الجمعة 28 شعبان 1440 هـ

الموافق 3 مايو 2019 م

الحمد لله يمن على عباده بمواسم الخيرات، ليغفر لهم بذلك الذنوب ويكفّر عنهم السيئات، وليضاعف لهم به الأجور ويرفع الدرجات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واسع العطايا وجزيل الهبات، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل المخلوقات، أتقى الناس لربه وأخشاهم له في جميع الحالات،صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما توالت الشهور والأوقات وسلم تسليما كثيراً.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله رحمكم الله، (فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ) النعيم في هذه الدار لا يدوم، والأجل فيها على الخلائق محتوم، انظروا مصارعَ المنايا، وتأمّلوا قوارعَ الرزايا، ورحم الله أمرأً عمّر بالطاعة لياليَه وأيامَه، وأعدّ العدّة للحساب يوم القيامَة، قدّم صالحَ الأعمال، وحاسب نفسَه في جميع الأحوال، (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

معاشر المسلمين: سنة الله تعالى في خلقه، حياة ثم ممات، وحكمته في كونه، قدوم  وفوات، واقتضت فطرة الله عز وجل على بني البشر النقص والهفوات، والتقصير في أداء التكاليف والواجبات، ولهذا شرع سبحانه وتعالى، مواسم تمسح الذنوب والآفات، وتغسل الزلات، وتزيل العثرات ، مواسم تزيد في الحسنات، ويمحو الله بها الكثير من السيئات، ومن تلكم المواسم ، شهر رمضان المبارك، الذي ينتظر قدومه المسلمون بكل لهف، ويتأمله المؤمنون بكل شغف، وما هو إلا يوم أو يومان، ويحل هذا الضيف بيننا، فمرحباً بشهر رمضان المبارك ، فهكذا تُطوى الليالي والأيام، وتتقلص الأعداد والأرقام، وتنصرم الشهور والأعوام، والناس قسمان، قسم قضى نحبه، مرتهن بعمله، حسابه على ربه، وقسم ينتظر، فإذا بلغ الكتاب أجله،  (فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) فطوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً،  وطوبى لمن صدقت نيته، وطابت سجيته، وحسنت طويته، فكم من الناس من ينتظر شهر رمضان بلهفة وشوق، لينهل من بركاته، ويغترف من خيراته، فهو المعين الدافق، والنهر الخافق، وهو شهر النفحات والرحمات الربانية، وما أحوجنا إليها في زمن ضعف فيه الإيمان، وفسدت فيه الكثير من القيم والأخلاق، وقست القلوب، وزاد القلق والهموم والغموم، وكثرت الهواجس، وضعف اليقين بما عند الله وما أعده لعباده. فما أحوجنا لهذه النفحات الربانية، يقول صلى الله عليه وسلم: (افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَفَحَاتٌ مِنْ رَحْمَتِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ). والنفحة عباد الله:هي الدفعة من العطية… وقد أجمل سبحانه نفحات هذا الشهر بقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )

أيها المؤمنون : إن بلوغ شهر رمضان، لنعمة كبرى، ومنة عظمى، يقدرها حق قدرها، الصالحون المشمرون،(بلغنا الله وإياكم شهر رمضان، وأعاننا فيه على الطاعات)، فواجب على كل مسلم ومسلمة منَّ الله عليه ببلوغ شهر رمضان، أن يغتنم الفرصة ويقطف الثمرة، فإنها إن فاتت كانت حسرة ما بعدها حسرة، وندامة لا تعدلها ندامة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان، تهيئةً لنفوسهم، وشحذاً لهممهم،يقول صلى الله عليه وسلم:  لما حضر رمضان: (قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا ، فقَدْ حُرِمَ)

فهذا رمضان يا عباد الله مقبل علينا بعد أيام قليلة،  فأقبلوا عليه، وخذوا منه الصحة لأجسامكم، والسمو لأرواحكم، والعظمة لنفوسكم، والقوة لأجسادكم، والبذل والفضل، والكرم والعفو والتسامح والصدق، لتسموا أخلاقكم،  فرمضان فرصة لتربية النفس في هذه الجوانب، لتستقيم طوال العام، ومن لم يدرك هذه الحقائق الربانية، فقد يخسر وأي خسارة أعظم من السقوط من عين الله ورعايته ورحمته،يقول صلى الله عليه وسلم، (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) ويقول عليه الصلاة والسلام: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ والتعب)

عباد الله: ورمضان فرصة للتوبة النصوح، والندم على ما فات من التقصير، والعزم على عدم العودة للذنوب والمعاصي والآثام، فالتوبة إليه والتضرع بين يديه من أهم الأعمال في شهر رمضان .. فكلنا والله ذوو خطأ، وكلنا ذاك المذنب، والخطأ من طبيعة البشر، والمعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، والكمال لصاحب الكمال سبحانه، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون. يقول صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُم). ولكن المصيبة يا عباد الله، أن نبقى على الخطأ، وأن ندوم على الذنب، وأن نصر على المعصية التي هي والله شؤم، وهي والله وحشة وعذاب من الله الواحد الديان.

فيا أيها المذنب وكلنا ذاك المذنب، ويا من زل وأخطأ وأذنب، ويا من بارز الله بالمعصية ، تب إلى الله وعد إلى رحابه قبل أن تفضح في يوم الفضائح، وتندم حين لا ينفع الندم (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)… عباد الله:إن من أعظم الأمور المعينة على التوبة، أن يستحضر العبد سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، فهو القائل: (قُلْ يَٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ) وهو القائل سبحانه وتعالى: (وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وفي الصحيحين أن رجلاً أسرف على نفسه في الخطايا فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً ثم احرقوني بالنار ثم اسحقوني وذروني مع الريح، فلما توفي هذا الرجل وفعل أولاده بوصيته قال له الله: يا عبدي، ما الذي حملك على ما فعلت؟ قال: يا رب، خفتك وخشيت ذنوبي، فقال الله: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة…

أيها المسلمون: يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)

ويقول صلى الله عليه وسلم: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ..)

عباد الله: إن رمضان المبارك خطوة نحو التغيير لمن هجر  قراءة القرآن الكريم، وتدبر أحكامه والعمل بما فيه،فينبغي للمسلم أن يحدد لنفسه ورداً معيناً يحافظ عليه في كل يوم،  فيربي نفسه، ويزكي أخلاقه، ويعرف مكانه من الله، يقول تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) هذا الأحنف بن قيس رحمه الله، كان جالساً يوماً قبل شهر رمضان بأيام، فجال بخاطره قوله تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فقال رحمه الله : عليّ بالمصحف لألتمس ذكري، حتى أعلم من أنا وما هي أعمالي ؟ فمر بقوم وهو يقرأ كتاب الله، قال تعالى فيهم (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ومر بقوم قال تعالى فيهم (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ومر بقوم وهو يقرأ في كتاب الله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فقال تواضعاُ منه : اللهم لست أعرف نفسي في هؤلاء، ثم أخذ يقرأ فمر بقوم قال تعالى فيهم (إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) ومر بقوم : يقال لهم (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) فقال : اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء، حتى مر على قومٍ وهو يقرأ كتاب الله، قال الله فيهم : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) فقال  اللهم أني من هؤلاء .. فاغفر اللهم الذنوب، واستر العيوب وتجاوز عن السيئات، وبلغنا رمضان بتوبة نصوح، وعمل صالح يا ذا الجلال والإكرام.

أيها المسلمون: ليكن رمضان هذا العام، مختلف عن كل عام، فنؤدي فيه الصيام بشروطه وأحكامه وآدابه، ونعزم فيه على التوبة من الذنوب والمعاصي، ونرد فيه الحقوق و المظالم إلى أهلها، ونستغل أوقاته بالصلاة والقيام وصلاة التراويح والذكر والدعاء والصدقة وقراءة القرآن ..  ولنقم فيه بإصلاح ما فسد من العلاقات فيما بيننا.. بين الأخ وأخيه،والجار وجاره، والصديق وصديقه،والقريب وقريبه، ولنصل أرحامنا، وعلينا أن نجعل من رمضان نقطة لتزكية نفوسنا، وتهذيبها بالأخلاق، وعلينا القيام بواجباتنا ومسئولياتنا على أكمل وجه، ولنتراحم فيما بيننا، فيعطف الكبير على الصغير، والغني على الفقير، ويرحم القوي الضعيف .. فوالله لقد آن لنا أن نقوم بهذه الأعمال، حتى يكتب سبحانه وتعالى لنا الفوز والنجاة في الدنيا والآخرة، ولكي ينظر إلينا سبحانه وتعالى برحمته وعفوه، فيرفع عنا كل شر ومكروه وبلاء، وقد حذر سبحانه من هذه الغفلة فقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) فلنستعد بنية خالصة لوجه الحي القيوم، ولنستبشر ولنفرح بمواسم العبادات والطاعات، لما فيها من الفضائل والمنح والهبات، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)

فاللهم اجعلنا لك ذاكرين .. لك شاكرين .. لك خاضعين .. لك صائمين ومنفقين ومتصدقين،  اللهم بلغنا رمضان وبارك لنا فيه وأعنا على الصيام والقيام وسائر الطاعات، واكتب لنا فيه القبول والرضوان، يا سميع الدعاء.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله يمُن على عباده بمواسم الخيرات،ونشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ربُ البريات،ونشهدُ أن سيدَنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسولُه المبعوثُ بكريم السجايا وشريف الصفات، صلى الله وسلم وبارك عليه،وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات،والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما دامت الأرض والسماوات.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، وسابقوا إلى مغفرته ومرضاته.

أيها المسلمون: لقد أظلنا زمان شهر رمضان المبارك ، كنّا قد وعدنا أنفسنا قبله أعواماً ومواسم، بالتوبة والعمل الصالح، ولعل بعضنا قد أمَّل وسوَّف وقصَّر، فها هو قد مدَّ له في أجله، وأخّر وأمهل، حتى قرب من شهر رمضان، فماذا عساه بعد هذا أن يفعل؟! نسأل الله تعالى أن يبلغنا بمنه وفضله هذا الشهر الكريم بالصحة والعافية والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ويرضاه…

فكم ياعباد الله نعرف من الأهل والآباء والأمهات والأبناء والإخوان والأقارب والجيران صاموا معنا في العام الماضي، وهم الآن تحت الجنادل والتراب وحدهم، أتاهم الموت، أتاهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وآخذ البنين والبنات، فاختطفهم من بين أيدينا، أسكتهم والله فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، كأنهم والله ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب ولا صاموا مع من صام.

كم كنت تعرف ممن صام في سلف

من بين أهـل وجيـران وإخوان

أفناهـم المـوت واستبقاك بعدهم حياً

فما أقرب القاصي من الداني

فهل من تائب إلى الله يا عباد الله ؟ هل من عائد إلى رحاب ربه ؟ وهل من توبة صادقة؟ وهل من عودة حميدة؟…يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره، وابيض شعره، ودنا أجله، وهو مصر على الذنوب والمعاصي، ماذا أعددت للقاء الله؟ وماذا بقي لك في هذه الدنيا؟ يقول سفيان الثوري رحمه الله: (إذا بلغ العبد ستين سنة، فليشتر كفناً وليهاجر إلى الله عز وجل)… ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل،وأسرف على نفسه بالمعاصي، ماذا أعددت للقاء الله؟ متى تستفيق إن لم تستفق اليوم؟ ومتى تتوب إن لم تتب في هذه الساعات؟ ومتى تعمل إن لم تعمل في هذه اللحظات؟ ألا ترى قصر الأعمار، وموت الشباب، وفجآءة الموت، وكثرة المشَيعين؟

إن الواجب علينا جميعاً أن نتقي الله عز وجل ونتخذ من استقبال شهرنا موقف محاسبة وتوبة، ونقطة رجوع إلى الله وعودة إلى حماه، فمن كان تاركًاً للصلاة فليتب، ومن كان عاصياً لله  فلينب، ليهتم كل أب ببيته وتربية أبنائه على تعاليم الإسلام، فإنه سيموت وحده، ويبعث وحده، ويحاسب على ما قدمت يداه، ليكن كل إنسان منا مفتاحاً للخير مغلاقًاً للشر، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر،بالحكمة والموعظة الحسنة، وليجعل من نفسه مشعل خير في أهل بيته وحيّه ومن حوله،وفي وطنه، لنكن أمة واحدة كما أراد الله منا حين قال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)…

يا أسير الذنوب والشهوات، هذا شهر التوبة. يا عاكفاً على المعاصي والمحرمات، هذا شهر الطاعة. يا مدمن الغيبة والنميمة والنظر والاستماع إلى ما حرم الله،هذا شهر الرجوع إلى الله، يا آكل الربا، يا متعاملاً بالرشوة وآكلاً أموال الناس بالباطل، يا سارقاً ومختلساً من الأموال العامة والخاصة،يا شارباً للخمر ويا متعاطياً للمخدرات،ويا عابثاً بأعراض الناس، ويا مسيئاً لوطنه ومزعزعاً لأمنه واستقراره، هذا شهر الأوبة والإنابة، هذا شهر صوم الجوارح وصونها عن كل ما يغضب الله، هذا شهر القرآن فاتلوه، هذا شهر الغفران فاطلبوه، هذا شهر الصيام والقيام والبر والإحسان فافعلوه،اللهم بارك لنا فيما بقي من شعبان، وبلغنا برحمتك شهر رمضان،يا ذا الجلال والإكرام..

اللهم أهله علينا وعلى بلادنا وقيادتنا وعلى جميع المسلمين، بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى.. اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن والمحن. اَللّهُمَّ اجعَلنا فيهِ مِنَ المُستَغْفِرينَ، وَ اجعَلنا فيهِ مِن عِبادِكَ الصّالحينَ القانِتينَ، و اجعَلنا فيهِ مِن أوليائك المُقَرَّبينَ، بِرحمتك يا اَرحَمَ الرّاحمينَ.

اللهم أقل عثراتنا،واغفر زلاتنا،وكفر عنا سيئاتنا،وتوفنا مع الأبرار.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم آمنا في وطننا،وألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين،  الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ وَرَئِيْسَ وُزَرَائِهِ خَلِيْفَةً بْن سَلْمَان وَوَلِيَّ عَهْدِهِ سَلْمَانَ بِن حَمَدٍ، الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ، وَسَدِّدْ عَلَىَ طَرِيْقِ الْخَيْرِ خُطَاهُمْ، وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَارَبْ الْعَالَمِيْنَ… اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين وأحفظ خليجنا وأمننا، وجيوشنا من كيد الكائدين ومكر الماكرين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوالهم في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي اليمن وفي الجزائر وفي السودان وفي ليبيا وفي كل مكان، اللهم ألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم، وولي عليهم خيارهم وأصرف عنهم شرارهم.

اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.

اللهم ومن قضيت بقطع آجالهم منا وتوفيتهم إليك ولم تبلغهم شهر رمضان، فنسألك اللهم أن تغفر لهم وترحمهم، وتعافهم وتعفوا عنهم، وتكرم نزلهم، وتوسع مدخلهم،وتغسلهم بالماء والثلج والبرد، وتنقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم وأنزل في قبورهم الضياء والنور، والفسحة والسرور،والكرامة والحبور،وجازهم بالإحسان إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفراناً… وارزق أهلهم وذويهم الصبر والسلوان. وارحمنا يا مولانا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت الجنادل والتراب، ونجنا من عذاب القبر ومن هول الحساب برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله:إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون،فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم،ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون،ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين