الجمعة 21 ذو القعدة 1439هـ
الموافق 3 أغسطس 2018م

الحمد لله عاقب بين الليالي والأيام، ونوع سبحانه وتعالى بين الشهور والفصول والأعوام، نحمده تبارك وتعالى على نعمائه، ونشكره سبحانه على منّه وفضله وعطائه, ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، اتقوا الله واحمدوه على ما أراكم من آياته التي تعرفون بها وحدانيته، وكمال ربوبيته، واستحقاقه للعبادة دون غيره، فإن هذا الكون العظيم كتاب مفتوح، يقرأ بكل لغة، ويدرك في كل لحظة، (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) فهذه السموات رفعها الله بغير عمدٍ ترونها، وهذه الأرض بسطها وذللها، وقال عنهما: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وهذا الليل المهيب، يغشاك يا عبد الله بظلامه وسكونه المريب، فتفزع إلى ربك مستعيذاً بالله من شره، (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) ثم يعقبه صبح يتنفس، مؤذناً ولادة يوم جديد، (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى) وهكذا الحال في مطلع الشمس والقمر وغروبهما، يقول تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) انظر يا عبد الله إلى القمر في السماء وعجائب آياته، كيف يبديه الله كالخيط الدقيق، ثم يتزايد نوره ويتكامل شيئاً فشيئاً كل ليلة، حتى ينتهي إلى كماله وتمامه، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى، ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم وعبادتهم ومناسكهم، فتتميز به الأشهر والسنين.

والشمس آية من آيات الله الباهرة، تشع نوراً وتتوقد ضياءً، فسبحان من أنارها: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

أيها المؤمنون: إن هذه التغيرات في هذه المخلوقات العظيمة لهي رسالة لكل ذي عقل. رسالة واضحة أن هذه الحياة الدنيا لا قرار لها، ودوام حالها من المحال.. فمبناها على الزيادة والنقص، والفرح والحزن، فما تعطيك شيئاً إلا وقد أخذت منك أشياء، تناديك بلسان حالها: (لست لك بدار) وتنبهك بتقلب أحوالها (اعمل لما خلقت له). لو كانت الدنيا لنا يا عباد الله، لكانت لمن قبلنا،يقول سبحانه: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)

إن العاقل البصير يرى في كل ما حوله آية تذكِّره بعظمة الله عز وجل، وتقوده إلى الإخبات والإنابة إلى مولاه، فإن كان مما يوافق رغبته، ويفرح به قلبه، علم أنه مطالب بعبادة عظيمة، عبادة الشكر والاعتراف بالفضل لأهله، ثم سأل الله من فضله. وإن كان بضد ذلك مما يحزن قلبه، ويضيق به صدره تذكر العبادة الأخرى، عبادة الصبر وحبس النفس عما يسخط الله، وانتظر فرج الله وتيسيره لأن مع العسر يسراً. ومصداق هذا في حال قول النبي صلى الله عليه وسلم:(عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: إن الله تعالى خلق لعباده دارين، دار المرور يبقون فيها ما شاء الله أن يبقوا، في أعمار قدَّرها الله لهم، وفاوت بينهم لحِكَمٍ عظيمة، ودار قرار يستقرون فيها (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وجعل ما في الدار الأولى من النعيم يذكِّر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكِّر بألم النار وعذابها.

عباد الله: وإن مما يدعو للاعتبار والتفكر في آيات الله تعالى، ما نعيشه ونواجهه في هذه الأيام، من شدة حرارة الجو الذي ضاقت به صدور أقوام فتذمروا، وربما سخطوا وندبوا حظهم أن كانت بلادهم بهذه الحرارة.

ولكن المسلم العاقل له نظرٌ آخر، نظر الاعتبار والتأمل في بديع حكمة الله تعالى.

وإن لشدة الحر يا عبد الله حكماً ودلالات كثيرة أدعوك في هذا المقام للنظر والتأمل في شيء منها: فمن ذلك : أن الله جعل هذا الحر سبباً لتطهير الأرض، وتنقية الأبدان، وطيب الثمار ونضجها.. ومن ذلك: بيان ضعف هذا الإنسان المخلوق، الذي ربما تكبَّر على بني جنسه، وأخذته العزة بالإثم.. فالواحد منَّا قد لا يستطيع أن يقف الدقائق المتواصلة المعدودة في وهج الظهيرة، وما أن يرتفع النهار حتى يبحث عن مكان يُكِنُّه، ويظلُّه عن الشمس، بل ويبحث لسيارته كذلك  عن مكان ظليل .. وربما اعتذر عن دعوة يدعى إليها بأن الحر شديد، وآثر أن يبقى في بيته حتى لا يتأذى بشدة الحر. ولا يقبل أن يشرب ماء إلا أن يكون مبرداً يدفع به ظمأ الهاجرة. وبعض الناس ربما تغيرت أحوالهم، قل وساءت ألفاظهم لا لشيء إلا لأن الجو حار. بل وصلت الحال أن يموت أقوام في بعض البلاد بسبب شدة الحر.. أليست هذه يا عباد الله أمثلة تبين لك ضعف هذا الإنسان، وقلة حيلته؟!.(اللهمَّ عاملنا برحمتك وعفوك)

أيها المسلمون: ومن دلالات وحكم شدة الحر، ما ثبت في الصحيحين من حديث أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الْحَرِّ من سموم جهنم، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ البرد من زمهرير جهنم) إن هذه التقلبات الكونية من حر وبرد تدل على صنع الخالق جل وعلا وتذكر بعظمته؛ فما في الدنيا من نعيم وراحة فيدل على كرم الخالق وفضله وإحسانه وجوده ولطفه، وما فيها من نقمة وشدة وعذاب فيدل على شدته عزّ شأنه وبأسه وبطشه وقهره وانتقامه، وكذلك فما فيها من اختلاف الأحوال يذكّر العباد بأن هذه الدار الفانية ممزوجة بالنعيم والآلام، فما فيها من النعيم يذكّر بالجنان، وما فيها من الألم يذكر بالنيران، نعوذ بالله من ذلك، يقول سبحانه حاكياً عن المنافقين: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)

عباد الله: ومن الحكم والدلالات في شدة الحر أن يتذكر الإنسان وهو يمسح العرق عن جبينه، ويزيل أذيَّته بمنديله، أن يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تُدْنَى الشَّمْسُ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيل، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهمْ في العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَكون إِلى حِقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ العَرَقُ إِلجاماً، قال الراوي: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّه ﷺ بيده إِلى فِيه. أجل يا عباد الله. إن أشد ما نجده من الحر هو من فيح جهنم، هكذا أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر الغيبي، الذي يبعث في النفس المؤمنة مزيد إيمان وتصديق. فشدة الحر تذكِّر يا عباد الله بمصير الكافرين، والجاحدين، والعاصين في نار جهنم وهم يصطرخون فيها.. ولئن اجتهدنا في اتقاء هذا الحر الدنيوي أو تخفيفه، فزودنا بيوتنا ومساكننا وسياراتنا ومكاتبنا بوسائل التكييف والتبريد، وهذا حسن منَّا إن شاء الله ومطلوب، ولكن ما هو اجتهادنا في اتقاء الحر العظيم والسموم المقيم (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّاً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ)، قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:(فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءاً كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا) ولقد جعل الله نارنا هذه نار الدنيا جعلها الله تذكرة لنار الآخرة، (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ) فيا من تتلى عليه أوصاف جهنم، ويشاهد تنفسها كل عام مرة أو مرتين  حتى يحس به، وهو مصرٌ على ما يقضي دخولها، ألك صبرٌ على سعيرها وزمهريرها؟ (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)

عباد الله: لقد كان سلفكم الصالح رضوان الله عليهم، يتفكرون في تقلبات الزمن، ويعتبرون باختلافات الدهر، فيحدث لهم ذلك عبادة وتقرباً إلى الله؛ يقول بعضهم: ما رأى العارفون شيئًا من الدنيا، إلا تذكروا به ما وعد الله به من جنسه للآخرة. إنه التفكر الذي يقود لصالح العمل، ويجعل العبد من عذاب ربه على وَجل، رُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه: يكثر من الصيام في الصيف. ووصَّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته ابنه عبد الله، فقال له: عليك بخصال الإيمان، وسمى أولها الصوم في شدة الحر. وقال القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها، تصوم في الحر الشديد، قيل له: ما حملها على ذلك؟! قال: كانت تبادر الموت (أي تستعد له). وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه، يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر، وصلاة الليل، وحلق الذكر، وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يتوخى اليوم الحار الشديد الحر فيصومه، ويقول: إن الله قضى على نفسه أن من عطش نفسه لله في يوم حار، كان حقًّاً على الله أن يرويه يوم القيامة.. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: صوموا يوماً شديداً حرُّه لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.. وكانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرّاً فتصومه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إن السعر إذا رخص اشتراه كلُّ أحد. تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليلٌ من الناس لشدته عليهم.. وصبّ بعض الصالحين على رأسه ماءً من المغتسل، فوجده شديدَ الحر فبكى وقال: ذكرت قوله تعالى: (يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) ..

وقد كان بعض السلف رحمهم الله إذا انصرف من الصلاة يوم الجمعة في شدة الحر، تذكر انصراف الناس يوم القيامة، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن القيامة تقوم يوم الجمعة، ولا يأتي منتصف ذلك النهار، إلا وقد أقال أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار, ويتذكر ويتلوا قول الله تبارك وتعالى: (أصحابُ الجنَّة يومئذٍ خيرٌ مُستَقَرًّاً وأحسنُ مَقيلاً)  فهذه يا عباد الله أحوال عجيبة عظيمة، من أحوال سلفكم الصالح في الصيف والحر، فإذا كان الكثير منا لا يستطيع أن يجاريهم في هذه الأحوال الكريمة والصفات العظيمة، فلا أقلَّ من أن يحافظ على أوامر الله تعالى ويحفظ حدوده وتعاليمه.

اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَل، وَنعوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَل برحمتك يا أرحم الراحمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله أبان لعباده من آياته ما به عبرةٌ للمعتبرين، وهداية للمهتدين؛ وجعل في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار آيات للمتقين. ونشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن شدة الحر ليست عذراً في التكاسل عن واجب، ولا في الوقوع في محرم، بل ولا في التهاون والتخلف عن مستحب، ولقد كان الصحابة رضي الله عنه يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، أي: في وقت نشاطهم وإقبالهم، ووقت كُرههم وإدبارهم، ومن ذلك ما قد يلحق بعض النفوس من فتور ورغبة عن الخير بسبب شدة الحر.. والأجر على قدر النصب والتعب. وإن السلف الصالح لم يعرفوا شيئاً مما عرفناه من وسائل الراحة والتكييف، والتبريد، وكانوا أحرص الناس على العبادة، وكانت مساجدهم المفروشة بالحصباء، والمسقوفة بالجذوع والسعف، تمتلئ بهم ويحضر إليها صغيرهم قبل كبيرهم، وبلغت بهم الحال إلى ما حدَّث به خَبَّاب بن الأرت رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ،…يعني في أرجلهم إذا قاموا للصلاة. وقال أَنَسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الأَرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ)

وحدَّث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنهم يجمعون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يصلون الجمعة، إذا زالت الشمس ثم يرجعون يتتبعون الفيء أي الظل، وما ذاك إلا اتقاء لحر الشمس…

ولو ذهبنا نستعرض شيئاً من هديه صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه، وكيف كانت همتهم في عبادة ربهم، وأنه لم يعقهم عن ذلك شدة حر، مع أخذهم بالأسباب المباحة لتخفيف شدته، فمن ذلك: ما حدَّث به أَبو الدَّرْدَاءِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَ عبد الله ابْنِ رَوَاحَة) وروى مالك في الموطأ عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصب الماء على رأسه من العطش أو من الحر) يعني وهو صائم.. بل إن شدة الحر لم تمنع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه من الخروج للجهاد، ذروة سنام الإسلام، ففي صيف العام التاسع من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثون ألفاً من أصحابه مستجيبين لقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا) خرجوا لغزوة تبوك ولم يتخلف عن هذه الغزوة إلا منافق مغموس في نفاقه، أو رجل ممن عذر الله من الضعفاء؛ وأما ظروف هذه الغزوة فاستمع إلى ما قاله كعب بن مالك في ذلك. قال: (وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيراً) فهذه يا عباد الله إشارات تدلكم على أن شدة الحر، فيه من آيات الله الشيء الكثير، وإنه لم يكن مانعاً يوماً من الدهر عن عمل صالح، وهكذا شأن أصحاب العقيدة، والإيمان الراسخ لا يفرحون بالثمار والظلال، بل يؤثرون الحر والظمأ والجوع في سبيل الله، فهي غنيمتهم التي يدخرونها لآخرتهم. فاعتبروا وتأسوا بحال نبيكم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن سار على دربهم من السلف الصالح.

واعلموا أن ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه.

اللهمَّ قنا برحمتك عذاب الجحيم، واجعل منازلنا ووالدينا وأولادنا وذرياتنا وأزواجنا  والمسلمين في جناتك جنات النعيم. اللهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ منه عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ وعبادك الصالحون، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا استعَاذَك مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ محمد وعبادك الصالحون، اللهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَنسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ تَقْضِيهِ لِنا خَيْراً. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان  وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير. اللهم وألف بين قلوبنا رعاة ورعية، وأحفظ جيشنا ورجال أمننا،  واجعلنا صفاً واحداً على كل من أراد الشر لبلادنا يا أرحم الراحمين. اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصرا ومؤيدا،اللهم كن لهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي بورما وفي كل مكان… اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير.. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون، ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين