الجمعة 28 ربيع الآخر 1440هـ
الموافق 4 يناير 2019م

الحمد لله، تَتِمُّ الصالحات بنعمته، وتُكَفَّر السيئات وتُقال العثرات بِمِنَّته وتُضاعَف الحسنات وتُرفَع الدرجات برحمته، سبحانه، يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات، نحمده تعالى ونشكره على جزيل العطايا والهبات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بارئ النسمات، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده المصطفى ورسوله المجتبى أفضل البريَّات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمَكْرُمات، ومن اقتفى أثرهم ما تجددت الأيام ودامت الأرض والسماوات.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: في زمن الشدائد والمحن، يُصاب بعضُ الناس باليأس والقنوط، وحين تتوالى ضرباتُ الأعداءِ على المسلمين، وتكثر الخطوبُ المفزعةُ، يُصاب بعضُ المسلمين بالإحباط والضعف، ولله في خلقه شؤون، والأيامُ يداولها بين الناس، وكما يُبتلَى الناسُ بالسراء، يبتليهم اللهُ كذلك بالضراء؛ ليستخرج عبوديتَهم في الحالتين، ويعلم -وهو العليم الخبيرُ- كيف يشكرون وكيف يصبرون.. والمتأمل اليوم في واقع المسلمين، يرى ضعفاً وهزائم  وفُرقة، وذلةً وهواناً ومسكنةً ومِحَناً ورزايَا، وفتناً وبلايا، ومصائب يتلو بعضُها بعضاً، وكلما تجرَّع المسلمون كؤوس بليةٍ، انبعثت لهم أخرى، وهكذا، وفي مقابل ذلك كلما أوشكت لهم راية أن ترتفع، وإذا بالسهام تُسدد نحوها، ضربٌ، وتطويقٌ، وسلبٌ للثمار، وخطفٌ للنتائج دون المسلمين.. هذا فضلاً عن غزو الأفكار، وحرب القيم عبر وسائل التواصل الحديثة، والفضائيات والقنوات، وفضلاً عن المشروع الأكبر في حصار العالم، وفي طليعتهم المسلمين، في عقائدهم وقيمهم وأخلاقهم واقتصادهم ، عبر مشاريع العولمة والنظام العالمي الجديد. وبناء على هذا، يقول بعض المتأملين المتشائمين في أوضاع العرب والمسلمين في هذا العصر والزمان.

هل بعد هذه الأحزان من أفراح؟ وهل بعد هذه المضائق من مخارج؟ وهل وراء هذه الآلام من آمال؟ وهل في طيَّات هذه المِحَن من مِنَح؟ ومتى يلُوحُ نورُ الإصلاح والإصباح؟ يقول المُستبشِر المتفائل حسنُ الظن بربه: نعم، ثم نعم، وهل يكون انتظار الفرج إلا في الأزمات؟ وهل يُطلَبُ حسنُ الظن بالله إلا في المُلِمَّات؟ يقول ربكم  عزَّ شأنه في الحديث القدسي: (أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء). والمؤمنون قال الله فيهم: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) ، وقال تعالى في آخرين : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) وقال سبحانه: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا تمنَّى أحدُكم فليستكثِر؛ فإنما يسأل ربَّه عز وجل). وقال عبد الله  أبن مسعود  رضي الله عنه: (وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُعْطِيَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ شَيْئاً خَيْراً مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الظَّنَّ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ظَنُّهُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ).

عباد الله: يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) نعم، ما دام أن أمتنا شاهدةٌ على الأمم فهي باقيةٌ ما بقِيت الحاجةُ إلى الشهادة، وما دام أن رسالتنا هي الخاتمة فهي باقيةٌ إلى آخر الدهر، وفي تاريخ الأمة مئاتُ العُظماء بل آلافٌ وآلاف قد وُلِدوا وسوف يُولَد أمثالُهم وأمثالُهم  بإذن الله ، وهذه سنة الله تعالى في خلقه وتقديره.

بل ها هي أحداث ومُستجِدَّات، ونوازِل ومُتغيِّرات، تحدث أمام ناظرَيْكم مما يوَدُّه المُتابِعُ وما لا يوَدُّه، ظنَّ أصحابُها أنهم مانعَتُهم حُصونُهم فأتاهم الأمرُ من حيث لم يحتسِبوا، سُدَّت عليهم المخارج، وضاقَت عليهم الحِيَل، ثم أتاهم الفرج والنصر والتمكين من عند الله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)

أيها الإخوة والأخوات في الله: أحسِنوا الظنَّ بربكم، فكلما ازداد التحدِّي ازداد اليقين، ولا يرى الجمالَ إلا الجميل، ومن كانت نفسُه بغير جمال، فلن يرى في الوجود شيئاً جميلاً، والكون ليس محدوداً بما تراه عيناك، ولكن ما يراه قلبُك وفكرُك، فجفِّف دمعَك، واجبُر كسرَك، وارفع رأسَك؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العُسر يُسراً… مشى التابعي الجليل المُعافَى بن سليمان رحمه الله مع صاحبٍ له، فالتفتَ إليه صاحبُه عابساً مُتبرِّماً، وقال: ما أشدَّ برد هذا اليوم! فقال له المُعافَى: وهل استدفأتَ الآن؟ قال: لا. قال: فماذا استفدتَ من الذم؟ لو ذكرتَ اللهَ لكان خيراً لك… نعم المهزومُ من هزمَته نفسُه، ومن قال: هلكَ الناس فهو أهلكُهم، ومن أجل هذا أمرَ دينُنا بالتفاؤل، ونهانا عن التشاؤم؛ بل إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يحبُّ التفاؤل ويُعجِبُه الفأل الحسن، ويُعجِبُه أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد؛ لأن التفاؤل الحسن-أسعدكم الله،: كل ما أدخل على الإنسان سروراً وفرحاً وبهجةً وانشراحاً مما يدفعُ إلى العمل، ويفتحُ أبوابَ الأمل، وتنطلِقُ معه النفوس… يقول بعض العلماء: (جعل الله من فِطَر الناس: محبة الكلمة الطيبة والأُنس بها، كما جعل فيهم الارتياحَ بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربُه)… الإنسان عباد الله يبتهِجُ بالهيئة الحسنة، والمكان الفسيح، والمنظر البهيج، الفألُ حُسن ظنٍّ بالله وتعلُّقٌ برجائه، التفاؤل استعانةٌ بالموجود لتحصيل المفقود، وهو تقويةٌ للعزم، وباعثٌ على الجِدّ، ومعونةٌ على الظَّفَر… التفاؤل يقلِبُ العلقمَ زُلالاً، والصحراء جنة، والحنظلَ عسلاً، والدار الضيقةَ قصراً، والقلةَ غِنًى، وهل يشعُر بسعَة الدنيا من كان حِذاؤه ضيِّقاً أجلكم الله؟! المتفائل يسقط من أجل أن ينهض، ويُهزَم من أجل أن ينتصر، وينام من أجل أن يستيقظ، ومن جدَّ وجَد، ومن زرعَ حصَد… المتفائل لا تُزعزِعُ يقينَه المصائب، ولا تفُلُّ عزيمتَه الفواجِع، ولا تُضعِفُ إيمانَه الحوادث، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاساً مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاساً مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جُعِلَ مَفَاتِيحُ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْه) ولهذا قيل: (قُدراتُك هي السببُ في كل ما يحدث لك، ونفسُ المرء مثل غرفته إن شاء فتح النوافذ فدخل النور والضياء والهواء العليل، وإن شاء أغلقها فبقِيَ في الظلام). وقال أهلُ الحكمة: (إن قسَمات وجه المرء انعكاسٌ لأفكاره، ومصائب الحياة تتماشى مع هِمَم الرجال صعوداً وهبوطاً، وتشيبُ الرؤوس ولا تشيبُ الهِمَم). فاحترِم نفسك – رحمك الله – فهي أجملُ مخلوقٍ على وجه الأرض، والذين لا يُغيِّرون ما بأنفسهم لا يُغيِّرون ما حولَهم، ولهذا ترى الجميعَ يُفكِّر بتغيير العالَم، وقليلٌ منهم من يُفكِّر بتغيير نفسه، وفي التنزيل العزيز قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)

أيها المؤمنون: ومن أجل مزيدٍ من الوضوح والإيضاح، ولمزيدٍ من الابتهاج والفرَح وحُسن الظنِّ بالله  عز وجل، والأمل العريض للأمة تأمَّلوا هذه المقارنات والموازنات: المتفائل: ينظرُ إلى الحل، والمتشائم: ينظرُ في المشكلة، المتفائل: مُجِدٌّ على الدوام لا يعرفُ الإحباطَ والضررَ، يرى الحياةَ حقّاً له وحقّاً للآخرين، والمتشائم: جلاَّد نفسه يرى غيرَه أسعدَ منه، ثم هو يريدُ أن يكون أسعدَ من الآخرين، وهل مثلُ هذا يُحقِّقُ السعادة؟ المتفائل: يرى ضوءاً لا يراه الآخرون، والمتشائم: يعمَى أن يرى الضوءَ الذي أمام ناظرَيْه، المتفائل: مستفيدٌ من ماضيه، مُتحمِّسٌ لحاضره، مُستشرفٌ لمُستقبَلِه، والمتشائم: أسيرٌ لماضيه مُحبَطٌ من حاضره، هلعٌ على مُستقبَلِه… المتفائل: يطلُبُ المعاذير والمخارج لسلامة طوِيَّته وانشراح صدره، والمتشائم: يشتغِلُ بالعيوب ويحشُرُ نفسَه في المضائق لظُلمة باطنه.. المتشائم: يحسَبُ كل صيحةٍ عليه، يجوعُ وهو شبعان، ويفتقِر وهو غني،وصدق الله العظيم: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) المتشائم: يذكُر النعَمَ المفقودة، ويعمَى عن النعَم الموجودة.

أيها المسلمون: هل لاحَظتُم أن التفاؤل لا يُحتاجُ إليه في وقت الرخاء والأمن والنعيم؛ إذ في وضَح النهار لا تحتاج إلى الشموع والمصابيح؛ بل إن المصباحَ لا يُضيءُ إلا في الظلام، وشمعةٌ واحدة كافيةٌ لتبديد الظلام، والفرجُ لا يكون إلا بعد الشِّدَّة، والنصرُ لا يكون إلا بعد الهزيمة، والفجرُ لا يكون إلا بعد ليلٍ مُدبِر… عباد الله: سعادةُ المرء ليست في تمنِّي ما ليس عنده، ولكنها بحُسن الاستمتاع فيما عنده، والسعادة ليست محطة وصول ولكنها مسيرةُ الحياة كلها، بالمال تشتري السرير ولكنك لا تشتري النوم، وتشتري الساعة ولكنك لا تشتري الوقت، وتشتري المنزل ولكنك لا تشتري الراحةَ والسعادةَ. وقتلُ البَعوض لا يُجفِّفُ المُستنقَع، وتجفيفُ المُستنقَع يُنهِي مشكلةَ البعوض، ومن لا يستطيع أن يقِف على قدمَيْه يعسُر إنقاذُه، وأخطرُ الناس من عاش بلا أمل…

كتبَ الفاروق عمرُ بنُ الخطاب إلى أبي موسى الأشعري  رضي الله عنهما: (أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبِر) وبعد: عباد الله: فالتفاؤل لا يُنكِر الواقع، ولا يستهينُ بالمُشكِلات، ولا يُهمِلُ الأسباب، ولا أخذَ الحزم من الأمور والاحتياط في المسالك، ولكن الله عز وجل  لقِسطه جعل الفرحَ والروحَ والسرورَ وراحةَ النفس وسكينتها وسلامتَها في الرضا واليقين، وجعل الغمَّ والحَزَن في السخَط والشك، فلا تُفسِد  حفِظَك الله  حاضِرك حُزنًاً على ماضيك؛ فالتفاؤل في المُستقبل هو الشاهدُ على صحة العقل وصفاء النفس، وقد قالوا: (إن البكاءَ لا يُعيدُ الميتَ إلى الحياة، ولكن يُعيدُه الدعاءُ والثناءُ والذكرُ الحسن والأثرُ الطيبُ).. ورأسُ التفاؤل الاتصالُ بالعليِّ الأعلى، فالصلاة تفاؤل، وذكرُ الله تفاؤل، والدعاءُ تفاؤل، يُحيطُ بذلك: حُسنُ الظن بالله عز شأنُه، والثقة بنصره وتأييده للمؤمنين ، قال تعالى:(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)،وقال سبحانه: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقال تعالى:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم..

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن الفأل الحسن يعني هو توقع الإنسان ما يسرّه، وأن يظن الخير فيما يَستقبلُ من أمره، وهذا يقوده إلى الاطمئنان وترك القلق على ما يستقبل من أمره، وإنّ من الصفات النبيلة، والخصال الجليلة الحميدة، التي حبا الله تعالى بها نبيه الكريم، ورسوله العظيم، محمداً صلى الله عليه وسلم، صفة التفاؤل، إذ كان صلى الله عليه وسلم متفائلاً في كل أموره وأحواله، في حلِّه وترحاله، في حربه وسلمه، في جوعه وعطشه، وفي صحاح الأخبار دليل صدق على هذا، إذ كان صلى الله عليه وسلم في أصعب الظروف والأحوال يبشر أصحابه بالفتح والنصر على الأعداء، ويوم مهاجره إلى المدينة فراراً بدينه، وبحثاً عن موطئ قدم لدعوته، نجده يبشر عدواً يطارده، يريد قتله (وهو سراقة بن مالك) يبشره بكنز سيناله، وسوار مَلِكٍ سيلبسه، وأعظم من ذلك دين حق سيعتنقه، وينعم به ويسعد في رحابه… نعم إنه التفاؤل الحسن، ذلك السلوك الذي يصنع به الرجال مجدهم، ويرفعون به رؤوسهم، فهو نور وقت شدة الظلمات، ومخرج وقت اشتداد الأزمات، ومتنفس وقت ضيق الكربات، وفيه تُحل المشكلات، وتُفك المعضلات، وهذا ما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفاءل وتعلق برب الأرض والسماوات؛ فجعل الله له من كل المكائد والشرور والكُرب فرجاً ومخرجاً. فالرسول صلى الله عليه وسلم من صفاته التفاؤل، وكان يحب الفأل ويكره التشاؤم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ : الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ) والطيرة هي التشاؤم.. ومنها تفاؤله صلى الله عليه وسلم بالنصر في غزوة بدر، وإخباره بمصرع رؤوس الكفر وصناديد قريش… ومنها تفاؤله صلى الله عليه وسلم عند حفر الخندق حول المدينة، وذكره لمدائن كسرى وقيصر والحبشة، والتبشير بفتحها وسيادة المسلمين عليها… ومنها تفاؤله صلى الله عليه وسلم بشفاء المريض وزوال وجعه بمسحه عليه بيده اليمنى وقوله: (لا بأس طهور إن شاء الله).كما عُنِيَ محمد صلى الله عليه وسلم بالاسم الحسن الباعث على التفاؤل، وقد غيَّر كثيراً من الأسماء، التي كانت تحمل دلالة غير مناسبة، فغيَّر اسم امرأة من عاصية فجعلها جميلة.وغير أسماء رجال، من حَزْن – أي: صعب، إلى سهل، وأصرم إلى زُرْعَة، وغراب إلى مسلم، والعاص إلى هاشم، وسمى حرباً سلماً، كما غيَّر صلى الله عليه وسلم في أسماء المواضع، فغيَّر اسم أرض يقال لها عفرة إلى خضرة، وشعب الضلالة، سمَّاه شعب الهدى وهكذا. كل ذلك وغيره كثير، مما يدل على تحلِّيه صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة الكريمة.. وبعد:عباد الله:  فما أحوج الناس اليوم إلى إتباع سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم في الفأل والتفاؤل :  (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) إن واقع أمة الإسلام اليوم، وما هي فيه من محن ورزايا وبلايا وكروب وخطوب، ليستدعي إحياء صفة التفاؤل، تلك الصفة التي تعيد الهمة لأصحابها، وتضيء الطريق لأهلها، فالتفاؤل الحق: هو التصديقُ بوعد الله تعالى في قوله عزَّ شأنُه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)

اللهم إنا نسألك نفوساً بك مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، وتصبر على ابتلائك، وتفرح بلقائك وتحبه، يا أرحم الراحمين… اللهم اجعل لنا من كل هم وغم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل عسر يسراً، وإلى كل خير سبيلاً… اللهم آمِنَّا في وطننا، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا ملكنا حمد بن عيسى، ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان، وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم متعهم بالصحة والعافية والعمل الصالح الرشيد، ووفقهم لما تحب وترضى، وسدد على طريق الخير خطاهم وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.. اللهم من أراد بلادنا  وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا وأمننا بسوء وشر وفتنة فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء… اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، ناصراً ومؤيداً، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان. اللهم ولي عليهم خيارهم، واصرف عنهم شرارهم، ووحد صفوفهم، يا سميع الدعاء…اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين… الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ، الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

عِبَادَ الْلَّهِ: إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ،. فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين