الجمعة 5 صفر 1441 هـ 

الموافق 4 أكتوبر 2019 م

الحمد لله المنفرد بقدرته، المتعالي في سلطانه، البادئ بالإحسان، العائد بالامتنان، المغتفر إساءة المذنبين بعفوه، وجهل  المسيئين بحلمه ، الذي قرن بالفضل رحمته،  وبالعدل عذابه، نحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد قدرته، فإنه رضي الحمد ثمناً لجزيل نعمائه، وجليل آلائه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يخرج شيء عن قدرته، ولا يعزب عن رؤيته، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المصطفى من خليقته والمجتبى من بريّته، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وصحبه، وكل من سار على نهجهم فجمع بين استقامة عمله وصلاح نيته..

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته ومراقبته:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)

معاشر المسلمين: عالَمُنا اليوم تتجاوزُ فيه صورٌ من الظلم والجَور والعُدوان حدودَ الزمان والمكان، وتظهرُ فيه ألوانٌ من البغي وانتِقاص الحقوق الإنسانية المشروعة، بدوافع عُنصرية، وموروثاتٍ طائفية، وخلَلٍ عقديٍّ وفكريٍّ. مما يُؤكِّدُ الحاجةَ الماسَّةَ إلى إصلاح النفوس والعقول، وتهذيبها بصالح الأخلاق ومكارِم الصفات التي جاء النبي  صلى الله عليه وآله وسلم لإكمالها ورعايتها، والتي تُقوِّمُ السلوك، وتُصلِحُ فسادَ القلوب… وإن من أعظم تلكم الأخلاق وأشملها لجميع نواحي الحياة: قيمةً إنسانيَّةً إسلاميَّةً كُبرى، ومبدأً رفيعاً بديعاً، غدَا مقصِداً من أجلِّ مقاصِد الشريعة وكليَّاتها، ألا وهو: (الإنصافُ والعدل). الإنصافُ والعدلُ الذي ما بعثَ الله الرسل وأنزل الكتب إلا من أجل تحقيقه في الأرض، يقول تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمَّته بالإنصاف والقسط، في الأقوال والأفعال والحُكم بين الناس، كما قال الله: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) وقال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) وقال: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وامتثلَ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  أمرَ ربِّه وتوجيهه، وطبَّق العدل والإنصاف في كل أحواله وأيامه.

وسُنَّتُه الشريفة وسيرتُه العطِرة خيرُ مِثالٍ وشاهِد، وتربيتُه صلى الله عليه وآله وسلم  لأصحابه على الإنصاف والعدل مع المُوافق والمُخالف لا تُحصى شواهِدُه ولا تُعدُّ نماذجُه.

أيها المؤمنون: مرَّ الخليفة الراشد عُمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه  بشيخٍ كبيرٍ من أهل الذمَّة وهو يتكفَّفُ الناسَ ويسألُهم، فوقف عليه وقال مقولته الشهيرة: (ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجِزية في شَبيبَتك، ثم ضيَّعناك في شَيبَتك)، ثم أمر له برِزقٍ دائِمٍ. عدلٌ وإنصاف لا يقفُ عند حدودٍ وأعراف، يشملُ القريبَ والبعيدَ، والمُسلمَ والكافرَ.. هذا العدلُ والإنصافُ هو الذي جعل شيخَ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سعَى في فَكاك أسرى المُسلمين عند التَّتَر، وعلِم أنهم لن يُطلِقوا معهم أسرَى أهل الذمَّة، أصرَّ  رحمه الله  على إطلاق الأسرَى كلِّهم وقال: في سُمُوِّ نفسٍ وإنصافٍ لا نظيرَ له، قال: بل جميعُ من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهلُ ذمَّتنا، فإنا نفُكُّهم ولا ندَعُ أسيراً لا من أهل الملَّة ولا من أهل الذمَّة).

عباد الله: إن الإنصافَ حِليةُ الشريعة وزينةُ الملَّة، وركيزةُ الإصلاح، وهو خُلُق الأنبياء والنُّبلاء، وواسِطةُ عِقد السعادة وصلاح الأحوال، وما تحلَّى به أحدٌ إلا دلَّ ذلك على سلامة صدره، وطهارة قلبه، وجودة عقله..

وإذا ضيَّعَت الأمةُ الإنصاف، فلا تسَل عن فُشُوِّ الأنانية والأثَرة والإجحاف، وبخس الناس أشياءَهم، فتفتُرُ هِمَمُهم عن تحقيق الأمانة والجودة في الأعمال والمُنجَزات، ويذوقُ المُجتهدُ والناجِحُ والمُخلِصُ مرارةَ الجُحود والنُّكران، وإخفاء المحاسِن وإبراز المساوئ، مما يُضعِفُ في المُجتمع روحَ الجدَة والابتِكار، والعمل المُثمِر البنَّاء.

إن الإنصافَ ثمرةُ العدل ورونَقُه وبهاؤُه، ولا يُمكن أن يستفيدَ العبدُ من علمِه بالحق حتى يُقيمَ العدل والإنصاف، كما قال الله: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) وقال: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) ولقد أنصفَ القرآنُ الكريم أهلَ الكتاب حينما قال: (لَيْسُوا سَوَاءً) وقال: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)

أيها المؤمنون: إننا اليوم مدعوون أكثر من أي وقت آخر لالتزام خلق الإنصاف، وتدريب أنفسنا وأبنائنا وأهلنا عليه، لقد شنع القرآن الكريم على من يفتقدون لهذا الخلق العظيم في تقدير الأمور، وفي تقييم الأشياء، وفي الحكم على الناس.. شنع القرآن الكريم على المطففين، (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) فلا ينبغي أن تكون موازيننا موازين تطفيف وتخسير وبخس للناس وأشيائهم. قال تعالى: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ). وأمر القرآن الكريم بالإنصاف في الشهادة على الناس، فقال عز وجل: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ). والمعنى أنه لا ينبغي أن يكون نزاعك مع شخص مانعاً لك من أن تنصفه وتعدل معه، فتشهد عليه بالحق والعدل…  ولذلك كان الواجبُ على العبد أن يزِن الأمورَ بميزان العدل والإنصاف، حتى يحيا حياةً كريمةً هانِئة؛ فإن لربِّه عليه حقًّاً، ولوالدَيه عليه حقًّاً، ولأهله عليه حقًّاً، ولوُلاة أمره عليه حقًّاً، ولإخوانه عليه حقًّاً، والإنصافُ أن يُعطِي كل ذي حقٍّ حقَّه. وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) أيها المسلمون: إننا في زمنٍ أحوَجُ ما نكون فيه إلى فهم حقيقة الإنصاف والتأدُّب بآدابه. فليس من الإنصاف في شيءٍ أن يُعامَل به قومٌ لمحبَّةٍ أو قرابة، ويُغضَّ الطرفُ عنه في مُعاملة قومٍ آخرين، وليس من الإنصاف أن تسُوءَ العلاقات الأُسرية والاجتماعية بمُجرَّد زلَّةٍ أو هفوَة؛ بل الواجبُ أن تُلتمسَ الأعذارُ، ويُغلَّبَ جانبُ المحاسِن الكثيرة، ويُقبَلَ العفوُ من أخلاق الناس، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وما أعظمَ قول نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلم في تأسيس هذه القاعدة التي هي من أهم قواعد الإنصاف؛ حيث قال  بأبي هو وأمي  صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يَفرَك مؤمنٌ مُؤمنة) يعني: لا يُبغِضُ ولا يكرَهُ زوجٌ مؤمنٌ زوجتَه المؤمنة، (إن سخِط منها خُلُقًاً رضِيَ منها آخر) وقال التابعي الجليل سعيدُ بن المُسيَّب رحمه الله: (ليس من شريفٍ ولا عالِمٍ ولا ذي سُلطان إلا وفيه عيبٌ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكرَ عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصه وُهِبَ نقصُه لفضلِه). إن هذه النظرة المُتوازِنة الحكيمة يجبُ تطبيقُها في التعامُل مع الحُكَّام والوُلاة والعلماء وذوي الهيئات والشرف وسائر الناس، ومع المُخالفين كذلك، فيُعامَلون جميعاً بهذا الميزان النبوي الذي يحفظُ لهم حقوقَهم ومحاسنَهم، مع الإصلاح والتقويم والنصيحة لهم بالحكمة، وإن من أبهَى صور الإنصاف ألا تفسُد علاقتُك بالمُسلمين بسبب اختلاف وجهات النظر، فهو لا يُفسِدُ الوُدَّ والمحبَّةَ عند التجرُّد والإنصاف، ولا تأخذهم بلازمِ قولهم فهو ليس بلازمٍ لهم وتُحسِنُ الظنَّ بهم وتضعُ أمرَهم على أحسَنه ما لم يأتِك ما يغلِبُ ذلك وإياك أن تظنَّ سُوءاً بكلمةٍ خرجَت من أخيك المُسلم وأنت تجِدُ لها في الخير محمَلاً ومخرَجاً.

عباد الله: إن مما يخدِشُ الإنصافَ ويخرِمُه: أن يتورَّط المرءُ في نشر أخطاء وزلاَّت مُسلمٍ ظاهر العدالة والسلامة، ويكتُمُ حسناته ومحاسِنَه، ولعلَّه قد حطَّ رحلَه في الجنة، والقادِحُ لا يشعُر. كما قال النبي  صلى الله عليه وسلم عن حاطب بن أبي بلتعَة  رضي الله عنه: (لَعَلَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)

وإن المُنصِف إذا انتقَدَ فإنه ينقُدُ الأقوال لا القائلين، فيكونُ نقدُه للرأي والفعل هادفًاً بنَّاءً، بنيَّةٍ طيبةٍ وأدبٍ حسنٍ، لا بقصد الإسقاط والتجريح والتوبيخ، والتصنيف، والدخول في النيَّات والمقاصِد.. فالقرآنُ الكريم حينما نقَدَ إنما نقَدَ الأقوال والأفعال، فقال: (وَمِنْهُمْ)، (وَمِنْهُمْ)، (وَمِنْهُمْ)، ولم يُسمِّ أصحابَها. وتمثَّل ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فكان يقول: (ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا وكذا).. وإن من أجلِّ عُرى الإنصاف: التثبُّت والتأنِّيَ في تصديق الأخبار وبناء الأحكام عليها، وما ثبتَ لمُسلمٍ من العدالة والفضائل فلا تُنفى عنه ولا تُزال إلا بيقينٍ مثله أو أقوَى منه، لا بالظنُون والشُّكوك، وزعموا، وقالوا، فبئسَ مطيَّة الرجل: زعموا، و(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: أخذُ الناس بظواهِرهم وتركُ سرائرهم إلى ربِّهم  سبحانه وتعالى ، وقبول الحقِّ من الحبيب والبغيض، والاعتراف بالخطأ، وكلامُ الأقران بعضهم في بعض يُطوَى ولا يُروَى ولا يُشاع، هو عينُ الإنصاف والتسامِي.. ومُراعاةُ اختلاف علماء مذاهب المُسلمين المتبُوعة واجتهاداتهم السائغة، والإعذارُ لهم، وعدم التشنيع والذمِّ، والسعيُ في جمع الكلمة على وُلاة الأمور، ونبذُ الفُرقة والاختلاف المذمُوم. كلُّ ذلك من أهم الأُسس التي يُبنى عليها الإنصافُ والعدل، والتي تُشيع الأمن والاستقرار في الأوطان والمُجتمعات وتبعثُ الطُّمأنينة وتُهيِّئُ النفوسَ والعقولَ للإنتاج والعمل المُثمِر البنَّاء.. إن الإنصافَ فِطرةٌ ربَّانيَّةٌ سويَّة، وقيمةٌ خُلُقيَّةٌ نبويَّة، من أخذ بها وتحلَّى سعِد وفازَ وعلا وترقَّى، والله يُحبُّ المُقسِطين. ومن خالفَ ذلك واتبعَ منهجَ المُطفِّفين الذين يأخذون الذي لهم وافراً كاملاً ويُخسِرون ويُنقِصون في حقوق غيرهم وفي الذي عليهم، فما أبعدَه من منهج، وما أجدرَهم بقول ربِّنا  سبحانه: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، وزينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة  مهتدين يارب العالمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين.

أما بعد فيا أيها المسلمون:إن سلوك الإنصاف أمرٌ عزيزٌ، ولا يتهيأ إلا لمن أعطي قوة على محاربة الهوى، وقمع حظوظ النفس، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنزال الناس منازلهم، ولهذا لا يستطيعه أي أحدٍ، ولا يقدر على التجمل بهذا السلوك، من لم يكن عنده استعداد داخلي له … والدعوة إلى الإنصاف، والحث على سلوكه مبدأ قرآني، ودعت إليه السنة المطهرة، وعمل به سلفنا الصالح رضي الله عنهم، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..) ويقول جل وعلا: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أما في السنة المطهرة، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أسد الأعمال ثلاثة وذكر منها: الإنصاف من نفسك..) وقال: (لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسِه) وقال عليه الصلاة والسلام: (فمَنْ أحبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عنِ النَّارِ ويُدْخَلَ الجنَّةَ، فلتَأْتِه مَنيَّتُه وهو يُؤمِنُ باللهِ واليوم الآخِرِ، ولْيَأتِ إلى النَّاسِ الَّذِي يُحبُّ أنْ يُؤتَى إليه) وكذا ورد عن السلف الصالح من صحابة وغيرهم، امتداح خلق الإنصاف، بل هو من مكملات الإيمان، ولهذا فليس غريباً أن نجد التطبيق العملي لهذا المبدأ من الصحابة أنفسهم … في الصحيح عن أبي مَرْيَمَ عبد اللَّهِ بن زِيَادٍ الْأَسَدِيُّ قال : لَمَّا سَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ إلى الْبَصْرَةِ، بَعَثَ عَلِيٌّ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ وَحَسَنَ بن عَلِيٍّ ، يقول الراوي: فَقَدِمَا عَلَيْنَا الْكُوفَةَ، فَصَعِدَا الْمِنْبَرَ ، فَكَانَ الْحَسَنُ بن عَلِيٍّ فَوْقَ الْمِنْبَرِ في أَعْلَاهُ، وَقَامَ عَمَّارٌ أَسْفَلَ من الْحَسَنِ، فَاجْتَمَعْنَا إليه فَسَمِعْتُ عَمَّاراً يقول: إِنَّ عَائِشَةَ قد سَارَتْ إلى الْبَصْرَةِ، ووالله إِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم في الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ابْتَلَاكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَمْ هِيَ) .. فانظر إلى هذا الأنصاف فإنه شهد لعائشة بالفضل التام، بالرغم من وجود حرب بينهم، ومع ذلك لم يدفعه هذا للتأليب بالحق والباطل، وتكفير كل من عاداه وحاربه. فكان ذلك يعد من إنصاف عمار لعائشة، وشدة ورعه وتحريه قول الحق.  وفي الصحيح عَنْ هِشَامِ بن عُرْوَةَ عن أبيه قال : ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ  فقالت: لَا تَسُبُّهُ، فإنه كان يُنَافِحُ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فهذا حسان ابن ثابت كان ممن خاض في الإفك والكلام على عائشة، ومع ذلك لم تسمح السيدة عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة بن الزبير، أن يسبه بسبب منافحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم… والنماذج من هذا القبيل كثيرة، لكنني آثرت أن أنقل هذين الأنموذجين لأنهما يمثلان قمة الإنصاف ؛ ففي الأنموذج الأول: فهو ممن وقعت بينهم حروب، ووقوف السيدة عائشة في مواجهة جند علي رضي الله عن الجميع مع ما لها رضي الله عنها من مكانة في قلوب المسلمين، ومع هذا ما كان من عمار إلا الإنصاف وعدم اهتبال الفرص للإسقاط وبيان أنها على غير هدى…

أما الأنموذج الثاني: فالسيدة عائشة تنصف حسان بن ثابت بالرغم من أنه وقع في عرضها، وهذا أمرٌ عظيم، ويصعب على الإنسان أن ينسى أو يُسامح في مثل هذه المواقف ، فكيف بالإنصاف ؟؟!!

فليكف إذاً عن التكفير والتضليل والتبديع والتفسيق، أناس يرون كل من ناوأهم أو انتقدهم، أو بين لهم خطأهم خارج عن الملة، ويجتهدون في تلفيق الأحكام له، فليس هذا والله من منهج سلفكم الصالح.

اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل يا سميع الدعاء.

(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)

اللهم أشغل قلوبنا بحبك، وألسنتنا بذكرك، وأبداننا بطاعتك، وعقولنا بالتفكر في خلقك، والتفقه في دينك يا رب العالمين.

اللهم افتح لنا فتحاً مبيناً، وأهدنا صراطاً مستقيماً، وانصرنا نصراً عزيزاً، وأتم علينا نعمتك وأنزل في قلوبنا سكينتك، وانشر علينا فضلك ورحمتك يا سميع الدعاء.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، وفي خليجنا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…

اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيدا، اللهم أصلح أحوالهم، وفرج همهم ونفس كربهم،واحقن دمائهم،وحقق آمالهم، وألف بين قلوبهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلا. اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم الله موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

عِبَادَ الْلَّهِ: (إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ). فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

            جامع أحمد الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين