الجمعة 23 جمادى الأولى 1439هـ
الموافق 9 فبراير 2018م

الحمد لله الكريم الوهاب، خلق خلقه من تراب، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، خير من صلى لربه وأناب صلى الله عليه وعلى آله والأصحاب ومن سار على نهجهم واتبع طريقهم إلى يوم الحساب وسلم تسليما كثيراً.
أمّا بعد: فيا عباد، الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
معاشر المسلمين: مع خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وأدب من آدابه العظيمة؛ إذا تخلق به العبد اطمأن قلبُه، وهدأت نفسُه، ونعِمَ بالراحة باله، وسلمت من الحرام جوارحُه. مع خلق من أخلاق الأنبياء، وسمة من سمات الأتقياء، وصفة من صفات أهل الفوز والفلاح، مع خلق القناعة، وما أدراك ما القناعة، ما أحوجنا إلى القناعة، وما أحوجنا إلى الرضا بما قسم الله، في زمن تكالب فيه كثير من الناس على الدنيا، وانغمسوا في شهواتها، في زمن كثر فيه التسخط والتذمر والتشكي، وضعُف فيه الرضا بما قسَم وقدر ربّ العالمين سبحانه.. فهل فشا الجشع والطمع إلا عندما غابت القناعة؟ وهل اكتوت المجتمعات بنيران الحسد والكراهية والبغضاء إلا بسبب فقدان القناعة وهل كثرت الصراعات والنزاعات والسرقات إلا بسبب غياب القناعة في المجتمع؟
والقناعة هي الرضا بما أعطاه الله، وكتبه وقسمه.. القناعة استغناء بالموجود، وترك للتشوف إلى المفقود…القناعة استغناء بالحلال الطيب عن الحرام الخبيث.. القناعة أن يكتفي المرء بما يملك ولا يطمع فيما لا يملك.. القناعة امتلاء القلب بالرضا، والبعد عن التسخّط والشكوى.
فليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رُتَب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.
كما أن القناعة لا تعني بالضرورة أن يكون العبد فقيراً، فالغني أيضاً في حاجة إلى قناعة، كما أن الفقير في حاجة إلى قناعة؛ وقناعة الغني أن يكون راضياً شاكراً، لا جاحداً ظالماً، قناعته أن لا تَلجَ أمواله إلى قلبه، حتى يصبح عبداً لها. قناعته أن لا يستعلي بماله على الفقراء، وأن لا يوظف ماله في الاستيلاء على ممتلكات الآخرين والاعتداء على حقوقهم.
فكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا يغشّ في تجارته، ولا يمنَع أُجَراءَهُ حقوقَهم، ولا يذلّ نفسه من أجل مال أو جاه، ولا يمنع زكاة ماله؛ إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون… وقناعة الفقير أن يكون راضيا بقسمة الله، مستسلماً لأمر الله، لا ساخطاً ولا شاكياً، ولا جزعاً من حالِه، ولا غاضباً على رازقه. قناعته أن لا يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، قناعته أن يكون عفيفاً متعففاً، وأن لا يرتكب الحرام من أجل الحصول على لقمة العيش. فكم من مستور يجد كفافًاً؛ قد ملأ الطمع قلبه، ولم يُرْضِه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضِب على رازقه، وبثّ شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم ليُغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهماً ولا فلساً.. والقناعة شفاء ودواء؛ شفاء من داء الجشع والطمع، شفاء من الهموم والأحزان، شفاء من الكراهية والحسد، شفاء من نهب الأموال والاعتداء على الممتلكات.
فمَن عُدِم القناعة ازداد تسخّطه وقلقه، وحُرِمَ من الرضا بما رزقه الله وآتاه. وحينئذ لا يُرضيه طعام يُشبعه، ولا لباس يواريه، ولا مركب يحمله، ولا مسكن يؤويه: (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) كما صح بذلك الحديث، يبحث عن المال في كل مكان، يخلط بين الحلال والحرام، بل ربما كان ماله كله من الحرام لأنه لا يقتنع بما هو حلال.
أيها المؤمنون: ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلمَ على القناعة، وبيّن أنها طريق إلى السعادة والفلاح، فقال عليه الصلاة والسلام: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ) وقَالَ صلى الله عليه وسلمَ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)
فلماذا التسخط ولماذا التذمر؟ ولماذا التشكي؟ وأنت آمِن في نفسك ومالك وأهلك، معافى في بدنك، عندك قوتُ يومك، بل قوتُ عامٍ أو يزيد؟ لكنه الطمع الذي استولى على كثير من القلوب، فلم تعد تقنع لا بالقليل ولا بالكثير.. وهذا ما حذرنا منه نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام حينما قال: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ الْتَمَسَ مَعَهُ وَادِياً آخَرَ وَلَنْ يَمْلَأَ فَمَهُ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) أيها المسلمون: وللقناعة طرق ووسائل وأسباب تعين على اكتسابها، ومن ذلك:
أولاً- الإيمان الجازم بأن الله تعالى هو الرزاق، كتب الأرزاق قبل أن يخلقَ العِباد، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها. فهل مِن أحد يرزق العبادَ غيرُه سبحانه؟ وهو القائل: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ورسول الله صلى الله عليه وسلمَ يقول: (أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ) فلماذا الطمع؟ ولماذا الجشع؟ يقول عامر بن عبد قيس رضي الله عنه: أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا قَرَأْتُهُنَّ مَا أُبَالِي مَا أُصْبِحُ عَلَيْهِ وَمَا أُمْسِي، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) وَقَوْلُهُ تعالى : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) وقوله (وسَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)
ثانياً- ومن وسائل اكتساب القناعة تذكّرُ العبدِ أن الدنيا إلى زوال وأن متاعها إلى فناء: ليعلمِ العاقل أنّ كل حال إلى زوال، فلا يفرح غنيّ حتى يطغى ويَبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم، ولا غنى يدوم! وكم من رجال نشأوا على فرش من حرير، وشربوا بكؤوس من ذهب، وورثوا كنوزا من المال، وأذلوا أعناق الرجال، واستعبدوا الأحرار من الرجال والنساء! فما ماتوا حتى اشتهَوْا فراشًا خَشِنا يقي الجنب عَضّ الأرض، ورغيفًا من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع! وآخرون قاسوا المحن والبلايا وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام! فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت لهم الخيرات، وصاروا من سراة الناس! وسيسوي الموت بين الأحياء جميعا: الغني والفقير؛ فدُود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير، ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطر غني بغناه.
فما أجمل القناعة، وما أسعد أهلها! لو تحلى بها الناس لزالت منهم الضغائن والأحقاد، وحفت بينهم الألفة والمودة؛ فإنّ ما يقع فيه الناس من خلاف وشقاق سببه الدنيا والتنافس عليها سببه ضعف القناعة والرضا في القلوب وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلمَ حينما قال: فوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عليكُمْ ولكنِّي أَخْشَى أن تُبْسَطَ الدُّنْيا عليكُمْ كما بُسِطَتْ على مَنْ كَانَ قبلَكُم، فَتَنافَسُوها كَما تَنافَسُوها، فتُهْلِكَكُمْ كما أهلَكَتْهُم) فهل من مدّكر؟ وهل من معتبر؟ يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده. (أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)
ثالثاً- ومن وسائل اكتساب القناعة، أن ينظر المرء إلى من هو أقل منه في المال والمنصب والجاه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه في ذلك، فقد علمنا ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلمَ- في قوله (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ)،وفي رواية: قَالَ (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَنْ فَوْقَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْحَسَبِ).
عباد الله: وليس في الدنيا أحد لا يجد مَن هو أفضل منه في شيء، ولا مَن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك! وإن كنت مريضاً ففي الناس من هو أشد منك مرضاً. وإن كنت ضعيفا ففي الناس من هو أشد منك ضعفاً. فلماذا تَرفعُ رأسَك لتنظرَ إلى مَن هو فوقك، ولا تخفِضُه لتُبصِرَ من هو تحتك؟!
رابعاً- ومن وسائل اكتساب القناعة : تربية النفس على الاقتصاد في الإنفاق وعدم الإسراف والتبذير: فقد قال سبحانه: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) وقال عز وجل في صفات عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)
خامساً- ومن وسائل اكتساب القناعة: الاعتقاد بأن الله سبحانه جعل التفاوت في الأرزاق بين الناس لحكمة يعلمها: فلله سبحانه وتعالى حكمة في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والمصالح، ويخدم بعضهم بعضًا، يقول الله -تعالى-: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ويقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)
فالذي يعترض على قسمة الله معترض على علمه وحكمته، وهذا جهل وضلال، فإن الذي خلق الخلائق هو أعلم بمصالحهم ومنافعهم، وقد قال سبحانه: (وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)
سادساً: ومن وسائل اكتساب القناعة: العلم بأن الفقر والغنى ابتلاء وامتحان: فالفقير ممتحن بفقره وحاجته والغني ممتحن بغناه وثروته، وكل منهما مسئول وموقوف بين يدي الله عز وجل، يقول سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ويقول صلى الله عليه وسلمَ أنه: (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ) وكما أن الفقر ابتلاء، فكذلك الغنى ابتلاء وامتحان؛ يقول تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)، ويقول سبحانه:(وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) ويقول نبينا صلى الله عليه وسلمَ: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : عَنْ عُمُرِهِ، فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ أكتسبه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ)
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: إن أعظم نموذج في القناعة والرضا:هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلمَ، فهو القدوة والأسوة في كل خلق جميل، فلقد كان عليه الصلاة والسلام قنوعاً زاهداً راضياً صابراً محتسباً، كان أبعدَ الناس عن ملذات الدنيا، وأشدهم رغبة في الآخرة. وكيف لا يكون كذلك، ورب العالمين سبحانه يخاطبه بقوله: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ، زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وقد كان صلى الله عليه وسلمَ يستعيذ بالله من نفس طمّاعة لا تشبع، فكان يقول في دعائه: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، ومِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ) فيا مَن تشكو من توالي الهموم والأحزان، من قلة المال، من الفقر والحاجة: كن راضياً صابراً محتسباً قنوعاً، ولتكن لك في رسول الله أسوة حسنة، وقدوة طيبة؛ انظر إلى طعامه، وانظر إلى فراشه ولباسه، وانظر إلى مسكنه، لتدرك أنك في نعم كثيرة وخيرات وفيرة.
فأما طعامه ومأكله صلى الله عليه وسلمَ، فغاية في القناعة والبساطة؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ فسئلت : فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ؟ قَالَتْ : الْأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ (أي الأبل) فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ)
عباد الله: وأما فراشه صلى الله عليه وسلمَ،فقد كان من أدَم،(أي من جلد مدبوغ) وحشوه من ليف(أي من قشر النخيل) وعن عبدِ اللَّه بنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّه عنه، قَالَ: نَامَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَلَى حَصيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الَّله لوِ اتَّخَذْنَا لكَ وِطَاءً، فقال:(مَالي وَلَلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)… وكانت حجرات بيته صلى الله عليه وسلم من جريد النخل، مغطاة من الخارج بكساء من الشعر، وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلمَ أهله على القناعة، بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا، حينما خيّرهن بين الإمساك على ذلك، أو الفراق والتمتع بالدنيا؛ فاخترن رضي الله عنهن الله ورسوله والدار الآخرة، وصبرْن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة المال، طمعاً في الأجر العظيم من الله الكريم…
وعلى القناعة أيضاً ربى النبي صلى الله عليه وسلمَ أصحابه فكانوا أصحاب قناعة ورضا فما كانوا يتنافسون على الدنيا، ولا يتنازعون حولها، وإنما كانوا يتنافسون في الخيرات والطاعات تركوا ديارهم وأموالهم وأراضيهم في مكة وما حولها ليهاجروا إلى الله ورسوله إلى المدينة النبوية، حيث لا مال لهم هناك ولا أهل ولا متاع، فكان منهم من يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع وقد كان في مكة يأكل أشهى الطعام وألذ الطعام، وكان منهم من لا يجد من اللباس إلا ما يستر عورته وقد كان في مكة يلبس أفخر الثياب وأجملها فأي قناعة أعظم من هذه؟
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الرزق مقسومٌ ولن يعدو المرء ما قسم له، فأجملوا في الطلب، فإن في القُناعة سعةً وبلغةً، وكفاية وراحة، وما ترونه من متاع الدنيا ذاهبٌ وزائل، وما مضى كأن لم يكن، وكل ما هو آتٍ قريبٌ: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) نسأل الله تعالى أن يرزقنا القناعة بما رزقنا، وأن يجعل حسابنا يسيراً، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا إنه سميع مجيب الدعاء.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.. اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ… اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك وتحوُّل عافيتِك وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطِك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين،اللهم وألف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادك الصالحين. اللهم آمنا في وطننا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.اللهم وفق ولاة أمورنا (ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزراءه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد) وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان،اللهم أصلح أحوالهم في فلسطين وفي سوريا وفي اليمن وفي بورما، وفي كل مكان، اللهم ولي عليهم خيارهم ولا تسلط عليهم شرارهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم فرِّج الهمَّ عن المهمومين ونفِّس الكربَ عن المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا وارحم موتانا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندَك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا بذنُوبِنا فضلَك يا حي يا قيوم يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين