الجمعة 12 رمضان 1440هـ

الموافق 17 مايو 2019 م

 

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هدانا للإسلام وأنعم علينا بنزول القرآن، معجزةً محفوظةً، وحجةً باقيةً على تعاقب الأزمان، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، لم يدع شيئاً يقرب من الجنة إلا دلنا عليه، ولا شيئاً يباعد عن النار إلا أرشدنا إليه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد : فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي الزاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم القيامة، (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

معاشر المسلمين: لئن كان من المناسب أن يتحدث المتحدث عن الصيام في هذه الأيام، فإن قرين الصيام هو القرآن، في شهر الصيام تنزل القرآن، والقرآن لم يسم شهراً بعينه، سوى شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ).. (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)

أمة القرآن: إن كل ما يحتاجه المسلمون من صلاح وإصلاح، وحسن معاش ومعاد محصور في هدي القرآن الكريم، وهدي من كان خلقه القرآن، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن أمة الإسلام في كثير من مواقعها وأحوالها تحتاج إلى أن تراجع نفسها في موقفها من قرآن ربها تبارك وتعالى.

إن الكثير منهم يجهلون، أو يغفلون أن للقرآن العظيم تأثيراً حقيقياً في حياتهم المعاشية والمدنية، وإن كثيراً منهم يتشككون أو يترددون في أثره في تحقيق السعادة المنشودة في الدين والدنيا معاً، ولكن أهل العلم والإيمان واليقين يقولون في رسوخ وشموخ، وبلا تردد: ليس في قارات الدنيا وحيٌ من عند الله حقٌ محفوظ، إلا هذا القرآن العظيم، ولن يُعرف الله معرفة صحيحة، ولن يصح إيمان عبد إلا عن طريق هذا القرآن العظيم. (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

كتابٌ استوعب هدي موسى وعيسى والنبيين من قبلهما، عليهم جميعاً وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. اجتمع في هذا القرآن ما تفرق في الرسالات قبله، فحفظ  جميع حقائق النبوات الأولى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) وهيمن عليها: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)

عباد الله: إن وثائق النقل لتتضافر، وإن براهين الإثبات لتتواتر على أن هذا الكتاب عزيز: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) كتاب محفوظ، لم ترق إليه شبهة، ولم يختلط به كلام بشر، ما شانه نقص، ولا شابته زيادة،(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).  كتاب خاص لمحمد، ولأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لم يقع لصاحب رسالة قبله، أن أقام بكتابه دولةً سارت في حياته مسيرتها نحو المشارق والمغارب، وبلغت من بعده دعوتها ما بلغ الليل والنهار: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) كتاب كريم، أودع الله قوته في ذاته، حاول الأعداء قديماً وحديثاً، عربٌ جاهليون، وغربٌ مستشرقون، وزنادقةٌ حاقدون، حاولوا جميعاً العبث به، والتشويش في صدقه، فأجلبوا وتنادوا: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) شككوا في تنزله، وطعنوا في جمعه وتدوينه، ونالوا من قراءاته وحروفه، ولكنها محاولات هزيلة، رجعوا على أعقابهم خاسئين، استمعوا إلى القرآن العظيم، وهو يسجل هذه الدعاوى المخزية في أسلافهم وأخلافهم:  (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) وقالوا:(إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) وقالوا: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) وقالوا: (مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ) ولما عجزوا واندحروا، رضوا لأنفسهم بالدنية والنقيصة، فقالوا: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ).. (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)

يقول بعض المنصفين من المستشرقين: يعتقد بعض العلماء أنَّ القرآن كلام محَمَّد، وهذا هو الخطأ المحضُ، فالقرآن هو كلام الله الموحى على لسان رسوله محَمَّد. وليس في استطاعة محَمَّد، ذلك الرجل الأمِّي في تلك العصور الغابرة أنْ يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء، ويهدي به الناسَ من الظلمات إلى النور. (ويضيف قائلاً) وربَّما تعجبون من اعتراف رجلٍ أوروبِّي بهذه الحقيقة، لكن لا تعجبوا فإنِّي درستُ القرآن فوجدتُ فيه تلك المعاني العالية والنظم المحكم، وتلك البلاغة التي لم أرَ مثلها قطُّ، فجملة واحدةٌ تغني عن مؤلَّفات)

أيها الإخوة والأخوات في الله: الأمة تحتاج إلى أن تراجع مواقفها من قرآنها، القرآن حقٌ من عند الله، من بين دفتيه انطلقت خير أمة أخرجت للناس: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ).

أمة خيرةٌ تربت على مائدة القرآن، أخذت كتاب ربها بقوة، وسارت على نهجه بعزم، خضعت لتعاليمه بإيمان، فهداها للتي هي أقوم، لقد كان هذا القرآن خيراً عاماً تآخت عليه شعوب الإسلام، ونشأت به مدنية كانت زينة الأرض وضياءها، ورحمتها وعدلها، هؤلاء الأسلاف -من الرواد- قرءوا القرآن، فأحيوا به ليلهم رهباناً، وعمروا به نهارهم فرساناً، تفيض أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، يغشاهم الخشوع، ويكسوهم الوقار، كان القرآن ربيع قلوبهم، ونور صدورهم، وجلاء أحزانهم، تأدبت به أخلاقهم، وعمرت به مسالكهم، قوةً في الحق، وورعاً في المآكل والمشارب، وبصراً بأهل الزمان، يقول تعالى: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) لهم في قرآنهم ما يحث عزائمهم إذا كلت، ويحفز هممهم إذا ضعفت: يقول سبحانه(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)

يا أهل القرآن: الأمة تحتاج إلى أن تراجع مواقفها من كتاب ربها، فالقرآن عمدة الملة، والشريعة الكاملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، لا طريق إلى الله سواه، ولا سبيل إلى النجاة بغيره. هل يُدعى إلى الله بغير كتاب الله؟ وهل يُرجى فلاح عباد الله بغير كتاب الله؟

هو التبيان والفرقان، والروح والذكر، هدىً للمتقين، ورحمة للمؤمنين: (آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وذكرى لمن كان له قلب، أحسن الحديث، وأصدق الكلام، وشفاء لما في الصدور، هو نعمة الله السابغة، وحجته الدامغة، نور الأبصار والبصائر، أنزله ربنا وشرفه، وعداً ووعيداً، وأمراً وزجراً، وحكماً وعلماً، ورحمةً وعدلاً.

كتاب لا تفنى عجائبه، وبحر لا يُدرك غوره، وكنز لا تنفد درره، وغيث لا تقلع عن المدرار سحائبه، أنزله ربنا لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً، ونسعد به تذكراً، ونلتزم بأوامره طمعاً، ونجتنب نواهيه خوفاً. تحيا القلوب بمواعظه، وتطمئن النفوس بترتيله، وتقوم الحياة بأحكامه، وتعم السعادة بآدابه، أسلوبه رفيع، ونظمه بديع، لفظه معجز، ونظمه باهر: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) لم يشب بيانه غموض، ولم يعب لفظه ضعف، ولم يدخل معانيه القصور، يقول جل وعلا: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)

الأمة يا عباد الله تحتاج إلى أن تراجع نفسها ومواقفها من قرآنها، أصدق ما تثبت به عقائد الإيمان، وأوضح دليل إلى المعارف والعلوم، وأقرب سبيل إلى برد الطمأنينة في القلوب، وأفضل حديث تناجي به مولاك في الأسحار.

ولكن أيها الإخوة والأخوات في الله: حين عز هذا المنهج، وطال الأمد، واشتغلت الأمة بغيره أو تشاغلت، دب في جسمها دبيب الضعف، وهجرت فئام منها القرآن هجراً غير جميل؛ هجروا براهين القرآن الواضحة في العقائد والإيمان، وسلكوا طرائق محدثة، واصطلاحات مبتدعة، زاعمين أن أدلة القرآن لا تفيد القطع واليقين؛ فحادوا عن الطريق وتاهوا.. أين مكان القرآن في  التحاكم إليه والعمل بتعاليمه، وغرسه في نفوس الناشئة؟! هل ضاق كتاب الله وعلوم القرآن عن أن يعطي حكماً في نازلة؟ أو أن يرسم منهجاً في تربية؟! وهل لا تنبت المناهج، ولا تصح الدساتير إلا في غير ديار المسلمين؟!

نعم، أيها الإخوة: لقد أحسنت الأمة إذ حفظت قرآنها حروفاً ومخارجَ، ومدداً وغنناً، وأداءً وتغنياً، ولكن يجب أن ينضم إلى حسن التلاوة وإجادة القرآن وظيفة التدبر: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) لقد وصف الله عز شأنه أمماً سابقةً بأنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني، إنهم أميون أمية عقل وفهم، وأمية تدبر وعمل، يرددون كتابهم تلاوةً من غير فقه ولا عمل، وأمية العقل والفكر؛ عنوان حالات الضعف والتبعية، ولقد أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين حدث أصحابه يوماً، فذكر لهم أشياء قال فيها:(وذاك عند ذهاب العلم، فقام زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! كيف يذهب العلم، ونحن قرأنا القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا زياد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة،ثم ذكر له، أن هناك أمماً من قبلنا نزل عليها من ربها كتب، ولم تنتفع مما فيها بشيء)  ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون)

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن ميدان القرآن مسجد  ومعهد ، وبيت ومدرسة، وسوق ومعركة، وروح وعقل، يتلى من المصاحف والصدور، في المساجد والمنازل، في الصلوات والخلوات على ألسنة المتعبدين والمتعلمين، تلهج به الجيوش في زحفها، وتقطع به الجنوب المتجافية ليلها في محاريبها، جعلته دستورها كما جعلته ذكرها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى  * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، وجلاء همومنا وغمومنا، ونور أبصارنا، وهدايتنا في الدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا ممن يقيم حروفه وحدوده، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده. اللهم اجعله شاهداً لنا، واجعله شفيعاً، يا رب العالمين!

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين،  أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الحميد المجيد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والقرآن المجيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: هذا هو شهر الخيرات والبركات والرحمات، الذي تتجلَّى فيه النفوسُ الصافية، وتصعدُ فيه الهِمَم النديَّة إلى معالي الإيمان والمعرفة بالله  سبحانه.. شهرٌ تضيقُ فيه منافذُ الشياطين، فتصفُو عبادةُ المرءِ لربه، ويلَذُّ الأُنسُ بكتابه العزيز (الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) إنه شهر القرآن الكريم، شهرُ الانكسار والمُناجاة، شهرُ التدبُّر والتفكر والاعتبار والخشية؛ لأن المرءَ بلا قرآن كالحياة بلا ماءٍ ولا هواءٍ، وهو بمثابة الروح للحياة، والنور للهداية.. خيرُ جليسٍ لا يُملُّ حديثُه، وتَردادُه يزدادُ به المرءُ تجمُّلًا وبهاءً… هو الكتابُ الذي من قام يقرأه كأنما خاطبَ الرحمن بالكلِم، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

دخل أبو جهلٍ على الوليد بن المُغيرة، يُحرِّضه على النبي  صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به من القرآن، فقال أبو جهلٍ للوليد: قُل فيه قولًاً يبلغُ قومَك أنك كارهٌ له. قال الوليد: وماذا أقول؟ فَوَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالأَشْعَارِ مِنِّي، وَلا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، فَوَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ لَحَلاوَةٌ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو، وَمَا يُعْلَى عليه) نعم  عباد الله ؛ هذا هو القرآن الذي أدهشَ العقول وأبكَى العيون، وأخذ بالألباب والأفئدة، وطأطأت له رؤوسُ الكُفر، وصدق الله العظيم حيث يقول: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)

أيها المؤمنون: لقد كان صيامُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم  مُزْداناً بقراءة القرآن ذِكْراً وتلاوةً وتدبُّراً، فالقرآن سميرُه وأنيسُه، يُذاكره جبريل عليه السلام القرآن كلَّ سَنَة، فيَقِف عند مواعظِه، ويتأمَّل أسرارَه وحِكمَه، فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما  قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)… وأدركَ السَّلفُ الصالِح، والتابعون لهم بإحسان رحمهم الله، سِرَّ عظمةِ هذا القرآن، فطاروا بعجائبه، وعاشوا مواعظَه وحلاوتَه، وفي المواسم الفاضلة يَزداد التعلُّق به، ويشتدُّ التسابُق إلى تلاوته؛ فكان الإمام محمد بن شهاب الزهريُّ  رحمه الله،  إذا دخل رمضان يقول: (إنَّما هو قراءة القرآن، وإطعام الطعام)، وكان الإمام مالك  رحمه الله  إذا دخل رمضانُ يفِرُّ من قراءة الحديث ومجالسةِ أهلِ العِلم، ويتفرغ لقراءة القرآن)، وكان سفيان الثوريُّ رحمه الله، إذا دخل رمضان تَرَك جميعَ العبادة، وأقبل على قراءة القرآن)

يقول صلى الله عليه وسلم  مرغباً وحاثاً على الإكثار من قراءة القرآن: (اقرؤُوا القُرآن فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأَصحابه) ويقول عليه الصلاة والسلام: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًاً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ)

ألا فاتقوا الله عباد الله ، وأرُوا اللهَ من أنفسكم خيراً في هذا الشهر المبارك، قُرباً من كتابه، تلاوةً وتدبُّراً وعملًاً وهدايةً، تسعدوا وتفلحوا وتفوزوا في الدنيا والآخرة.

اللهم اجعل القرآن لقلوبنا ضياء، ولأبصارنا جلاء، ولأسقامنا دواء، ولذنوبنا ممحصا، وعن النار مخلصا. اللهم ألبسنا به الحلل، وأسكنا به الظلل،وأسبغ علينا به النعم،وادفع به عنا النقم،واجعلنا به عند الجزآء من الفائزين،وعند النعماء من الشاكرين،وعند البلاء من الصابرين،ولا تجعلنا ممن استهوته الشياطين،فشغلته بالدنيا عن الدين،فأصبح من النادمين،وفي الآخرة من الخاسرين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم آمنا في وطننا، وأجعله آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم جنبنا الشرور والفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، وأنعم علينا بالأمن والأمان والخير والرخاء والعزة والمنعة يا رب العالمين. اللهم وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام.. اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء… اللهم أحفظ بلادنا البحرين من كل سوء ومكروه، وأدم علينا نعمة الأمن والإيمان والاستقرار،وألف بين قلوبنا رعاة ورعية، وجنبنا كل ما يؤدي إلى تباعد القلوب وتباغضها، اللهم اجمع كلمتنا على الحق، وأطفئ مشاعل الفتنة، وسد مسارب الفوضى، واجعلنا صفاً واحداً على كل من أراد الشر لبلادنا يا أرحم الراحمين. اللهم كن لإخواننا المستضعفين ناصرا ومؤيدا،اللهم كن لهم في فلسطين وفي  بلاد الشام وفي اليمن وفي كل مكان، اللهم أصلح أحوالهم، وفرج همهم ونفس كربهم،واحقن دمائهم،وحقق آمالهم، وألف بين قلوبهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلا. اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير..

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

    خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين