الجمعة 25 محرم 1440هـ
الموافق 5 أكتوبر 2018م

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه،  ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قضى بالخير والعزِّ لأهل الطاعة والإيمان، وبالذل والهوان لأهل الشر والعصيان، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وصفيه، وأمينه على وحيه، بشر وأنذر، وبلغ وأسدى ونصح، وجاهد ودعا، فلم يترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذرها منه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه والتزموا شريعته، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:فاتقوا الله عباد الله حق التقوى. (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: قدرنا في هذه الحياة الدنيا أن نذنِبَ ونُخطئ، ومشيئةُ اللَّه تعالى فينا أن نقصِّرَ ونسيء، كلُّ بني آدمَ خَطَّاء، لَم نكنْ يوماً ملائكةً لا يعْصونَ الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤْمَرون… بل نحن بشرٌ من البشَر، من أبٍ أذنبَ وأخطأ، ولنفسِه ظلم، ومَن شابه أَبَهُ فما ظلم… أنا وأنت يا عبد الله، الضعفُ مغروسٌ فينا، والشَّيطانُ والهوى يستهْوينا.

تضعفُ نفوسُنا ردحاً من العمر، وتعترينا الغفلةُ والغفلاتُ حينًاً من الدهر..

أنا وأنت يا عبد الله أصحاب ذنوبٍ وسيّئات، ومعاصٍ وخطيئات، ومَن ذا الَّذي يسلمُ من تلك الآفات؟!

مَنِ الَّذِي مَا سَاءَ قَطّ**ومَن لهُ الحُسنى فقط

ثبت في الصَّحيحَين أنَّ النَّبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: (والَّذي نفسي بيدِه، لَو لم تُذْنِبوا، لذهَبَ اللَّه بكُم، ولجاء بقومٍ يُذْنِبون فيستغفرون الله، فيغْفر لهم)… فإذا علِمْنا – عباد الله – أنَّنا مُذْنِبون خطاءون، فعليْنا أن نتعلَّم كيف نتعامل مع هذه الذّنوب والمعاصي، عليْنا أن نتعلَّم أدباً لطيفًاً، هو أدبُ المُذْنبين، أو قُل: هو أدبُ المعْصِية…

ولا يذهب – أخي الكريم – فهمُك بعيداً، فتتوهَّم من هذا، التَّهوينَ من شأن المعصية، أو تسويغَها والتَّبرير لها، حاشا وكلا،  وإنَّما المراد بيانُ الموقف الشَّرعي، والأدبِ الواجبِ تُجاه هذه المعصية وهذا الذنب.

فيا أيها العبد الضَّعيف، لا تعصِ الله تعالى، فإذا عصَيتَ اللَّه فاستجْمِع معي هذه الآداب: أوَّلاً: أخي العاصي -(رجلاً كان أو أمرأة) وكلّنا والله ذلك العاصي – بادر أُخيَّ بعد الخطيئة بالتَّوبة، وأصلح ما أفسدتْه جوارحُك بدوام الاستِغْفار، وهكذا، كلَّما قادك هواك لمعصية، وجرَّتك نفسك الأمَّارة إلى إساءة، فأعقِبْ ذلك بالاستِكانة والأوْبة، والإنابة والتَّوبة، فهذه المبادرة منك برهانٌ على حياة قلْبِك، وتحرُّك الإيمان بين جنبيْك؛ يقول – سبحانه – عن عباده المتَّقين، والموْعودين بجنَّة عرْضها السَّموات والأرض:(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ثمَّ أبْشِرْ أخي التائب من ذنبِه، فدونك فضائلَ جمَّةً: يفرح ربُّك بتوْبتك، ويكفِّرُ عنك خطيئتَك، بل ويبدِّلُ سيِّئاتِك حسنات.

يَا مَنْ عَدَا ثُمَّ اعْتَدَى ثُمَّ اقْتَرَفْ

ثُمَّ انْتَهَى ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ اعْتَرَف

أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللَّهِ فِي آيَاتِهِ

إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفْ

غير أنَّ التَّوبة أخي التَّائب أختي التائبة ليستْ كلِمة تُقال دونما أن يكون لها أثرٌ من حال أو تصديق من فِعال التَّوبة الحقة:والتي هي انكسار في القلب، وحسرة في الفؤاد. التوبة الحقة: دمعة في العَيْن ولوعة في الضمير.

التَّوبة الصادقة: ندم على ما فات، وعزمٌ على مجافاة الذَّنب فيما هو آت، وردٌّ لحقوق العباد والبريات، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)

ثانيًا: أخي المذنب أختي المذنبة – وكلّنا والله ذاك الشخص – لا تَسْتَصْغِرِ الذَّنب، ولا تُهوِّن من شأن المعصية؛ فلا تدري، فلعلَّ ما احتقرتَه يكون سبباً لشقائك في الآخرة، وقديماً قال بلال بن سعد رحمه الله: لا تنظُرْ إلى صِغَر الخطيئة، وانظر إلى عظم مَن عصيت.. ♦ دخلتِ امرأةٌ النَّارَ بسبب هرَّة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي سقتها.

♦ ورجلٌ مُجاهد، كُبَّ في النار على وجهه، من أجل شملة (قطعة من قماش) أخذَها خفية.. ♦ وربَّ كلمة يتكلَّم بها المرء ما يلقي لها بالاً، تهوي به في قَعْرِ جهنمَ، نعوذ بالله من جهنم. بذلك صحت الأحاديث والأخبار.

وبقدرِ إيمان العبدِ وتقواه، وخوفه من ربِّه ومولاه، يهون الذنب في قلبِه أو يعظم، يقول عبد الله ابن مسعود – رضي الله عنْه -: (إنَّ المؤمن يرى ذنوبَه كأنَّه قاعدٌ تحت جبل، يَخاف أن يقعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرى ذنوبَه كذُبابٍ مرَّ على أنفِه فقال به هكذا).

ولذا حذَّرنا النَّاصح لأمَّته – صلَّى الله عليه وآله وسلَّم – من استحقارِ الذنوب وتهوينها، فقال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى جمعوا ما أنضجوا به خُبزهم ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ)

فاستعْظِم – أخي المذنب – ذنبَك، واستشعر شناعة خطيئتك، واجعل هذا الذَّنبَ أمامَ عينيْك، واجعل حسناتِك خلْفَ ظهرك، لتبقى بعد ذلك سبَّاقًاً للخيرات، ومبادراً للطَّاعات.

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى

وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرض الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى،

لا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً إِنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى

ثالثًاً: أخي المقصّر أختي المقصرة – وكلنا وربي مقصِّر – إيَّاك ثمَّ إيَّاك من المجاهرة بالمعاصي، فما ظلمَ عبدٌ نفسه، بمثل استعلانه واستعلائه بالإثم والآثام، وقد دلَّتْ نصوص الوحيين على أنَّ المعاصي الخفيَّة أخفُّ جرماً وإثماً من المعاصي المستعلنة؛ ففي محكم التَّنزيل يقول الله سبحانه: (لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ)، ويقول المصطفى – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَاهرة أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ) بل ربَّما كان تستُّر العبدُ بمعصيتِه سبباً لعفو الله ومغفرته، سأل رجُل ابنَ عمر – رضي الله عنهما -: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي مِنْهُ الْمُؤْمِنَ ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ , فَيَقُولُ : أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا ؟  فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ , حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ , قَالَ : فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ). تذكَّر أخي المذنب أختي المذنبة، أنَّ مجاهرَتك بالمعاصي نوعٌ من المنكر تُعاقَب الأمَّةُ عليه إن لم تغيِّره أو تنكره، فلا تكُنْ سبباً لاستِنْزال العقوبات على أمَّتك من حيث لا تشعر.

رابعاً: يا مَن بُلي بالذنب  وكلّنا ذاك المبتَلى احذر  رعاك الله،  أن يكونَ ذنبُك من السيئات المضاعفَة، والخطيئات المتعدِّية، تذكَّر أخي المبارك أختي المباركة أنَّ السيّئة تعظم في حالات: ♦ فتعظم إذا كانت في مكانٍ شريف، كحرم الله تعالى؛ يقول عز وجل: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

♦ وتعظم السيئة إذا كانت في زمن فاضل؛ يقول تعالى عن الأشهُر الحرم:(فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)

♦ وتعظم السيّئة أيضاً إذا صدرت ممَّن هو قدوة للنَّاس، ومحلٌّ للتأسِّي به؛يقول تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ)

عباد الله: إغواء المسلمين وإضلالهم، وزرع الشُّبه في صدورهم، أو الشهوات في نفوسهم – خطيئات متعدِّية، وسيئات مضاعفة، توعَّد الله فاعليها، بقوله: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ)

ومن المعاصي المتعدية: أن يسنَّ العاصي في الإسلام سنَّة سيّئة، فهذا المسكين له وِزْرُه وذنبه، ووِزْر مَن عمل بعده من غير أن ينقُص من أوزارِهم شيئًا، كما صحَّ بهذا الخبر عن سيّد البشر – صلَّى الله عليه وسلَّم.

خامساً: أخي الخطاء – وكلُّنا وايم الله خطَّاء – استدفع هذه الخطايا بفعل الحسنات، والإكثار منها، لا يقعدنَّك الشيطان عن الطاعة، بسبب أنك مُذنب. تصور معي – يا عبد الله – هذا الموقف، ثم انظر فضْل الله بعد ذلك على عباده، رجل يأتي إلى مجلس النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيقول: يا رسول الله، إني عالجت امرأةً في أقصى المدينة،(أي استمتع بها بقبلة ونحوه) وإنّي أصبتُ منها دون أن أمسَّها، فأنا هذا، فاقض فيَّ ما شئتَ، فلم يجبه النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بشيء، حتَّى إذا طال مجلسُه، مضى إلى حاله، فدعاه النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – حتَّى إذا أوقف بين يديه تلا عليه قول الحقِّ  تبارك وتعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ فقال رجلٌ من القوم: يا نبيَّ الله، هذه له خاصَّة ؟ فقال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (بل للناس كافَّة).

عباد الله: وكلَّما كانت الحسنة من جنس السيّئة كان ذلك أبلغ في التَّكفير والإذهاب، فإنْ كانت السيّئة من خطايا اللّسان، فليكثر العبد من طاعة الله بلسانه، وإن كانتْ خطيئته سماعَ حرام، فليشنِّف سمعه بالذكر والقرآن.

قال بعض العلماء: وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات؛ فإنَّه أبلغ في المحو.

سادساً: يا مَن آلمه ذنبُه، وأقلقتْه خطيئته، لا تقنط من رحمة الله، ولا تيئس من رَوْح الله؛  ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ) اسمع يا مَن استكثر ذنوبَه، واستثقلَ معاصيه، اسمع لنداء الملك الكريم الغنيّ يناديك فيقول: (يا ابنَ آدم، لو بلغت ذنوبُك عنانَ السَّماء، ثمَّ استغفرْتَني غفرت لك ولا أبالي)… ذنبٌ تكاد السموات يتفطَّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً، حينما زعمت ملة من الملل أنَّ لله ولد، ومع ذلك يناديهم ربهم، ويحضهم على التوبة، ويعدهم بالمغفرة فيقول: ﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

شيخ كبير هرم، قد احدودبَ ظهرُه، وابيضَّ شعره، وسقط حاجباه على عينيه، يجرّ خطواته نحو المصطفى  صلَّى الله عليه وسلَّم  قد علاه الأسى، وامتلأ قلبه من الرَّجاء، فيقف على رأس النبي  صلَّى الله عليه وسلَّم  فيقول: يا رسول الله، شيخ غدرَ وفَجر، ولم يدع حاجةً ولا داجة، إلاَّ اقتطفها بيمينه، لو قُسمت ذنوبُه بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (أسلمتَ؟) قال: أمَّا أنا فأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّداً رسول الله،، فقال له النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (فإنَّ الله غافر لك ما كنت كذلك، ومبدِّل سيّئاتِك حسنات)، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي، فقال: (وغدراتك وفجراتك)، فأدبر الرَّجُل وهو يُكبِّر ويهلِّل من شدة الفرَح حتَّى توارى عن أعين النَّاس.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه،والشكر له على توفيقه وامتنانه،وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لاشريك له تعظيما لشأنه سبحانه،واشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،الداعي إلى سبيل الله ورضوانه،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه،وسلم تسليماً كثيراً..

أمَّا بعد فيا أيها المسلمون: كم يرجوا كلٌّ منَّا أن يطلِّق ويترك هذه المعاصي، وأن يملأ يومه وعمره بحياة طاهرة نقيَّة، لا معاصيَ تكدِّرها، ولا خطيئات تنغصها، وثمَّة أسباب – عباد الله – تُعين – بعد توفيق الله تعالى – على ترْك المعاصي والذنوب وهجرانها، من أهمّها: ♦ أن يتذكَّر العبدُ شؤْمَ المعصية وقبح الذَّنب، فما من شرٍّ يَحصل في نفس العبد وفي دنيا النَّاس، إلاَّ وسبَبه الذّنوب والمعاصي؛يقول تعالى: ﴿ ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ وما زالت نعمةٌ عن عبد إلاَّ بسبب ذنب اقترفه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ العبد ليحْرَم الرِّزْق بالذَّنب يُصيبه).

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا

فَإِنَّ المَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ

وَصُنْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ العِبَادِ

فَرَبُّ العِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ

♦ ومما يُعين على ترك الذنوب والمعاصي: استشعار مراقبة الله، واطلاعه على الحال.

فيا مَن زيَّنت له نفسه عصيانَ الله، ويا مَن أزَّه هواه نحو الحرام أزًّا، قِفْ وسَل نفسك: أين الله؟ هل يراني؟ هل يطَّلع على حالي؟

تذكَّر أنَّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السَّماء. تذكَّر أنَّ الله يعلم السّرَّ وأخفى. تذكَّر أنَّ من أسرَّ القول ومَن جهر سواء في علم الله تعالى.

املأ قلبك – أخي المبارك أختي المباركة – إملاءا قلبكما- من معاني المراقبة لله وتعظيمه، فهو – بإذن الله – صمامُ أمان، يَقيك من أشواك المعاصي وأوْحال السيّئات.

♦ وممَّا يُعين على هجران المعاصي: محاسبة النَّفس على كلّ تقصير، ولوْمها في كلّ حقير، فاجلس – أخي، أختي – مع نفسك وحاسبها، واخْلُ بها وعاتبها، تذكَّر فيها شريط خطاياك، واستذْكِر فيها حقوقًاً ضيَّعتَها، وحدوداً جاوزْتَها، ورضي الله عن الملهم عمر الفاروق حين قال: (حاسبوا أنفُسَكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن تُوزنوا).

يا مَن تكاثرتْ عليه خطاياه، جفِّفْ منابع هذه الخطايا وخواطرَها بتذكُّر الآخرة، أفسِدْ لذائذ المعاصي بذِكْر الموت وشدَّته، والقبر وظُلمته، والصِّراط وزلَّته؛ فما عولجت قلوبُنا السَّادرة اللاَّهية بمثل تذكّر قوارع الآخرة.

تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا

مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالعَارُ

تَبْقَى عَوَاقِبَ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا

لا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارِ

♦عباد الله: وممَّا يُعين على ترْك الذنوب والمعاصي: مفارقة مواطِنِها ومجافاة دواعيها؛ فهذه المعاصي ليستْ وليدة المصادفة، بل لها مقدّمات ومثيرات. فإن كنتَ – يا عبد الله – جادًّاً وصادقًاً في ترك الخطايا، فأغلق دونَها الأبواب، وسدِّد المنافذ الموصلة إليها.

أيها المؤمنون: وما استُدْفِعَت المعاصي بمثل المداومة على الطَّاعات، ومع التَّخلية تكون التَّحلية. ثمَّ اعلم – عبد الله – أنَّ للنَّفس إقبالاً وإدباراً، فإن رأيتَ من نفسك ذلك الإقبال، فاستكْثِر من الطَّاعات، ونوِّع في القُرب والخيرات، وإن رأيتَ من نفسك إدْباراً، فاقصرها على الواجبات:

إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا               فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونَا

♦ دعاء المولى  عزَّ وجلَّ: من أعظم ما يستعين به العبد على ترْك المعاصي، وقد كان من مأثور دعاء المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (اللَّهُمَّ جنِّبْني منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء).

عباد الله: وجامِع هجران الذنوب، وأصلها وأساسها: الإرادة، ثمَّ الإرادة.

أن تحمِل بين جنبيك إرادة قويَّة، ملؤُها الصدق والإخلاص على مُجاهدة النَّفس والهوى ؛ طلباً لرِضْوان الله وجنَّة عرضُها السَّموات والأرض، نسأل الله تعالى بمنِّه وكرمه أن يُجنِّبَنا السوء والفحشاء، وأن يهْدِينا لطاعته ومرضاته.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين..

اللهم أشغل قلوبنا بحبك، وألسنتنا بذكرك، وأبداننا بطاعتك، وعقولنا بالتفكر في خلقك، والتفقه في دينك يا رب العالمين.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها برحمتك…

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.

اللهم أقل عثراتنا، واغفر زلاتنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…

اللهم كن لإخواننا المستضعفين ناصرا ومؤيدا،اللهم كن لهم في فلسطين وفي  بلاد الشام، وفي اليمن وفي بورما وفي كل مكان، اللهم أصلح أحوالهم، وفرج همهم ونفس كربهم،واحقن دمائهم،وحقق آمالهم، وألف بين قلوبهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلا. اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات إنك على كل شيء قدير.. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين… عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين