الجمعة 7 جمادى الآخرة 1439هـ
الموافق 23 فبراير 2018م

الحمدُ للهِ الذي أَبَانَ لخلقِه الهُدى والسَّداد، وهدى أولياءَه للصِّراطِ المستقيمِ وسَبِيلِ الرَّشَادِ، نحمدُه سبحانه ونشكرُه على ما أَسْبَغَ مِنَ النِّعَمِ وأَعَادَ، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يَهدي من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد. ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه، أفضل المرسلينَ وأكرم العباد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يوم التناد.
أما بعد:فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)
معاشر المسلمين: لقد حرص الإسلام على أن يعيش أبناؤه في ترابط وتعاون وتكافل وتناصر واتحاد؛ حتى يسود المجتمعَ الأمنُ والأمان، والمحبة والحنان؛ الحقوق محفوظة ومصونة، والواجبات معروفة ومطلوبة، من شأنها أن تشد الروابط بين المسلمين، وتزيد الألفة فيما بينهم في مشارق الأرض ومغاربها، وتحفظ وحدتهم، وتصون كرامتهم، وتحفظ حقوقهم.
ذلك أن المؤمن شأنه أن يعيش عزيزاً؛ فهو يحمل رسالة عظيمة، وينتمي لأمة عظيمة، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعظم الرسل، وبقدر تمسك الفرد منا بهذه القيم والواجبات، وجعلها نظام عمل في هذه الحياة، بقدر ما يكون قريباً من الله، قريباً من خَلقه…
عباد الله: ولعل من أهم الواجبات والحقوق، التي على المسلم لأخيه المسلم، ما ورد في حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وإتباع الْجَنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوِ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ.. الحديث)
فأين نحن عباد الله من القيام بهذه الحقوق والواجبات، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نعم ! قد نقوم ببعض هذه الحقوق مع تقصيرنا الشديد فيها، فمنا من قد يزور مريضاً، وآخر قد يشيع جنازة، ويشمت عاطساً، وآخر قد يجيب الداعي ويبر القسم؛ لكن، أين من ينصر مظلوماً في هذا الزمان؟ وما أكثر المظلومين في زماننا! وكم يرى الناس من إنسان ينتهك عرضه، وتداس كرامته، ويسلب ماله، ويسفك دمه، ثم لا يجد من ينصره أو من يقف بجانبه! وأصبح هذا الحق والواجب ضائعاً وغريباً في حياتنا.
يقول جل وعلا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِماً عِنْدَ مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِماً فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ، أَذَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ومعنى قوله (لا يسلمه) أي: لا يتركه مع من يؤذيه ويعذبه ويهينه ويقتله، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم. فالنصرة إذن حق أساسي من حقوق الأخوة ومقتضياتها العملية.
أيها المؤمنون:أنظروا إلى حال كثير من المسلمين في هذا العصر والزمان، في بعض البلدان كيف يمارس الظلم على المستضعفين منهم، ويستغيث هؤلاء بإخوانهم، ولا يجدون من يتحرك لنصرتهم وإعانتهم، ويأخذ لهم حقهم، ولو حتى بأبسط أدوات النصرة ووسائلها!. بالكلمة، والنصيحة، والزجر، والدلالة على الخير، وبذل المعروف، وكف الأذى عن صاحب المظلمة؛ والدعاء للمظلومين، أو على الأقل أن يشعر المرء بتأنيب الضمير، ويعتذر إلى الله بضعفه وعدم قدرته.. ولكن تجد الكثير منا إلا من رحم الله، يتفرج ويشاهد ويسمع ولا يتأثر أو يحس، أو على الأقل لا يتمعر وجهه غضباً لله وإنكاراً لهذا المنكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. ولذلك تضيع حقوق، وتهدر كرامات، ويشيع الظلم، ويعم البلاء، وتتعدد المظالم، ويكثر الظلمة، ويتطاول الإنسان على أخيه الإنسان دون خجل من الله أو حياء من عباد الله… إن هذا الموقف السلبي لا يمكن أن يكون مقبولاً من أحد -حاكماً كان أو محكوماً- في دنيا المسلمين وحياتهم، فقد روي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وتضعونها على غير موضعها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَقُولُ:( إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ) إن نصرة المظلوم من الفروض الكفائية فإذا قام بها البعض وتمت النصرة سقطت عن الباقين في المجتمع المسلم، وإذا لم يقم بها أحد أثم من كان مستطيعاً وعنده القدرة على ذلك.
وانظروا رحمكم الله إلى التأريخ وهو يحدثنا عن موقف إنساني فذ فريد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم- قبل بعثته، أعطاه القيمة الكبرى بعد البعثة، وهو موقفه في حلف الفضول، وحلف الفضول كان تجمعاً وميثاقاً إنسانياً تنادت فيه المشاعر الإنسانية لنصرة الإنسان المظلوم، والدفاع عن الحق المضيع، لم تحدثه سلطات، ولا قوى دولية، بل أنشأته قوى اجتماعية بدوافع إنسانية، وإحساس وجداني عميق بضرورة نصرة المستضعفين والمظلومين. لنستمع للتأريخ، وهو يروي لنا قصة هذا الحدث الحضاري الكبير في عالم الإنسان:تروي كتب التاريخ والسير ما نصه: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الكَلَّ ويعين على نوائب الحقِّ، وينتصر للمظْلوم، وقد شَهِد حِلْفً الفضول في الجاهليَّة، وقد جاوز عمره العشرين، من أجل نُصْرَة المظْلوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في ذلك الحلف: (شَهِدت حلف المطَيَّبين مع عُمُومَتي وأنا غلام؛ فما أحبُّ أنَّ لي حُمْر النَّعم وأنِّي أنكُثه، ولَو دُعيتُ بهِ في الإسلامِ لأجَبتُ) الله أكبر، إن ذلك الموقف الصادر عن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- ومثله الموقف في حلف الفضول، يؤكد أنّ الدفاع عن الحق، ونصرة المظلوم مسؤولية يسأل عنها الإنسان القادر على القيام بها تجاه المظلومين والمضطهدين، وبغض النظر عن عقيدة المظلوم أو مذهبه أو لغته أو طبقته الاجتماعية أو انتمائه السياسي..
ورد في السيرة النبوية (أن قبائل من قريش تداعت إلى حِلْف، فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشَرَفه وسنِّه، فكان حِلْفهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطَّلب، وأسد بن عبد العزَّى وغيرهم، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكَّة مَظْلوماً من أهلها وغيرهم -ممَّن دخلها من سائر النَّاس- إلا قاموا معه، وكانوا على مَن ظَلَمه حتى تُرَدَّ عليه مَظْلمته، فسمَّت قريشٌ ذلك الحِلْف: حِلْف الفُضُول)
عباد الله: والقائم بخلق النصرة يجب أن يكون الباعث على قيامه بهذا الخلق قصد وجه الله تعالى، ومنع الظلم بأنواعه، وتحقيق العدل على جميع الناس، وإعانة الفقراء والمحتاجين على لوازم الحياة الكريمة، فلا ينتصر لعرق أو حزب أو طائفة، أو ينصر أحداً لطلب مال أو شرف أو جاه، فكل ذلك من خصال الجاهلية، وطباع البهيمية السافلة، يقول تعالى في قصة ذي القرنين: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً)
أيها المؤمنون: كل مسلم مظلوم في دينه أو في دنياه، أو معتدى عليه في نفسه أو في أهله أو ماله، فهو أهل للنصرة، يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) ويلحق بالمسلم في وجوب النصرة أهل الذمة والمعاهدون في دار الإسلام، و كل مستضعف في الأرض أيا كان دينه أو جنسه أو لغته.
أيها المؤمنون: وللنصرة في الإسلام صور متعددة وأنواع مختلفة، منها النصرة الإغاثية وتكون بتوفير ما يحتاج إليه المعتدى عليه من طعام أو شراب أو دواء وغير ذلك من ضرورات الحياة.. والنصرة الإعلامية، ونعني بها الإعلام بالظلم الواقع على المظلومين والتشهير بجرائم الظالمين، بالصوت والصورة، أو بالقلم والريشة، أو بالنثر والقافية , وبكل وسيلة إعلامية متوفرة… والنصرة السياسية، وهي التدابير الكفيلة بنصرة المظلوم، مما يقوم بها الحكام والقادة وأهل الحل والعقد من المسلمين، من إدانة الظلم وملاحقة الظالمين وسن القوانين الصارمة لرعاية الحقوق، ثم تسخير جميع أجهزة الدولة في تحقيق ذلك. يقول تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)
ومنها النصرة العسكرية، وتكون بقتال الظالمين المعتدين على حقوق الناس والمنتهكين لأعراضهم، أو بإعانة المعتدى عليهم ومدهم بما يدفعون به الظلم، يقول تعالى (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) ومنها النصرة بالدعاء، وهي من أهم أنواع النصرة وأنفعها للمنصور، وأفتكها بالمنصور عليه، وهي مع ذلك ذات طبيعة إيمانية لا يمارسها إلا أهل الإيمان بالله عكس الأنواع الأخرى من النصرة، ويدل عليها قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى هذه الوسيلة الناجعة لنصرة المظلومين،فقد كان يدعو في القنوت،( اللهم أنج فلان بن فلان وفلان بن فلان، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطئتك على الظالمين، اللهم سنين كسني يوسف) وغير ذلك من الأدعية.
يقول صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ : اللهُ أَكْثَرُ) : أي أن الله أكثر إجابة من دعائكم… ومع ذلك فإن بعض الجهلة أصلحهم الله وضعاف الإيمان من المسلمين يهونون من شأن الدعاء والله المستعان. فاللهم وفقنا إلى كل خير وأهدنا سبلنا، واجعلنا من الراشدين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: لقد كان خلق النصرة للمظلوم، من أبرز وأظهر الأخلاق عند المسلمين حكاماً ومحكومين، ألم يجهز الخليفة العباسي المعتصم رحمه الله جيشاً عظيماً يوم عمورية، لأن الخبر بلغه عن طريق التجار والركبان، أن رجلاً من الروم لطم امرأة مسلمة فنادت: وامعتصماه! فاقتص لها الخليفة ممن ظلمها؟!.
وتصل رسالة إلى الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من أسير للمسلمين في سجون الصليبيين في مدينة القدس، بعد أن سقطت بأيديهم، قال فيها:
يَا أَيُّهَا المَلِكُ الذي، لِمَعَالِمِ الصُّلْبَانِ نَكَّس
جَاءَت إِلَيْكَ ظُلامَةُ، تَسْعَى مِنَ البَيْتِ المُقَدَّس
كُلُّ المَسَاجِدِ طُهْرَت، وَأَنَا عَلى شَرَفِي أُدَنَّس
فسار بجيشه، ودخل المسلمون بيت المقدس، وطهروه من الأعداء المعتدين، ونادى المسلمون بالأذان، ووحدوا الرحمن، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتنزلت البركات، وتجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون.
وأحضر منبر نور الدين زنكي الشهيد عليه رحمة الله، الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان على يدي تلميذه صلاح الدين، ورقِيَ الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحداً وتسعين عاماً، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قرأ قول الله تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وقوله تعالى: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )
عباد الله: ولما تولى أبو يوسف يعقوب بن يوسف المنصور خلافة الموحدين بعد استشهاد أبيه مجاهداً ضد النصارى في الأندلس، وذلك في جمادى الأولى سنة ثمانين وخمسمائة بعد الهجرة، وصلته رسالة من المسلمين الذين هجم عليهم ألفونسو الثامن ملك قشتالة ودمر بيوتهم وقتل الرجال وسبى النساء، حتى كتب ألفونسو الثامن خطاباً يدعوه فيه إلى القتال سخرية واستهانة بالمسلمين.. فلما قرأ أبو يوسف الخطاب كتب على ظهر رقعة منه، وقال للمبعوث: ارجع إليهم؛ فوالله الذي لا إله غيره، لنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، الجواب ما ترى لا ما تسمع.
وخرج بجيشه واتجه إلى بلاد الأندلس، والتقى بجيش الفرنجة في موقعة الأرك في التاسع من شعبان سنة أحدى وتسعين وخمسمائة بعد الهجرة… وانتهى يوم الأرك بهزيمة النصارى على نحو مروع، وسقط منهم في القتال ثلاثون ألف قتيل، وأسروا عشرين ألفاً، وغنم المسلمون معسكر الأسبان بجميع ما فيه من المتاع والمال، واقتحموا عقب المعركة حصن الأرك، وقلعة رباح المنيعتين..
هكذا كانت أخلاق المسلمين، نجدة وعزة وكرامة وهيبة وقوة وشجاعة ونصرة للمظلوم، فهل من وثبة لنصرة المظلومين في أقطار الأرض ودول العالم التي يتعرض فيها المسلمون للقتل والسجن والحرب والتفجير والتعذيب والانتقاص من الحقوق وإهدار الكرامات؟ سواء كانت هذه الأفعال من الظلمة والطغاة في مجتمعات المسلمين أو حتى من قبل الأعداء المتربصين بالأمة.. ولا بد لهذه النصرة من قوة إيمان، وصدق مع الله، ووحدة تجمع بين القلوب، وقوة تحمي الحق، وتصون العرض، وتردع الباغي والظالم.. ولا بد أن يبعث هذا الخلق في المجتمعات وبين الأفراد، ليقام الحق، ويسود العدل، ويتعاون الجميع، وتتآلف القلوب. فاللهم انتقم من الظالمين بالظالمين، وأخرج المسلمين من كيدهم سالمين، اللهم ارزقنا نصرة المستضعفين المظلومين في كل مكان، اللهم أيد المسلمين بتأييدك، ووفقنا بتوفيقك، يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ وَرَئِيْسَ وُزَرَائِهِ خليفة بن سلمان وَوَلِيَّ عَهْدِهِ سلمان بن حمد الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ، وَسَدِّدْ عَلَىَ طَرِيْقِ الْخَيْرِ خُطَاهُمْ، وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَارَبْ الْعَالَمِيْنَ.. اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…
اللهم لقد أنقطع الرجاء إلا منك، وخاب الظن إلا فيك، وقل الاعتماد إلا عليك، نسألك يا الله أن تفرج عن أهلنا في سوريا والغوطة، ولا تكلهم إلى غيرك طرفة عين، اللهم ارحم ضعفهم وتول أمرهم وفك الحصار عنهم، واحقن دمائهم، وأحفظ أطفالهم ونسائهم وشيوخهم ورجالهم ورد عنهم كيد الكائدين، وعدوان المعتدين من الطغاة والمجرمين، اللهم عليك بعدوهم، فإنهم لا يعجزونك، اهزمهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم.
اللهم لا تؤاخذنا على تقصيرنا فإنا لا نملك إلا الدعاء فاستجب دعاءنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نستودعك أهلنا في فلسطين وفي سوريا وفي اليمن وفي أراكان وفي كل مكان اللهم أحفظهم بحفظك من كل سوء ومكروه، ولا تسلط عليهم من لا يخافك ولا يرحمهم.
اللهم إنك تعلم أنه لا حول لنا ولا قوة، فانصر المظلومين على من ظلمهم وبغى عليهم، اللهم فقد قل الناصر واستبد الآسر وضاقت الدنيا بما فيها على إخواننا وليس سواك يارب قادر. اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.. اللهم نور على أهل القبور من المسلمين قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وإيتآء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين