21 محرم 1441هـ

20 سبتمبر 2019م

_____________________________

الحمد للهِ عزَّ واقتَدَر، وعَلا وقهَر، لا محيدَ عنه ولا مفرّ، نحمده سبحانَه ونشكُره، وقد تأذَّن بالزيادةِ لمن شكرَ، ونتوب إليه ونستَغفره، يقبَل توبة عبدِه إذا أنابَ ونستغفَر، ونشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، شهادةً تنجِي قائلَها يومَ العرضِ الأكبر، ونشهد أنّ سيِّدنا ونبينا محمَداً عبد الله ورسوله سيّد البشر، الشافع المشفَّع في المحشر، صلّى الله وسلَّم وبَارَك عليه، وعلى آلِه الأطهار الأخيَار، وأصحابِه السادة الغُرَر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليماً كثيراً ما اتّصَلت عين بنظرٍ وأذُن بخبر.

أما بعد فيا عباد الله: اتّقوا الله تعالى حقَّ تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وسابِقوا إلى رحمته وجنّاته، يقول سبحانه: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)

معاشر المسلمين: لا خلودَ في دارِ الدنيا لأحَد، لكنّ الأعمال الجليلَة، والآثار الجميلَة، والسنَن الحسَنة، تخلِّد ذكرَ صاحبها بين الناس، وتورثه في حياتهِ وبعدَ موتهِ ذكراً وحمداً وثناء ودعاءً… وكم من القادة والعلماء والفضلاء والعظَماء قد غيَّبهم الأجل، وطواهم الموت، ولازالت مآثرُهم وآثارُهم ومفاخِرُهم تبعَث في المجالس طيباً، وأريجاً وعَرفًاً، يحمل الناس على عمل الخير، وفعل الجميل؟، والاقتداء الحسَن.

قد ماتَ قومٌ وما ماتَتْ مكارٍمُهم

وعاشَ قومٌ وهُم في الناس أمواتُ

إن قِيلَ ماتَ فلم يمُتْ منْ ذِكرُهُ

حيٌّ على مرِّ الأيّامٍ باقي

وبقاءُ الذّكر الجميل، واستمرارُ الثناء الحسَن، والصيتِ الطيب، والحمدِ الدائم للعبد بعدَ رحيله عن هذه الدار، نعمةٌ عظيمة يختصّ الله بها من يشاء مِن عباده ممن بذَلوا الخير والبرّ، ونشروا الإحسان، ونفعوا الخلق، وجمعوا مع التقوى والصلاح، مكارمَ الخصالِ، وجميلَ الخلال، يقول جل في علاه: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ) إنه: شرف وثناءٌ جميل يُذكَرون به..

ويقول تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)

يقول عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني: الثناء الحسن).

وأرفعُ الناس قدراً وأبقاهم ذكراً، وأعظمُهم شرفًاً، وأكثرهم للخَلق نفعاً: النبيُّ المعظَّم، والرسول المكرَّم، محمّد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى عنه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)

والإمام العادل القويّ الشجاع الذي يحمي حياض وطنه،ويدافع عنه، وينتصر لدينِه وعقيدته وأرضِه، تراه معظَّماً في النّفوس، كبيراً في أعينِ النّاس، جليلاً عند أهلِ الإسلام، مُمَدَّحاً عند العلماء والمؤرخين.

والعالم التقيّ المتواضِعُ للناس، الذي يسعَى في نفعِهم وتعليمِهم، والإحسانِ إليهم، يعلُو في الأرض ذكرُه، ويرتفع في النفوس قدرُه، ويبقى بين الخلق أثره؛ لعلمه ودينِه وإتباعه لسنة النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وإخلاصِه لله تعالى.

والجواد الكريم السخيّ المعطاء، الذي يعطِف على الفقراء والأرامل، ويكفل الأيتام، ويرحَم المحتاجين، ويشفِق على المساكين؛ فإنّ العامّة تضِجُّ بالدعاء له، وذِكرِ محاسنه، ويُكتَب له قبولٌ تامّ، وجاهٌ عريض…

والعافُّ عن المحارِم، الكافُّ عَن أعراضِ الناس، الذي يبذُل الندى ويكُفّ الأذى، ويحتمل المشقّة، ويرضِي الناس في غير معصية، بأصالةِ رأي، ورجاحَة عقل، وسلامة قلب، وعِفّةٍ في الفرج واليد واللسان؛ فذاك السيّد الوجيهُ الذي يقدَّم على الأمثال، وتهابُه الرّجال، ويَبقَى ذكرُه في الأجيال… أوصى رجلٌ بنيه، فقال: (يا بنيَّ، عاشروا الناسَ معاشرةً؛ إن غِبتم عنهم حنّوا إليكم، وإن متُّم بكوا عليكم)..

ويموت أناس فلا يُؤسَى على فراقهم، ولا يحزن على فقدهم؛ فلم تكن لهم آثارٌ صالحة، ولا أعمالٌ نافعة، ولا إحسانٌ إلى الخَلق، ولا بَذل ولا شَفَقَة، ولا عَطف ولا رحمة، ولا خُلُق حسن، يقول الله تعالى في أمثال هؤلاء: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) لا يُرى لهم في الأرض شاكِر، ولا لهم بالخير ذاكر.

كأنهم قَطُّ ما كانوا  ولا  وُجِدُوا

وماتَ ذِكْرُهم بين الوَرَى ونُسُوا

فالحقود الحَسود والجَموع المنوع، والفاحِش البذيء، وصاحب الظلم والبغي والكِبر والهوى والذي يعامل الناس بالغِلظة والقسوة والشدَّة؛ يقطع الله الذّكر الحسَن عنه، ويبقى له البُغض في الأرض، والذم من الخلق؛ يقول صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً عَسَّلَهُ .؛ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَ مَا عَسَّلُهُ ؟  قَالَ : يَفْتَحُ لَهُ عَمَلاً صَالِحاً بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ ، حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلُهُ) يقول أهل العلم: قوله: (عَسَّلَهُ) أراه مأخوذًاً من العسل، شبّه العمل الصالح الذي يُفتَح للعبد حتى يرضى الناسُ عنه ويطيبَ ذكرُه فيهم بالعسل).

أيها المؤمنون: ومِن الأعمال الصالحة التي تُفتَح للموفَّقين، فيرضَى الله بها عنهم، ويُرضي بها خَلقَه، ويلحقهم أجرها بعد الممات: حبسُ النفس على التعليم، وإقراء القرآن، والتحديث، ونشر العقيدة الصحيحة، والتصدُّر للإفادةِ والتصنيف والتأليف، وطباعة الكتبِ النافِعة، وبناء المساجِد والصالات الخيرية والمدارِس والمعاهد والمشافي، وسقي الماء، وحفر الآبار، وكثرة الصدقة، وإدامَة البرّ والإحسان والشفقةُ على الضِّعاف، وتزويج المعدوم وإعطاء المحروم، وإنصاف المظلوم، والأداء عن المحبوس المديون، وقضاء الحوائج، ومواساة الفقراء، وإدخال السّرور على المرضى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والدعوة إلى الله بالحكمة، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامّتهم، والإصلاح بين المتخاصِمَين، وجمع كلمةِ الأمّة على الخير والهدى والتقوى والصلاح، إلى غير ذلك من طرقِ الخير، ووجوه البر؛يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْماً، أَوْ كَرَى نَهَراً، أَوْ حَفَرَ بِئْراً، أَوْ غَرَسَ نَخْلًاً، أَوْ بَنَى مَسْجِداً، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًاً، أَوْ تَرَكَ وَلَداً يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ) ويقول  صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْماً عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ  وَوَلَداً صَالِحاً تَرَكَهُ ، وَمُصْحَفًاً وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِداً بَنَاهُ، أَوْ بَيْتاً لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ  أَوْ نَهْراً أَجْرَاهُ ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ )

أيّها المسلمون: والرَّجلُ حين يعامِل زوجَه وأولادَه بالرّفق، والإحسانِ والشَّفَقَة والرحمة والمحبّة والعطف والبذلِ والكرَم؛ يبقى محمودَ الذّكر بعدَ موته، والمرأةُ حين تحسِن إلى زوجِها وتحوطُه بالإكرامِ والاحترامِ، يبقَى حبُّها في قلبهِ، ويسري حمدُها على لسانِه؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأْيْتُهَا وَلكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِر ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صواحب خَدِيجَةَ؛ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلاَّ خَدِيجَةُ فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ). وفي رواية: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيْجَةَ، لَمْ يَكَدْ يَسْأَمُ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْهَا، وَاسْتِغْفَارٍ لَهَا. فَذَكَرَهَا يَوْماً، فَحَمَلَتْنِي الغَيْرَةُ فَقُلْتُ: لَقَدْ عَوَّضَكَ اللهُ مِنْ كَبِيْرَةِ السِّنِّ! قَالَ: فَرَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَباً، أُسْقِطْتُ فِي خَلَدَي، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اللَّهُمَّ إِنْ أَذْهَبْتَ غَضَبَ رَسُوْلِكَ عَنِّي، لَمْ أَعُدْ أَذْكُرُهَا بِسُوْءٍ. فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَقِيْتُ، قَالَ: (كَيْفَ قُلْتِ؟ وَاللهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَآوَتْنِي إِذْ رَفَضَنَي النَّاسُ، وَرُزِقْتُ مِنْهَا الوَلَدَ، وَحُرِمْتُمُوْهُ مِنِّي)

أيّها المسلمون: وليس المقصود والهدف أن يسعى المرء لئن يحب، وخاصة من أهله وأبنائه؛ كلا، فليس هذا مقصود لذاته، ولا مطلوب، بل قد يكون الأب أكثر شفقة، وحباً لأهله وأبنائه وهم لا يحبونه؛ لأنه حريص على صلاحهم وتربيتهم، قائم عليهم بالأمر والنهي، والترغيب والترهيب، مانع عنهم أسباب الفساد والحريات المنفلتة، لا يترك لهم الحبل على الغارب، وهم يكرهون منه ذلك؛ لجهلهم بمصلحتهم، ولحرمانه لهم شيئاً من ملذاتهم ومتعهم المحرمة ونحوها، وهو قائم عليهم بما أمر الله، وهم-بطبيعة النفس- تريد هواها، هو مصطبر عليهم مراقب لصلاتهم وأخلاقهم ولباسهم، وهم لا يريدون ذلك؛ فمثل هذا مأجور عند ربه ولو لم يظهر أبناؤه محبته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، رَضِيَ الله عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عليه الناس) يقول تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) ويقول سبحانه عن إسماعيل عليه السلام: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) فالمهم هو رضا الله -جل جلاله- ولو لم يرض الناس، ورضا الناس-كما يقال- غاية لا تدرك؛ سمع الحسن البصري يوماً امرأته، تقول وهو ينصحها ويأمرها وينهاها: تقول له، أراحنا الله منك، فتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) قيل: ومن الغرباء؟ قال: (الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس).

أيها الإخوة والأخوات في الله: والمؤمن لا يبذُل الخير طلباً للمدح، ولا رغبةً في الثناء، ولا طمعاً في الذكر، ولكن من بذَل الخير بنيّةٍ خالصة وقصدٍ حسن قَبِل الله سَعيَه، ووضَع له القبول والحبَّ بين عبادِه، ونشَر له الذّكرَ الحسن، والثناء والدعاء في حياته وبعدَ مماته؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ مَلَأَ اللَّهَ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ خَيْراً وَهُوَ يَسْمَعُ ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنْ مَلَأَ  الله أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ شَرّاً وَهُوَ يَسْمَعُ)

عباد الله: وهكذا الحبّ يسرِي، والحمدُ يَبقى، والثناء والدعاءُ يدوم لمن عمَّ نفعُه، وشمِل عطاؤُه وإحسانه، وتواصَل برُّه وخيره، فقدِّموا لأنفسكم من الآثارِ الطيّبة، والأعمالِ الصالحة، والقُرَب والطاعات والإحسان ما لا ينقطِع بها عَمل، ولا تقِف معها أجور، مع تواصل الدعواتِ الصادقة لكم منَ المسلمين على مرّ الأيام والأعوام.. (فأَحَبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ) صح في الحديث، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ ، فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ! قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ : الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ، يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، ويجعلنا مباركين أينما كنّا، ويجعلنا من الهداة المهتدين، غير الضالين ولا المضلين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله المنعم على عباده بعظيم آلائه، نحمده سبحانه على تعاقُبِ نعمائه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل رسله وخاتم أنبيائه، صلِّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: وكما قَضَى اللهُ أَن يَكُونَ لِكُلِّ بِدَايَةٍ نِهَايَةٌ، وَأَن يَعقُبَ الحَيَاةَ مَوتٌ وَفَنَاءٌ، وَأَن يَكُونَ بَعدَ القَرَارِ مُضِيٌّ وَرَحِيلٌ، وَإِذَا كَانَت حَقَائِقُ الأَشخَاصِ وَمَكَانَتُهُم في مُجتَمَعَاتِهِم، إِنَّمَا تَتَّضِحُ في الغَالِبِ بَعدَ رَحِيلِهِم؛ فكم من أموات خسر الناس بموتهم شيئاً عظيماً، وفقدوا بفراقهم خيراً كثيراً..

إما عَالِماً يَنشُرُ العِلمَ، وَيَبُثُّ المَعرِفَةَ، وَيُفَقِّهُ النَّاسَ في الدِّينِ، أو دَاعِيَةً حَكِيماً، وَوَاعِظًاً مُؤَثِّراً، وَنَاصِحاً مُخلِصاً، أو جَوَاداً مُنفِقًاً مَالَهُ في طُرُقِ الفوز والفلاح، وَدَعمِ مَشرُوعَاتِ الخَيرِ وَأَعمَالِ البِرِّ، أو مُؤْثِراً عَلَى نَفسِهِ، بَاذِلاً وَقتَهُ وَجُهدَهُ في نَفعِ الأُمَّةِ، وَقَضَاءِ الحَاجَاتِ، وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ، أو حاكماً عادلاً يقضي بالقسط والعدل، ويخاف الله تعالى ويؤدي الأمانة، ويرحم رعيته، أو جاراً صالحاً قد أحسن جوار إخوانه، عاد مريضهم، وواسى حزينهم، وسعى في إصلاح ذات بينهم، وهكذا يكون موت بعض المسلمين نقصاً، وفقدهم مؤثراً. وفي المقابل فمنَ المُؤَكَّدِ أَنَّ في المُجتَمَعِ أَقوَاماً لَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِهِم شَيئاً، وَلَن يُقِيمُوا لِرَحِيلِهِم وَزناً.. لَن تَذَرِفَ لِفَقدِهِم عُيُونٌ، وَلَن تُسكَبَ عَلَى وَدَاعِهِم عَبَرَاتٌ، وَلَن تَجِفَ لَنَبَأِ وَفَاتِهِم قُلُوبٌ، وَلَن تَتَحَرَّكَ بِهِم أَفئِدَةٌ، وَلَن يَحزَنَ النَّاسُ بَعدَ دَفنِهِم؛ لأَنَّهُم لَن يَرَوهُم عَلَى وَجهِ الأَرضِ مَرَّةً أُخرَى؛ لأَنَّ حَيَاتَهُم وَمَوتَهُم سَوَاءٌ، بَل إِنَّ ثَمَّةَ أُنَاساً سَيَكسَبُ الآخَرُونَ بِمَوتِهِم بَعضَ المَكَاسِبِ، وَمن ثَمَّ فَسَيَفرَحُونَ بِمَوتِهِم بَاطِناً، وَإِن لم يُعلِنُوا ذَلِكَ ظَاهِراً؛ إِذْ سَيَفقِدُونَ مُفسِدِينَ في الأَرضِ، يُؤتُونَ مِن أَنفُسِهِم الفِتنَةَ مَتى مَا سُئِلُوهَا، إِن وَجَدُوا مُغتَاباً شَارَكُوهُ، أَو نَمَّاماً أَيَّدُوهُ، أَو حَاسِداً أَوقَدُوهُ، أَو صَاحِبَ شَرٍّ دَعَمُوهُ وسَانَدُوهُ، يُؤذُونَ الجِيرَانَ، وَلا يَصِلُونَ الأَرحَامَ، وَيَغُشُّونَ النَّاسَ وَلا يُوفُونَ المَكَايِيِلَ، هُم مَعَ أهليهم غلاظ شداد، وَعَلَى النَّاسِ مُتَفَيهِقُونَ مُتَكَبِّرُونَ، وَلِلأَموَالِ جَمَّاعُونَ، وَللخَيرِ مَنَّاعُونَ، إِنْ تَوَلَّى أَحَدُهُم سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيهَا، يصد عن سبيل الله والهدى، ويمنع طرق الخير ومشاريع الدعوة والإصلاح، وَإِنْ كَانَت لِلنَّاسِ عِندَهُ حَاجَةٌ أَو مُعَامَلَةٌ شَقَّ عَلَيهِم، وَإِن كَانَ عَلَى مَالٍ عَامٍّ لم يَألُ مَا نَهَبَ مِنهُ وَحَازَهُ لِنَفسِهِ.

فَسُبحَانَ مَن جَعَلَ بَينَ النَّاسِ كَمَا بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ! أَقوَامٌ طَهُرَت قُلُوبُهُم فَسَمَت هِمَمُهُم، وَزَكَت نُفُوسُهُم فَصَلَحَت أَعمَالُهُم؛ فَهُم كَالنَّحلِ لا يَأكُلُ إِلاَّ طَيِّباً وَلا يُخرِجُ إِلاَّ طَيِّباً، وَآخَرُونَ أَظلَمَت قُلُوبُهُم فَسَفُلَت إِرَادَاتُهُم، وَخَبُثَت نُفُوسُهُم فَانحَطَّت أَعمَالُهُم؛ فَهُم كَالَذُّبَابِ لا يَحُومُ إِلاَّ عَلَى المَزَابِلِ وَلا يَقَعُ إِلاَّ عَلَى الجُرُوحِ أجلكم الله!. يقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبداً دَعَا جِبرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلاناً فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي في السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأَرضِ، وَإِذَا أَبغَضَ عَبداً دَعَا جِبرِيلَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أُبغِضُ فُلاناً فَأَبغِضْهُ، فَيُبغِضُهُ جِبرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في أَهلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُبغِضُ فُلاناً فَأَبغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبغِضُونَهُ  ثُمَّ توضَعُ لَهُ البَغضَاءُ في الأَرضِ) فَاحرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ عَلَى نَفعِ إِخوَانِكُمُ المؤمنين، وَالإِحسَانِ إِلَيهِم، بما تَستَطِيعُونَهُ مِن مَالٍ أَو عِلمٍ أَو دَعوَة للخَيرِ؛ فَإِنَّهُ مَا استُمِيلَتِ القُلُوبُ بِمِثلِ الإِحسَانِ.

أَحسِنْ إِلى النَّاسِ تَستَعبِدْ قُلُوبَهُمُ

فَطَالَمَا استَعبَدَ الإِنسَانَ إِحسَانُ

فَمَن لم يَستَطِعْ فَلْيَتَحَلَّ بِالخُلُقِ الحَسَنِ، وَلْيَلِنْ في مُعَامَلَتِهِ، وَلتَطِبْ كَلِمَتُهُ، فَمَن لم يَستَطِعْ فَلْيَكُفَّ شَرَّهُ عن الناس، فَإِنَّهَا صدقة منه على نفسه. اللَّهُمَّ زَيِّنَا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجعَلْنَا هُدَاةً مُهتَدِينَ، غير ضالين ولا لا مضلين.

اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر، وأحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل أعداءك أعداء الدين. وأجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.. اللهم آمِنَّا في أوطاننا وفي خليجنا، وأصلح ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا،وبلاد المسلمين، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء.. اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم فرِّج كُربتَهم، واكشِف شدَّتهم، واحقِن دماءَهم، وتقبل شهدائهم، وصُن أعراضهم، واشف جرحاهم، وأحفظ أموالهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلاً..

اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.

اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.)  اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات،والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير.. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمدا وعلى آله وصحبه أجمعين… عباد الله :إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون،فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم،واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

   جامع أحمد الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين.