الجمعة 26 صفر 1441 هـ

الموافق 25 أكتوبر 2019 م

الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو اللطيف الخبير، علم ما كان وما يكون، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة في يوم النشور، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن على طريقتهم يسير..

أما بعد فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واشكروه سبحانه على نعمه الكثيرة التي من أجلها وأعظمها، بعثة النبي  صلى الله عليه وسلم وإرساله إليكم؛ ليخرجكم من الظلمات إلى النور.. فإن الله تعالى قد أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، أنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكوراً، فإنه  بلغ وأنذر، وقام لله قومة لم يقمها أحد من الناس قبله، ولن يقومها أحد بعده، فما زال  منذ قال له الله تعالى: (قُمْ فَأَنْذِرْ) قائماً بأمر الله، يبلغ الرسالة، ويؤدي الأمانة، وينصح الأمة، فأتم الله به النعمة، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، وامتلأت به الدنيا نوراً وابتهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فلما أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به جل وعلا، ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى. وكانت فاجعة وفاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، هي أكبر فاجعة حلت  بالمؤمنين به.. وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم، في أواخر شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة، علم بدنو أجله، واقتراب رحيله؛ فودع أصحابه رضي الله عنهم في حجته الوداعية، وقال: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) وألمح إلى أصحابه بذلك في خطبة خطبها؛ كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً على المنبر فقال: إِنَّ عَبْداً خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ،  فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ وَقَالَ النَّاسُ:  انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ، يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا  فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ) وأخبر بذلك مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ إِلَى الْيَمَنِ، فجعل يوصيه، فلما فرغ من وصيته قال:(يَا مُعَاذُ إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أنَ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَقَبْرِي). فَبَكَى مُعَاذٌ خشَعاً (فزعاً) لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وصرح رسول الله بموته لابنته فاطمة رضي الله عنها فقال: (إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًاً بِي) وكان موته بسبب مرض شديد ألم به، وبدايته سنة سبع في فتح خيبر.. وأول ما جاءه الوجع إثر عودته من جنازة أحد الصحابة في البقيع؛ كما أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها.. ولما أحس عليه الصلاة والسلام بقرب وفاته استغفر للأموات من الصحابة والشهداء منهم رضي الله عنهم في البقيع؛ وقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ  مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الْأُولَى، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي قبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ) ولما ثقل صلى الله عليه وسلم، واشتد به وجعه، بعث إلى نسائه فاجتمعن فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها، وقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن فإن رأيتن أن تأذنَّ لي فأكون عند عائشة فعلتن، فأَذِنَّ له، فخرج صلى الله عليه وسلم بين العباس وعلي رضي الله عنهما تخط رجلاه الأرض من شدة مرضه، حتى دخل بيت عائشة… واشتدت حرارة جسده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم من المرض حتى إنه ليوعك كما يوعك رجلان، ودخل عليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وهو يوعك قال:فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ فَوْقَ اللِّحَافِ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَشَدَّهَا عَلَيْكَ قَالَ:(إِنَّا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلَاءُ وَيُضَعَّفُ لَنَا الْأَجْرُ) وقالت عائشة رضي الله عنها تصف وجعه: (ما رأيت رجلاً أشدَّ عليه الوجعُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وآخر صلاة أمَّ الناس فيها كانت صلاة المغرب؛ كما روت أم الفضل بنتُ الحارث رضي الله عنها فقالت: (خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب فقرأ بالمرسلات، قالت: فما صلاها بعد حتى لقي الله تعالى).. فلما حضرت العشاء ما قدر أن يخرج إليهم من شدة مرضه صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (أَصَلَّى النَّاسُ؟  قُلْنَا : لَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:(ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ) فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ، (أي ليقوم)، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ  ثُمَّ أَفَاقَ، وكرر هذا القول ثلاث مرات، قَالَتْ عائشة وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ ، يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الآخِرَةِ  قَالَتْ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ،  فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ رَجُلاً رَقِيقاً: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، قَالَتْ  فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ هما علي والْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ  فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ، وَقَالَ لَهُمَا: أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ  وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ) واشتد به صلى الله عليه وسلم المرض عقب ذلك، فلم يخرج إليهم، وظل أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، ومكث في مرضه ثلاثة عشر يوماً، وكان عنده بضعة دنانير فسأل عنها عائشة فقالت رضي الله عنها: هِيَ عِنْدِي، قَالَ: (تَصَدَّقِي بِهَا) قَالَتْ : فَشُغِلْتُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ:(يَا عَائِشَةُ، مَا فَعَلَتْ بتِلْكَ الدنانير؟ قالت: هِيَ عِنْدِي،فقَالَ : (ائْتِنِي بِهَا)، قَالَتْ : فَجِئْتُ بِهَا  فَوَضَعَهَا فِي كَفِّهِ ، ثُمَّ قَالَ: مَا ظَنُّ مُحَمَّدٍ أَنْ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وَهَذِهِ عِنْدَهُ ؟ مَا ظَنُّ مُحَمَّدٍ أَنْ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وَهَذِهِ عِنْدَهُ، أنفقيها) وفي آخر ليلة له في الدنيا – وهي ليلة الاثنين سنة إحدى عشرة من الهجرة، أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جديد الموت – وهو أول وقته-، ودخلت عليه ابنته فاطمة رضي الله عنها وهو يجد من كرب الموت ما يجد فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كربَ أبَتاهُ، فقال: صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ لا كربَ على أبيكِ بعدَ اليومِ، إنَّهُ قد حضرَ من أبيكِ ما ليسَ بتارِكٍ منْهُ أحداً، الموافاةُ يومَ القيامةِ) وعرف  عمه العباس في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الموت، وقال: وإنِّي واللَّهِ لَأَرَى رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَوْفَ يُتَوَفَّى مِن وجَعِهِ هذا، إنِّي لَأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عبدِ المُطَّلِبِ عِنْدَ المَوْتِ) عباد الله: ولما أصبح يوم الاثنين والصحابة رضي الله عنهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة قال أنس رضي الله عنه: فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف – أي: عبارة عن الجمال البارع، وحسن البشرة، وصفاء الوجه واستنارته – ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم – وفي رواية: فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم – وتراجع أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم، قال: (ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر) وفي رواية: (فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا رَأَى مِنْ حُسْنِ حَالِهِمْ، وَرَجَاءَ أَنْ يَخْلُفَهُ اللَّهُ فِيهِمْ بِالَّذِي رَآهُمْ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَيُّمَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَداً مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي) وغشي عليه صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذ عائشة رضي الله عنها، فجعلت عائشة تقرأ عليه المعوذات وتنفث، وتدعو له بالشفاء فأفاق وسمعها تدعو بشفائه فقال عليه الصلاة والسلام: (لَا، بَلْ أَسْأَلُ اللَّهَ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ) قالت عائشة رضي الله عنها: (وأخذته بحة شديدة فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فعلمت أنه خُيِّر). ودخل أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسندته إلى صدرها ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، قالت عائشة: فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَضِمْتُهُ، وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنَّ اسْتِنَاناً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، – وكان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات، ثم نصب صلى الله عليه وسلم يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده ثم قضى، وكانت عائشة تقول: مات بين سحري ونحري، أي على صدرها) قالت: (فلما خرجت نفسه لم أجد ريحاً قط أطيب منها)، (وغطي صلى الله عليه وسلم بثوب يماني)، ولَمَّا دُفِنَ قَالَتْ أبنته فَاطِمَةُ رضي الله عنها: يَا أَنَسُ بن مالك أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ)

وهكذا مات خير البرية وأزكى البشرية، خاتم الأنبياء والمرسلين، وكانت المصيبة به أعظم المصيبة عند المؤمنين، ووقع قول الله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)، فصلوات ربي وسلامه عليه، صلاة وسلاماً دائمين ما تعاقب الليل والنهار، والحمد لله على كل حال. اللهم أجرنا والمسلمين أجمعين في المصيبة به واخلف لنا خيراً منها، واحشرنا في زمرته، وتوفنا على ملته، وأوردنا حوضه، وارزقنا مرافقته في الجنة مع آله وأصحابه ومحبيه يا ذا الجلال والإكرام.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن المصيبة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من أعظم المصائب التي يمكن أن تمر بالمسلم، فإذا أصيب المسلم بمصيبة فليتذكر مصيبته بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يهوّن عليه مصيبته، فتصغر مهما كانت عظيمة، وتهون مهما كانت كبيرة، يقول صلى الله عليه وسلم:(إذا أصابَ أحدَكُم مُصيبَةٌ، فليذكُر مُصيبتَهُ بي، فإنها من أعظمِ المصائبِ)… عباد الله:إن الله تعالى قد كتب الموت على كل مخلوق ولم يستثنِ من ذلك أحداً، لا نبياً مرسلاً، ولا ملكاً مقرباً، يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم،(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) ويقول تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) ويقول سبحانه: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)… إن الموت حق مكتوب على كل مخلوق، ولكل مخلوق أجل، فإذا جاء أجله لم يستأخر عنه ساعة ولم يستقدم، قد يموت الإنسان صغيراً، وقد يموت شاباً، وقد يموت كهلاً، وقد يبلغ من العمر عتياً ويرد إلى أرذل العمر، ولكنه بعد ذلك كله سيموت: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فهكذا عمر الإنسان، يبدأ بالطفولة، وينتهي بالشيخوخة، ويرد إلى أرذل العمر، ولكل فترة من فترات العمر سمة تميزها عما قبلها وما بعدها…لقد مات نبينا وحبيبنا محمداً صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث وستون سنة، وما بين الستين إلى السبعين وقت وفاة الكثيرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ) ومن بلغ ستين سنة فإنه لم يبقَ له اعتذار كأن يقول: لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، واجتنبت ما نهيت عنه، يقول الله تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) ويقول صلى الله عليه وسلم: أعذر ﷲ إلى امرئٍ أخّر أجلَه حتى بلّغه ستين سنة) ولله در القائل في تعداد مراحل عمر الإنسان

ابن عشر من السنـين غلام

رفعـت عن نظيـره الأقـلام

وابن عشرين للصبا والتصابي

ليـس يثـنيه عن هواه ملام

والثلاثـون قـوة وشبـاب

وهيــام ولـوعة وغـرام

فإذا زاد بعد ذلـك عـشراً

فكـمـال وشدة وتـمام

وابن خمسين مـر عنه صباه

فيـراه وكـأنـه أحـلام

وابن ستين صـيرته اللـيالي

هدفًاً للمنـون وهـي سهام

وابن سبعين عاش ما قد كفاه

واعترته وساوسٌ وسقامُ

فإن زاد بعد ذلـك عشـراً

بلـغ الغـاية الـتي لا ترام

وابن تسعين لا تسلني عنهُ

فابن تسعين ما عليه كلامُ

فإذا زاد بعد ذلـك عشـراً

فهو حيٌّ كميّتٍ،  والسّلام

ولكن الموت يا عباد الله ليس نهاية المطاف، بل هو نقلة من دار إلى دار، نقلة من دار العمل إلى دار الجزاء على العمل، في يوم توفى فيه كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.. فنسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعل نبينا وإمامنا وقرة أعيننا محمداً صلى الله عليه وسلم فرطاً لنا، وسلفاً بين أيدينا، ومستقبلاً لنا بعد البعث على حوضه، ليسقينا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً.

اللهم اجمع بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم كما آمنا به ولم نره، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله وتوردنا حوضه، وتجعلنا من رفقائه من المنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً برحمتك يا أرحم الراحمين..

اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.

اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.

اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان  وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم، ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..اللهم كُن لإخواننا المستضعفين  في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم وأصلِح أحوالَهم، واحقِن دماءَهم، وابسُط أمنَهم وأمانَهم وألف بين قلوبهم. اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم الله موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين..

ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وجميعِ المُسلمين والمُسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

  خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين