع، والقيام بالأركان والواجبات؛ كما أمر المسلم في كتاب ربه وسنة رسوله  صلى الله عليه وسلم القائل: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)

ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلي، فلا يحسن صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها، فقال له ثلاث مرات: (ارجع فصلِّ فأنك لم تصلِ)

وهكذا في الصيام والزكاة والحج، يقول عليه الصلاة والسلام: (والحج المبرور ليس له جزاءً إلاّ الجنة) فالنفقة الحلال، ورد المظالم، والتوبة من الذنوب والمعاصي، وأداء أركان الحج كما يجب، يعتبر ذلك كله حجاً مبرورا؛ لأن السمة البارزة فيه كانت الإتقان.

ومن ذلك إتقان القول؛ وهو ثمرة من ثمار الإيمان في كل حال، ومع كل إنسان؛ ففي مخاطبة الناس بعضهم مع بعض يجعل المسلم الكلمة الطيبة شعاره وسلوكه؛ وهو نوع من الإتقان، يقول تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ويقول سبحانه: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وحتى في التحية أُمر المسلم بالإتقان، يقول تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً)

عباد الله: إن الإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفاً سلوكياً فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى الرقي والتطور، وعليه تقوم الحضارات ويعمر الكون، وتثرى الحياة.

فالمسئول والوزير والنائب والمدير والرئيس والموظف والعالم والمعلم والصحفي والطبيب والمهندس والقاضي ورجل الأمن والتاجر والعامل والسائق والنجار وعامل النظافة.

كل هؤلاء، يجب أن يتقنوا أعمالهم؛ فلا غش ولا خداع، ولا إهمال ولا تقصير؛ لأن العمل في الإسلام عبادة، وهو إذاً أمانة، وقد حذر المولى سبحانه وتعالى من ذلك، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

كتب وهب بن منبه رحمه الله- وكان على بيت مال المسلمين في اليمن-،كتب إلى عمر بن العزيز رحمه الله، يقول له: (إني فقدت من بيت مال المسلمين مبلغاً من المال) فكتب إليه عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وأنا حجيج المسلمين في أموالهم، ولِأدناهم عليك أن تحلف بالله، والسلام).

عباد الله: لما كان الإتقان والحرص في الأعمال؛ حفظت الأموال، وتطورت البلاد، وازدهرت حضارة المسلمين، وانتشر العلم، وعم الرخاء.. فهذا الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان الإتقان في عمله وإدارة شؤون الناس صفة ملازمة له طوال حياته.

تقول زوجته عاتكة بنت زيد رضي الله عنها: (قلت: يا أمير المؤمنين ( وكان ذلك في عام الرمادة) ! لو نمت، فإنك لا تنام في الليل ولا في النهار، قال: لو نمت في الليل ضاعت نفسي، ولو نمت في النهار ضاعت رعيتي) مرّ يوماً هو وأسلم مولى له إلى خيمة، فوجد امرأة قد وضعت قدراً على النار فيه حصى تسكت صبيانها من الجوع حتى يناموا، ثم قالت: (أواه يا عمر كم قتلت من أطفال المسلمين). وهذا في عام الرمادة، ومن أين ينفق عمر؟ وقد انتهت الميزانية ولم يبق في بيت مال المسلمين درهم واحد، فماذا يفعل؟ أنفق دموعه ووقته، وراسل الولاة، وحث التجار والأغنياء، وأنفق كل ما يملك، حتى أصبح بطنه على المنبر يقرقر جوعاً، فيقول لبطنه: (قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين).

أيها المؤمنون: إن الإتقان في العمل ينبغي أن يكون مبدأ شاملاً لجميع نواحي الحياة، ومطلوباً من جميع أفراد المجتمع، إلا أن التركيز على أصحاب الولايات والمسئولين يأتي من باب المسؤولية الشاملة التي تقع على كواهلهم؛ فالمسئول حين يخطئ أو يقصر لا يضر نفسه، ومن كان قريباً منه فحسب إنما يقع العبء الأكبر على غالبية الناس في المجتمع.. ومن صور الإتقان: وضع الموظف والعامل المناسب في المكان المناسب. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ  يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا ذا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)

عباد الله: إنه ينبغي أن يظهر الإتقان في جميع أعمالنا، وأن يصبح سلوكاً من سلوكياتنا؛ فيظهر إتقان الطبيب في تشخيص الأمراض، ووصف العلاج؛ فكم نسمع ونرى ونقرأ عن أخطاء وإهمال وتقصير أودى بحياة العشرات من الأنفس البريئة؟

ونريد إتقان المهندس والمقاول في بناء العمارات والمساكن والمساجد وتعبيد الشوارع والطرقات. ونريد أن تظهر جودة الصناعات والمنتجات في أسواقنا، لا أن يضرب بها المثل لرداءتها وعدم جودتها.

إن المجتمع يتطلع -أيضاً- إلى إتقان أبنائه في جميع مجالات الحياة؛ حكاماً ومحكومين، عمالاً وموظفين، أفراداً وجماعات؛ وذلك طريق النجاح، وسبب التطور والتقدم.

أيها المؤمنون: يروى أن مقاولاً معمارياً يعمل في مؤسسة عقارية كبيرة، كان متميزاً بجودة بنائه وإتقانه في عمله، فلما كبرت به السن رغب في التقاعد، والعيش بقية حياته بالقرب من عائلته، فتقدم بطلب التقاعد من العمل، وحاول رئيسه أن يثنيه عن هذا القرار، فقدم له زيادة في الراتب، وكثيراً من المغريات، إلا أن المقاول كان قد قرر قراره بالتقاعد دون تراجع، فوافق رئيسه على طلبه شرط أن يقوم هذا المقاول ببناء منزل أخير، فيختم به سجل عمله الحافل، فوافق المقاول على هذا الشرط ولكن على مضض وملل وكره. ولأن المقاول كان يعلم بأن هذا البيت هو آخر بيت يبنيه؛ ولأنه لا يعتبر هذا البيت إلا رقماً صغيراً في عدد البيوت التي بناها، فقد تساهل في العمل ولم يخلص فيه، بل إنه لم يحرص على إتقان صنعته، فجلب له المواد الرديئة، والمعدات الرخيصة، ولم يحرص على إجادة العمل، وأسرع في إنجاز مهمته على حساب الجودة، وكأنه نسي أنه بهذا العمل قد أفسد ما بناه طوال عمره؛ من تميز وإتقان عرف به… وعندما انتهى المقاول من البناء أسرع إلى رئيسه بمفتاح البيت الجديد ليخبره بأنه أنجز ما عليه من مهمة، ولكن رئيسه فاجأه بابتسامة، وقال له: اسمح لي أن أقدم لك هذا البيت هدية من الشركة مقابل إخلاصك وتفانيك في السنوات الماضية… لقد ندم المقاول كثيراً على تفريطه؛ لأنه لو علم أنه يبني منزلاً لنفسه لما تردد أن يضع فيه كامل عصارة خبرته، وأفضل الأدوات والمعدات، ولأعطاه ما يستحقه من وقت وجهد وإتقان.

أيها المسلمون: إن هذا مثال لمن فرط وقصر، وأهمل في عمله، ثم باغته الموت، ونزلت به سكراته؛ فكيف سيكون موقفه بين يدي الله وهو على هذه الحال؟ وما هي ثمرة عمله؟ وكيف سيكون جزاءه عند ربه؟

فلنتقن الأعمال يا عباد الله ولنقم بالواجبات، ولنحذر من التفريط والتقصير في الأعمال، فالمطلع علينا هو رب الأرض والسموات.

اللهم إنا نسألك من العمل أخلصه وأصوبه، ومن الأجر أتمه وأكمله يا سميع الدعاء.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إِنَّ الموظف والعَامِلَ مَطلُوبٌ مِنهُ إِتقَانُ عَمَلِهِ، وَالإِحسَانُ فِيهِ قَدرَ طَاقَتِهِ، وَعَدَمُ التَّحَجُّجِ بِتَقصِيرِ غَيرِهِ أَو تَهَاوُنِ مَن سِوَاهُ. وَالعَاقِلُ يَتبَعُ النَّاجِينَ، وَيَأخُذُ بِطَرِيقِهِم لِيَسلَمَ، وَالجَاهِلُ مَن جَعَلَ إِسَاءَةَ الآخَرِينَ مَدخَلاً لِلتَّكَاسُلِ وَالتَّبَاطُؤِ وَبَخسِ النَّاسِ أَشيَاءَهُم.. أَلا وَإِنَ مِمَّا بلي به كثير من الناس  في زماننا هذا، وجود فِئَاماً مِنَ المُوَظَّفِينَ المستهترين، الَّذِينَ لا يُبَالُونَ بما وَقَعُوا فِيهِ مِن تَقصِيرٍ أَو تَأَخُّرٍ أَو غِيَابٍ، أَو خُرُوجٍ مِنَ وزاراتهم ودَوَائِرِهِم وَمُؤَسَّسَاتِهِم قَبلَ إنهَاءِ مَا كُلِّفُوا بِهِ مِن عَمَلٍ، وَأَداءِ مَا حُمِّلُوهُ مِن أَمَانَةٍ، وَحُجَّةُ أَحَدِهِم أَنَّهُ لم يَأخُذْ حَقَّهُ كَامِلاً، أَو أَنَّ أَجرَهُ وَرَاتِبَهُ لا يَكفِيهِ، أَو أَنَّ جِهتَهُ قَد قَصَّرَت وَلم تُوَفِّرْ لَهُ كُلَّ مَا يَطلُبُ، أَو أَنَّهُ لم يُعَيَّنْ عَلَى المَرتَبَةِ الَّتي عُيِّنَ عَلَيهَا مَن قَبلَهُ. وَلِهَؤُلاءِ يُسَاقُ قَولُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) وَقَولَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلى مَنِ ائتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَن خَانَكَ)… ثم إِنَّ المُوَظَّفَ بِقَبُولِهِ الوَظِيفَةَ وَهُوَ يَعلَمُ دَرَجَتَهَا وَمِقدَارَ رَاتِبِهَا يَعني أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِكُلِّ مَا يَلزَمُهُ فيها، وَعَلَى تَقدِيرِ وُقُوعِ الظُّلمِ عَلَيهِ مِمَّن فَوقَهُ، فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ أَن يَنتَقِمَ مِنهُ بِظُلمِ مَن تَحتَهُ أَوِ الإِسَاءَةِ إِلى مَن وُلِّيَ أَمرَهُم، وَإِنَّمَا الوَاجِبُ عَلَيهِ أَن يَسلُكَ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ لِلتَّغيِيرِ، وَأَن يُعَالِجَ هَذَا المَرَضَ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَسُلُوكِ مَسَالِكِ العَدلِ وَالإِنصَافِ وَإِعطَاءِ الحُقُوقِ، لا بِمَعصِيَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالدُّخُولِ في دَهَالِيزِ الظُّلمِ وَالمُرَاوَغَةِ وَهَضمِ أَهلِ الحُقُوقِ حُقُوقَهُم، وَمَا أَجمَلَ أَن يَكُونَ رَائِدُ المَرءِ في ذَلِكَ قَولَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصحَابِهِ رضي الله عنهم: (إِنَّكُم سَتَجِدُونَ بَعدِي أَثَرَةً، فَاصبِرُوا حَتى تَلقَوني عَلَى الحَوضِ)، وَقَولَهُ: (سَتَكُونُ بَعدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنكِرُونَهَا)، قَالُوا: فما تَأمُرُنا؟! قَالَ: (تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيكُم، وَتَسأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُم)..وَأَمَّا مُقَابَلَةُ الخَطَأِ بِالخَطَأِ، وَتَبَادُلُ التَّظَالُمِ بَينَ العِبَادِ فَإِنَّمَا كُلُّ ذَلِكَ ظُلُمَاتٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ وَزَجٌّ بِالأُمَّةِ في قِطَارِ التَّخَلُّفِ وَحَبسٌ لَهَا عَن رَكبِ الحَضَارَةِ وَالتَّقَدُّمِ.

وَمَا مِن يَدٍ إِلاَّ يَدُ اللهِ فَوقَهَا

وَلا ظَالِمٍ إِلاَّ سَيُبلَى بِظَالِمِ

أَلا فَمَا أَحرَى كُلَّ مُسلِمٍ أَن يَتَّقِيَ اللهَ مَولاهُ، وَأَن يَحذَرَ أَن يَلقَاهُ وَقَد جَعَلَ أَوقَاتَ عَمَلِهِ فُرصَةً لِقَضَاءِ شَهَوَاتِهِ، أَو قَد استَغَلَّ مَنصِبَهُ لِنَيلِ مَآرِبِهِ، أَو قَد قَصَّرَ في خِدمَةِ مَن وُلِّيَ أَمرَهُم، أَو قَد هَضَمَ من تَحتَ يَده حُقُوقَهُم أَو بَخَسَهُم أَشيَاءَهُم!

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله وَاحرِصُوا عَلَى إِتقَانِ العَمَلِ وَأَدَائِهِ كَمَا يَجِبُ وَيَنبَغِي، وَاجعَلُوهُ تَرجَمَةً وَاقِعِيَّةً لِصِدقِ إِيمَانِكُم بِاللهِ وَابتِغَائِكُم مَا عِندَهُ، وَاحذَرُوا مَا بُلِيَ بِهِ بَعضُ المُتَشَدِّقِينَ اليَومَ مِن كَثرَةِ الكَلامِ وَقِلَّةِ العَمَلِ، أَو مَا رُزِئَ بِهِ آخَرُونَ مِن إِضَاعَةِ أَوقَاتِ العَمَلِ في تَصَفُّحِ الجرائد والشَّبَكَاتِ أَو تَبَادُلِ المُرَاسَلاتِ بالهواتف المحمولة، فَإِنَّ الأَمَانَةَ ثَقِيلَةٌ وَالمَسؤُولِيَّةَ عَظِيمَةٌ: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)

اللهم وفقنا لإخلاص العمل الصالح وإتقانه.

اللهم  وفقنا لكل خير، وأعنا على إتقان أعمالنا، فإنك تحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه، اللهم اكفنا  بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك.

اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام..

اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…

اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ومُنجِي المؤمنين، انتصِر لإخوانِنا المُستضعَفين المظلُومين في فلسطين، وفي بلاد الشام،  وفي اليمن، وفي بُورما،وفي كل مكان، اللهم قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكربُ، واشتدَّ عليهم الأمر، اللهم فانتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وارحم شهدائهم، وشافي جرحاهم، وألّف بين قلوبهم، واجمع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمددك، وأيِّدهم بجُندك، وانصُرهم بنصرِك على عدوك وعدوهم.

اللهم أحفظ الأردن وأهله وسائر بلاد المسلمين من كل سوء وبلاء ومكروه،اللهم أرحم من مات أو أصيب في الأمطار والسيول، اللهم أرحم موتاهم واغفر لهم، وألهم أهلهم وذويهم الصبر والسلوان.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير..

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين