الجمعة 1 ذو الحجة 1440 هـ

الموافق 2 أغسطس 2019 م

الحمد لله حمداً يليق بجلاله، وشكراً له على جزيل إنعامه وجميل أفضاله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في أسمائه وصفاته وأفعاله، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الصادق في مقاله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله رحمكم الله، تقربوا إليه بطاعته، والإكثار من ذكره وشكره، وحسن عبادته، تودّدوا إليه بالتحدث بنعمه، والإحسان إلى خلقه، تعرفوا إليه في الرخاء، يعرفْكم في الشدة، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، ومن خاف اليوم أمِن غداً، والربح لمن باع الفاني بالباقي، والخسران لمن سدّت مسامعه الشهوات، وآثر الحياة الدنيا. (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: يحتاج المسلم في حال غفلته ولهوه إلى تذكيرٍ بالله تعالى والآخرة؛ فالأولاد والأموال ألهتْنا كثيراً عن ذكر الله وطاعته، وسعيُنا ولهاثُنا لتحصيل قدرٍ أكبر من الرَّفاهية والشهوات حطم قدراتنا في تحمل الكثير من العبادات، والصبر عن المحرمات؛ حتى أضحت أجسادنا لا تتحمَّلُ طول القيام والقنوت، وكثرة الرُّكوع والسُّجود، وقضاءَ الليل في القرآن والذكر.. ومنا من قد يجد صعوبة في الصبر عن مال تطوله يداه لكنه شبهة أو حرام، ومنا من لا يطيق مفارقة سماع الحرام أو إدامة نظره أو سرعة الخطى إليه، بعيداً عن مراقبة الله تعالى والحذر من مكره وخوف عذابه وخشيته وتقواه.

وكل ذلك إنَّما حصل لمَّا تعلَّقت القلوب بغير الله تعالى؛ فالقلوب إذا صلحت، صلحت معها الأجساد، وإذا فَسَدَتْ أفْسَدَتْها حتى تَثَّاقَل عن الخيرات، وتُسارع في المنكرات؛ ولكن يبقى الأمل في عفو الله ورحمته وتوفيقه كبيراً؛ إذ تذكرنا مواسمُ الخيرات ربنا إذا نسينا، وتنبهنا إذا غفلنا، وتدعونا إلى تجديد التوبة مع خالقنا ورازقنا. وهذا أحدها قد نزل بنا، فماذا أعددنا له من توبة ومن عمل صالح؟!

انظروا رحِمكم الله إلى الدارسين كيف يستقبلون مواسم الفوز والنجاح وماذا يعدّون لها من جدٍّ واجتهاد؟! راقبوا كيف يستقبل التجار مواسم البضائع في الصيف والشتاء، والإجازات والأعياد؟! يحرصون على عدم فوات أي شيء، وتوفير ما يجلب الناس إليهم.

تأمَّلوا كيف يستقبل رجالُ الأعمال فرص المُنَاقَصَاتِ وإرساء العقود، كيف يَصِلُون الليل بالنهار في دراسات دقيقة، واستشارات عديدة!! هذه نماذج من مواسم سوق الدنيا، فما رأيكم في التجارة مع الله تعالى، ويا ترى ما الاستعداد لمواسم الرحمن، وفرص المغفرة والرحمة والعتق من النار؟ وكيف سيكون التعاملُ مع أيام الله المباركات؟!

عباد الله: هذه العشر الأولى من ذي الحجة المباركة قد نزلت بساحتنا، فهل سنضيعها كما أضعنا عشرات المواسم التي تمر بنا؟!

أيُّ حرمانٍ ينتظر من يَجِدُّ في مواسم الدنيا وفرصها، ويذرُ مواسم الرحمن والاتجار للآخرة.. هذه العشر التي جاء القسم بها في كتاب الله تعالى: (وَالفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ). هي عشر ذي الحجة كما هو الصحيح الذي عليه جمهورُ المُفَسّرين من السلف وغيرهم. ودلَّ على ذلك حديث جابرُ بْنُ عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العشرَ عشرُ الأضحى، والوترَ يومُ عرفة، والشفعَ يومُ النحر) وأخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ). وينبغي أن نلاحظ أن أجر المجاهد عظيم، فقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟ فكيف بالأجر في هذه الأيام المباركة وأجرها يفوق أجر المجاهد إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء… إن هذه الأوقات يا عباد الله جزء من أعمارنا، وضياعها ضياع لنا وزيادة في حسراتنا، فينبغي تداركها قبل حلول الأجل.

أيها المسلمون: إن أيام عشر ذي الحجة أيام العمل والجد والمسارعة، وهي أيام الفوز والسعادة والفلاح، فحافظوا عليها واعمروها بطاعة الله تعالى. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادةً، يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات).

هذه الأيام أيام عبادة عظيمة هي أحد أركان الإسلام الخمسة، تستحضر فيها معاني التوحيد، وهو ما يستدعي كثرة الذكر بالقلب واللسان والقيام بالأعمال الصالحة التي تناسب عظمة هذه الأيام، قال أهل العلم:

إن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصَّدقة لمَنْ حال عليه الحَوْل فيها، وفيها الصوم لمَنْ أراد التطوع أو لم يجد الهَدْي، وفيها الحجُّ إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذِّكْر والتَّلْبية والدعاء الذي تدلُّ على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها فيه غيرها، ولا يساويها سواها.. ومن أجلِّ الأعمال الصالحة التي تشرع في هذه العشر: أداء مناسك الحج، الذي أوجبه الله تعالى على كل مسلم قادر تحققت فيه شروط وجوبه.

أيها الإخوة المؤمنون: يُستحب عمارة هذه العشر المباركة بالطاعات والأعمال الصالحة، ومن ذلك الصيام، فيُسنُّ صيام تسع ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حضَّ على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (عليك بالصوم فإنه لا مثلَ له)، قال أهل العلم: صيامها مستحب استحباباً شديداً). وقد ورد عن بعض ازواج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر..) وكان الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يَصومُها وأكثر العلماء على القول بصيامها…

وأما صوم يوم عرفة فهذا يتأكد صيامه لغير الحاج، لورود فضل خاص به كما في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)

عباد الله: ومن أعمال هذه العشر التكبير، فيسن فيها التكبير والتحميد والتهليل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ) ، ويستحب إظهار ذلك في المساجد والمنازل والطرقات، وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى، وصفة التكبير: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وما شابهها من الصفات.. يقول أهل العلم: التكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق، وفي كل زمان). والجهر بالتكبير المطلق ابتداء من دخول هذه العشر إلى فجر يوم عرفة في الصباح والمساء، عند الصلاة وقبل الصلاة وبعدها وفي كل وقت، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) فإذا صلى فجر يوم عرفة شرع التكبير المقيد مع المطلق إلى آخر يوم من أيام التشريق؛ لعظيم فضل تلك الأيام؛ ولمزية التكبير فيها على غيرها.

عباد الله: ومن شعائر الله تعالى في هذه العشر: كثرة الذِّكْر؛ يقول تعالى: (لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) والأيَّام المعلومات هي أيَّام العشر من ذي الحجة عند جمهور العلماء.. ويُكثر من قراءة القرآن؛ فإنه أفضل الذِّكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء.

وليعلم المسلم بأن الذِّكْر هو أحبُّ الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النَّجاة في الدُّنيا والآخِرة، وهو سبب الفلاح، وحفظٌ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يُذْكَر العبد عند الله، ويصلِّي الله وملائكته على الذِّاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدَّرجات، وخيرٌ من النَّفقة، به يضاعف الله الأجرَ، ويغفر الوِزْرَ، ويُثْقِل الميزان ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرُّسل، ومجالس المغفرة والجنَّة والإيمان والسعادة والرَّحمة والسَّكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ) وقرنه بالجمعة فقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ)  وقرنه بالصوم فقال: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) وقرنه بالحجِّ فقال: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) وقرنه بالجهاد فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ) ولا يتقيَّد بزمنٍ ولا حال، أمر الله به على جميع الأحوال فقال: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)

أيها المسلمون: ومما يوصى به في هذه الأيام المحافظة على نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيَّدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها وأربع قبل العصر وركعتان قبل المغرب وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سببٌ من أسباب محبَّة الله تعالى ومَنْ نال محبَّة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه؛ لأنها تكمل النَّقص وتجبر الكسر وتسدُّ الخَلَل.

ويُكْثِرُ من الصدقة في العَشْر؛ إذ الصَّدقة فيها أفضل من الصَّدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العَشْر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصَّدقة ينال الإنسان البرَّ، ويضاعَف له الأجر، ويُظلُّه الله في ظلِّه يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير، ويغلق بها أبواب الشرِّ، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبَّه الله ويحبَّه الخَلْق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبه، ويتحرَّر من عبودية الدِّرهم والدِّينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخِرته.

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، نشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، نسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: ومن الأعمال الصالحة التي يتقرب بها المسلم إلى ربه، ذبح الأضاحي، وهو سنة مؤكدة، على كل قادر عليها من المسلمين، وذبح الأضاحي من شعائر هذا الدين الظاهرة، ومن العبادات المشروعة في كل الملل؛ يقول سبحانه: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) والله جلَّ وعلا قد حثَّنا على ذلك، فقال: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ له) وقال: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وكان نبيُّكم صلَّى الله عليه وسلَّم كثيرَ الصلاة، كثيرَ النَّحْر، وقد حثَّ على الأضاحي ورغَّب فيها بقوله وفعله؛ فمن قوله: ما ثبت عنه أنَّه قال: (مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلاً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْساً). وقال لمَّا سُئل: ما هذه الأضاحي؟ قال: (سنَّةُ أبيكم إبراهيم). قالوا: ما لنا منها؟ قال: (بكلِّ شعرةٍ حسنة). قالوا: الصوف؟ قال:(وبكلِّ شعرةٍ من الصوف حسَنة)ونبيُّكم صلى الله عليه وسلم حافَظ عليها مدَّةَ بقائِه في المدينة، فما أخَلَّ بها سنَةً من السنين كلَّ مدةِ بقائِه في المدينة، منذ هاجَر إلى أن توُفِّيَ، وكان يُعلِن هذه السنَّة ويظهرها للملأ؛ قال أنسٌ رضيَ الله عنه: (كان رسول الله إذا صلَّى يومَ النَّحر أُتيَ بكبشَيْن أقرنَيْن أملحَيْن فرأيتُه واضعًا قدمَه على صفاحهما يسمِّي ويكبِّر فيذبحهما بيده صلوات الله وسلامه عليه) ممَّا يدلُّ على عظيم هذه السنَّة.. أيُّها المسلم: ليس الهدفُ منها اللَّحم، ولكنَّها قربةٌ تتقرَّب بها إلى الله، قال الله جلَّ وعلا: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) إذًاً فذبحُها أفضلُ من الصَّدقة بثمنها. والمسلم يضحِّي عن نفسه وعن أهل بيته، أحيائهم وأمواتهم، فإنَّ نبيَّنا كان يضحِّي بكبشَيْن؛ أحدُ الكبشين عن محمَّد وآل محمَّد، والثاني عمَّن لم يضَحِّ من أمَّة محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه). فضحِّ عن نفسك، وضحِّ عن أهل بيتك، قليلٍ وكثير… وسنَّة محمَّدٍ دلَّت على أنَّ الشاةَ الواحدة تغني الرجلَ وأهلَ بيته؛ قال أبو أيوب الأنصاري رضيَ الله عنه لمَّا سُئل عن الأضاحي في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (كان الرَّجل منَّا يضحِّي بشاةٍ واحدةٍ عنه وعن أهل بيته، حتى تباهى الناس فكانوا كما ترى). بمعنى: أنَّ الرجلَ إذا ذبح أضحيةً واحدةً عنه وعن أهل بيته، الأحياء منهم والأموات، وأشركهم جميعاً في ثوابها؛ نالهم ذلك الثوابُ بفضل الله، فليس الهدف التعدُّد، إنّما الهدفُ التقرُّب إلى الله تعالى.

وبيَّن المشرع السِّنَّ المعتبَر في الأضاحي، ففي الجذع  من الضأن ستَّة أشهر، وفي المَعز سنة وفي البقر سنتان وفي الإبل خمس سنين ولا يجزئ الأضاحي إلا من بهيمة الأنعام؛ من الإبل والبقر والغنم.. ولابدَّ من سلامتها من العيوب التي تمنَع الإجزاء، لأن المقصدَ التقرُّبُ إلى الله بالطيِّب؛ قال تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)  وقد جعل نبيَّنا للأضاحي وقتَ ابتداء، فابتداءُ ذبحها من بعد نهاية صلاة عيد النَّحر، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: (مَنْ صلَّى صلاتَنا ونسك نسكنا؛ فقد أصاب السنَّة، ومَنْ ذبَح قبل الصلاة؛ فليُعِد مكانها أخرى) ووقت انتهاء إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.. نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم أدخلنا الجنة مع السابقين المقربين، وارزقنا الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين.. اللهم آمنا في وطننا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزراءه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، الْلَّهُمَّ كُنْ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِيْنَ الْمُضْطَهَدِيْنَ فِيْ كُلِّ مَكَانٍ، كن لهم ناصراً ومؤيداً، في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن ، الْلَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالهمْ وَأَحْفَظُ دِيْنَهُمْ وَأَمَّنَهُمْ، وَصُنْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ، وَاحْقِنْ دِمَائِهِمْ، وَآَمَنَ رَوْعَهُمْ وَ خَوْفهِمْ، وَارْحَمْ شُهَدَاءَهُمْ، وَأَشَفَّ جَرْحَاهُمْ، وَلَا تَجْعَلْ لْعَدُوِّ وَلَا طَاغِيَةٍ عَلَيْهِمْ سَبِيْلا.. اللهم أحفظ الحجاج والمعتمرين في برك وبحرك وجوك، واجعل حجهم مقبولاً وذنبهم مغفوراً وسعيهم مشكوراً، وردهم إلى أهلهم سالمين غانمين.

اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عِبَادَ الْلَّهِ: إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ، فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

   خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان- مملكة البحرين