الجمعة 21 شعبان 1440 هـ

الموافق 26 إبريل 2019 م

الحمد لله يمن على عباده بمواسم الخير أفراحاً، ويدفع عنهم بلطفه أسباب الردى شروراً وأتراحاً، نحمده تعالى ونشكره شكراً يتجدد ويتألق غدواً ورواحاً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مبدع الكائنات أرواحاً وأشباحاً، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، رافع لواء الدين دعوة وإصلاحاً، والهادي إلى طريق الرشاد سعادة وفلاحاً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه خيار هذه الأمة تقىً وصلاحاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام مساءً وصباحاً وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فهي العدة العتيدة لمن رام خيراً وصلاحاً، ونشد عزاً وفلاحاً، وقصد براً وتوفيقاً ونجاحاً. (وَاتَّقُوا يَوماً تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ)

معاشر المسلمين: إن لله جل وعلا منحاً وعطايا ينعم بها على عباده في كل حين، وهذه هي حال الكريم الرحيم مع عباده الفقراء المحتاجين إليه، وكل يوم هو في شأن؛ يستر ذنباً، ويعفو عن زلة، ويمحو سيئة، ويقبل توبة، ويرفع درجة.

أيها المؤمنون: يا لها من أيام قليلة معدودة تمرّ مرّ البرق وتنقضي انقضاء الحلم، ويا للعجب! كيف مرّ علينا عام كامل بكلّ ما فيه، فإذا بنا مرّة أخرى نستعدّ لاستقبال رمضان جديد، نسأل الله تعالى أن يبلّغنا إياه.

إننا جميعاً الآن يا عباد الله على أبواب رمضان، فمن منا فكر في الاستعداد له والتهيؤ لاستقباله؟! أتدرون ما مشكلة بعض المسلمين ؟! مشكلتهم في كل عام يأتيهم رمضان وهم غافلون، لا يكاد يجد بعضهم طعم العبادة وحلاوة الطاعة إلا وقد انقضى رمضان وانطوت صحائفه بما فيها من إحسان المحسن وإساءة المسيء، فيندمون ويتحسرون ويتألمون، ويقولون: نعوّض في العام القادم، ويأتي العام القادم فلا يكون أحسن حالاً من سابقه، وهكذا حتى ربما كان آخر رمضان يدركونه ولا زالوا يؤجّلون.

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا

ندمت على التفريط في زمن البذرِ

هل رأيتم مزارعاً يترك البذر ويرجو الحصاد؟! إنها سنة الله، أن لا يدرك إلا المجدّ، ولا يحصّل إلا الباذل… وإذا كان الإنسان حريصاً أن يستعدّ لأمور دنياه أفلا يستعدّ المسلم للطاعة ويتهيأ للعبادة؟ ولو أننا تذكّرنا ما كان يقال عن أسلافنا رحمهم الله وأنهم كانوا يستقبلون رمضان قبل مجيئه بستة أشهر، ويدعون الله أن يبلغهم أياه، فإذا بلغهم دعوا الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكانوا يقولون في دعائهم: (اللهم سلمنا لرمضان، وسلم رمضان لنا، وتسلمه منا متقبلاً). لو تذكرنا هذا لعرفنا لماذا كانوا يجدون لرمضان طعماً لا يجده كثير منا.. إن رمضان عباد الله مزرعة الآخرة، فهل من زارع؟! ورمضان فرصة للتائبين فهل من تائب؟!

أيها المسلمون: هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، ووصلت البشارة للمنقطعين عن الله بالوصل، وللمذنبين بالعفو، وللمستوجبين النار بالعتق.

فها هو من طالت غيبته قد قرب قدومه، فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا شموس التقوى والإيمان أطلعي، ويا قلوب المشفقين اخشعي، ويا جوارح المتهجدين اسجدي لربك واركعي، وبغير جنان الخلد ـ أيتها الهمم العالية ـ لا تقنعي. يا ذنوب التائبين لا ترجعي، ويا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي، طوبى لمن أجاب وأصاب، وويل لمن طرد عن رحمة الله عزوجل فخاب.

أيها المسلمون: إنّ الناس في استقبال هذا الشهر العظيم على ثلاثة أصناف:

فمنهم من هو إليه بالأشواق، يعدّ الأيام والساعات شوقًاً ورغبة إلى لقاء رمضان، الشهر الذي أحبّه وأنِس به، ولسان حاله يقول:

مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام… يا حبيباً زارنا في كل عام

قد لقيناك بحب مفعم….. كل حب في سوى المولى حرام

فاغفر اللهم ربي ذنبناً …. ثم زدنا من عطاياك الجسام

لا تعاقبنا فقد عاقبنا… قلق أسهرنا جنح الظلام

وقال الآخر:

أَشْرَقَ النُّورُ وَبَانَا

مَرْحَباً يَا مَنْ أَتَانَا

أَيُّهَا الزَّائِرُ أَهْلاً

لَكَ فِي القَلْب مَكَانَا

عباد الله: ومن الناس صنف لا فرق عندهم بين رمضان وغيره، فهم يستقبلونه بقلب بارد ونفس فاترة، لا ترى لهذا الشهر ميزة عن غيره إلا أنها تمتنع فيه عن الطعام والشراب، فهم يصبحون فيه ويمسون كما يصبحون ويمسون في غيره، لا تتحرك قلوبهم شوقًاً ولا تخفق حباً، ولا يشعرون أن عليهم في هذا الشهر أن يجدّوا أكثر مما سواه.

وصنف من الناس ضاقت نفوسهم بهذا الشهر العظيم، ورأوا فيه حبساً عن المتَع والشهوات، فضاقوا به وتمنّوا أن لم يكن قد حلّ، لا يعرفون من رمضان إلا أنه وقت السهر في الليل على اللهو والغفلة، ووقت النوم في النهار، فتجده معظم نهاره نائماً، فينام حتى عن الصلاة المفروضة. وقد روت لنا كتب الأدب خبر واحد من هؤلاء، أدركه شهر رمضان فضاق به ذرعاً فجعل يقول:

أتانِيَ شَهْرُ الصَّومِ  لاَ كَانَ  مِنْ  شَهْرِ …      وَلاَ  صُمْتُ  شَهْراً   بَعْدَهُ   آخِرَ   الدَّهْرِ

فَلَوْ     كَانَ     يُعْدِيني     الأَنَامُ     بِقُوَّةٍ  …      عَلَى الشَّهْرِ لاَسْتَعْدَيْتُ قَوْمِي على الشَّهرِ

فابتلاه الله عز وجل بمرض الصرع، فصار يصرع في كل رمضان… فتأمل حالك أيها الأخ المسلم، وانظر من أي الأصناف أنت.

كم من شخص سمع موعظة ثم ها هو الآن موسّد في الثرى يتمنى لحظة يسبّح فيها تسبيحة فلا يقدر عليها، ويرجو ثانية ينطق فيها بلا إله إلا الله فلا يجاب رجاؤه.

أيها الإخوة والأخوات في الله: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم  يهنّئ أصحابه بحلول هذا الشهر الكريم، ويعلن لهم عن فضائله شحذًا لهممهم وعزائمهم، وتشويقًا لهم لاغتنام أيامه وساعاته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين، وفتحت أبواب الجنة)، وقال: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟!”. وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يبق منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)، وقال عليه الصلاة والسلام : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

نعم يا عباد الله، بمثل هذه الأحاديث العظيمة كان صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه إذا أظلتهم بشائر شهر رمضان؛ لينشط من هممهم إلى الطاعة والعبادة، وليصرفهم عن دنياهم إلى أخراهم، ومن متاع فانٍ إلى تجارة رابحة دائمة، فهل لنا في ذلك متعظ؟!

عباد الله:إن علينا أن نستقبل شهر رمضان بتوبة صادقة خالصة نصوحٍ، نقلع فيها عن كل معصية، ونندم على كل ما مضى من أعمارنا في معصية الله، ونعاهد الله ألا نعود لمعصية… فكلنا ذوو خطأ، وكلنا ذاك المذنب، والخطأ من طبيعة البشر والمعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، والكمال لصاحب الكمال سبحانه وتعالى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون. قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم). ولكن المصيبة يا عباد الله أن نبقى على الخطأ، وأن ندوم على الذنب، وأن نصر على المعصية التي هي والله شؤم، وهي والله وحشة وعذاب من الله الواحد الديان. فيا أيها المذنب وكلنا ذاك المذنب، ويا من زل وأخطأ وأذنب، ويا من بارز الله بالمعصية ، تب إلى الله وعد إلى رحابه قبل أن تفضح في يوم الفضائح، وتندم حين لا ينفع الندم (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)

عباد الله:إن من أعظم الأمور المعينة على التوبة، أن يستحضر العبد سعة رحمة الله سبحانه وتعالى فهو القائل: (قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ) وهو القائل سبحانه وتعالى: (وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

وفي الصحيحين أن رجلاً أسرف على نفسه في الخطايا فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً ثم احرقوني بالنار ثم اسحقوني وذروني مع الريح، فلما توفي هذا الرجل وفعل أولاده بوصيته قال له الله: يا عبدي، ما الذي حملك على ما فعلت؟ قال: يا رب، خفتك وخشيت ذنوبي، فقال الله: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة…

وفي صحيح البخاري رحمه الله: أن سبياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا بامرأة من نساء السبي جاءت تبحث عن صبي لها فقدته، فأخذت تقلب الأطفال واحداً واحدا، ثم وجدت طفلها بعد مشقة وعناء، فألصقته في بطنها وأخذت ترضعه، والرسول صلى الله عليه وسلم  وصحابته يرقبون الموقف ويرقبون المرأة وهي تذرف الدموع رحمة بوليدها، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)، قالوا: لا يا رسول الله، فقال : (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)…

فيا له من فضلٍ عظيم، وعطاء واسع جسيم، من ربٍّ كريم، وخالقٍ رحيم، أكرمنا بعفوِه، وغشَّانا بحِلمِه ومغفرتِه، وجلَّلنا بسِتره، وفتح لنا بابَ توبته. يعفو ويصفَح، ويتلطَّف ويسمَح، وبتوبةِ عبدِه يفرَح،(غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)،(يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ)،(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)،(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) ،(يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيءُ النّهارِ، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل، حتى تطلعَ الشمس من مغربها).

اللهمّ اجعلنا ممّن أدرك رمضان، اللهمّ بلّغنا شهرَ رمضان، وارزُقنا فيه توبةً نصوحا، تُمحَى بها الأوزار ونرتقي بها إلى منازلِ الأبرار، يا عزيز يا غفّار.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله يمنُّ على عباده بمواسم الخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب البريات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث بكريم السجايا وشريف الصفات، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.

أما بعد فيا أيها المسلمون: أتاكم شهرُ المرابحة بظلالِه ونوالِه وجمالِه وجلالِه، زائرٌ زاهر، وشهر عاطِر، فضلُه ظاهر، بالخيراتِ زاخر، أرفعُ من أن يُحَدَّ حُسنُ ذاتِه، وأبدع من أن تُعدَّ نفحاتُه، وتحصى خيراتُه، وتستقصَى ثمراتُه، فحُثّوا حزمَ جزمِكم، وشدّوا لبَد عزمكم، وأروا الله خيراً مِن أنفسكم، فبالجدّ فاز من فاز، وبالعزم جازَ مَن جاز، واعلَموا أنّ من دام كسله خاب أمله، وتحقَّق فشله، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله يجتهِد في رمضانَ ما لا يجتهِد في غيره).

أيّها المؤمنون: أتاكم شهرُ القبول والسّعود، والعتقِ والجود، والترقّي والصّعود، فيا خسارة أهلِ الرّقود والصّدود، فعن أنس رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم : (قال الله عزّ وجلّ: إذا تقرب العبد إلي شبراً تقرّبت إليه ذِراعاً، وإذا تقرّب مني ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإذا أتاني مشياً أتيته هرولة)

أيّها المسلمون: هذا نسيم القَبول هبّ، هذا سيلُ الخير صَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا الشّيطان كبّ، يقول صلى الله عليه وسلم:( إذا كانت أوّلُ ليلة مِن رمضان صُفّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبوابُ النار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلَق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلَّ ليلة)

أيّها المسلمون: هذا زمانُ الإياب، هذا مغتسلٌ بارِد وشراب، رحمةً من الكريم الوهّاب، فأسرعوا بالمتَاب، فقد قرب الاغتراب في دار الأجداث والتّراب.

قرُب منا رمضان فكم قريب لنا فقدناه، وكم عزيز علينا دفنّاه، وكم حبيب لنا في اللحد أضجعناه. فيا من ألِف الذنوبَ وأجرمَا، يا مَن غدا على زلاّته متندِّمَا، تُب فدونك المنى والمغنمَا، والله يحبّ أن يجود ويرحمَا، وينيلَ التّائبين فضلَه تكرُّمًا، فطوبَى لمَن غسل في رمضان درنَ الذّنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبلَ فوْت الأوبة… يا من أوردَ نفسَه مشارعَ البوَار، وأسامَها في مسارح الخَسار، وأقامَها في مهواة المعَاصي والأوزار، وجعلها على شَفا جُرفٍ هار، كم في كتابك من زَلل، كم في عملِك من خلَل، كم ضيّعتَ واجباً وفرضاً، كم نقضتَ عهداً محكماً نقضاً، كم أتيتَ حراماً صريحاً محضاً، فبادِر التّوبة ما دمتَ في زمن الإنظار، واستدرِك فائتًا قبل أن لا تُقال العِثار، وأقلِع عن الذنوب والأوزار، وأظهِر النّدم والاستغفار، فإنّ الله يبسُط يده بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل، ويبسط يدَه باللّيل ليتوبَ مسيء النّهار…

يا أسيرَ المعاصي، يا سجينَ المخازي، هذا شهرٌ يُفَكّ فيه العاني، ويعتَق فيه الجاني، ويتجَاوَز عن العاصي، فبادِر الفرصَة، وحاذِر الفوتَة، ولا تكن ممّن أبى، وخرج رمضان ولم ينَل فيه الغفرانَ والمُنى، صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبَر فقال: (آمينَ آمينَ آمين)، فقيل: يا رسول الله، إنّك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين!! فقال : (إنّ جبريلَ عليه السلام أتاني فقال: مَن أدرك شهرَ رمضانَ فلم يُغفَر له فدخَل النار فأبعَده الله قل: آمين، قلت: آمين).

في هذا الشهر عباد الله ذنوب مغفورة، وعيوب مستورة، ومضاعفة للأجور، وعتق من النار، يجوع الصائم وهو قادر على الطعام، ويعاني من العطش وهو قادر على الشراب، لا رقيب عليه إلا الله، يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجل الله تبارك وتعالى. الألسنة صائمة عن الرفث والجهل والصخب، والآذان معرضة عن السماع المحرّم، والأعين محفوظة عن النظر المحظور، والقلوب كافّة لا تعزم على إثم أو خطيئة، في النهار عمل وإتقان، وفي الليل تهجد وقرآن، صحة للأجساد، وتهذيب للنفوس، وضبط للإرادات، وإيقاظ لمشاعر الرحمة، وتدريب على الصبر والرضا، واستسلام لله رب العالمين. فاجتهدوا رحمني الله وإياكم، واعرفوا لشهركم فضله، وأملوا وأبشروا. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

اللهم أهل علينا شهر رمضان، برحمتك ورضوانك، والفوزِ بنعيمك وجنانك. اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن والمحن يارب العالمين. اللهم أهله علينا وعلى بلادنا ملكاً وحكومةً وشعباً وعلى جميع المسلمين، بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى.. اَللّهُمَّ اجعَلنا فيهِ مِنَ المُستَغْفِرينَ، وَ اجعَلنا فيهِ مِن عِبادِكَ الصّالحينَ القانِتينَ، و اجعَلنا فيهِ مِن أوليائك المُقَرَّبينَ، بِرحمتك يا اَرحَمَ الرّاحمينَ.

اللهم أقل عثراتنا،واغفر زلاتنا،وكفر عنا سيئاتنا،وتوفنا مع الأبرار.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين. اللهم آمنا في وطننا، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين،  الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ وَرَئِيْسَ وُزَرَائِهِ خَلِيْفَةً بْن سَلْمَان وَوَلِيَّ عَهْدِهِ سَلْمَانَ بِن حَمَدٍ، الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ، وَسَدِّدْ عَلَىَ طَرِيْقِ الْخَيْرِ خُطَاهُمْ، وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَارَبْ الْعَالَمِيْنَ..

اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.

اللهم ومن قضيت بقطع آجالهم منا وتوفيتهم إليك ولم تبلغهم شهر رمضان، فنسألك اللهم أن تغفر لهم وترحمهم، وتعافهم وتعفوا عنهم، وتكرم نزلهم وتوسع مدخلهم، وتغسلهم بالماء والثلج والبرد، وتنقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم وأنزل في قبورهم الضياء والنور والفسحة والسرور والكرامة والحبور وجازهم بالإحسان إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفراناً… اللـهـم أنزلهم منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، اللـهـم أنزلهم منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. اللـهـم اجعل قبورهم روضة من رياض الجنة.. اللـهـم يمن كتابهم، ويسر حسابهم، وثقل بالحسنات ميزانهم، وثبت على الصراط أقدامهم، وأسكنهم في أعلى الجنات بجوار حبيبك ومصطفاك (صلى الله عليه وسلم) … وارزق أهلهم وذويهم الصبر والسلوان. وارحمنا يا مولانا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت الجنادل والتراب، ونجنا من عذاب القبر ومن هول الحساب برحمتك يا أرحم الراحمين.

ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله، فقال ربكم جل في علاه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)

اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

عباد الله:إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون،فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم،ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون،ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين