الجمعة 4 محرم 1440هـ
الموافق 14 سبتمبر 2018م

الحمد لله الذي جعل الهجرةَ فتحاً ونصراً وعزًّاً للإسلام، نحمَدهُ سبحانه خصّ نبيه والمهاجرين بسوابغ الفضلِ والإنعام والإكرام، ونشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ لَه، ونشهَد أنَّ سيّدنا ونبيَّنا محمّداً عبده ورسوله إمام المهاجرين والأنصار، وقدوة المتّقين الأبرار الأعلام، صلى الله وسلم وبارك عليه على آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: يستظلُّ المسلمون في أرجاء العالم في هذه الأيام،  بظلال ذكرى حادثة عظيمة من حوادث وأحداث تاريخنا الإسلامي المجيد، هذه الحادثة كانت إيذاناً بعهد جديدٍ، وتحوّل مهمّ في تاريخ الدعوة الإسلامية، تلكم هي هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم  من مكة بيت الله الحرام، إلى المدينة المنورة دار الهجرة، هذا الحدث يمثل أهمّ حدث من أحداث التاريخ الإسلامي، به بدأ بناء الدولة الإسلامية، وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له، وتبلّغ دينه الحنيف إلى كل الناس، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً)… تجدُّد هذه الذكرى- عباد الله-  يزيد في أعمارنا عاماً كلّما تكرر، ويذكرنا بانصرام الأيام، ويبيَّن لكل مسلم أن حياته على هذه الأرض محدودة، وأن كل يوم يمضي يقرب الإنسان من نهايته وأجله، فهذه أول عبرة من عبر مرور الأيام وتجدد ذكريات الأحداث، فما من مظهر من مظاهر الزمان والمكان إلا هو آية وعبرة للإنسان، وصدق الله العظيم حيث يقول : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأِوْلِي الألْبَابِ)

عباد الله: جاءت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة بثلاثة عشر عاماً، بعد أن أمضى رسول الله هذه المدة وهو يجاهد من أجل إبلاغ دين الله سبحانه، ومن أجل أن يهدي قومه والناس إلى طريق الله سبحانه صابراً محتسباً، يؤذى في سبيل الله ويرى أصحابه يؤذون ويعذَّبون ويقتلون ولا يزداد مع ذلك إلا صبراً ويقيناً وطاعة لله سبحانه، وقد جاء الأمر بالهجرة إلى يثرب بعد أن بايع سكانها الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان وعلى حمايته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وكان ذلك حين جاؤوا مكة حاجين فكانت هذه البيعة مقدمة للهجرة المباركة…

أيها الأخوة والأخوات في الله: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً إلى ربه، وقد وعد الله من هاجر إليه أجراً عظيماً، يقول سبحانه: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً، وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) خرج عليه الصلاة والسلام إلى الهجرة بعد أن أعدت قريش العدة لقتله أو حبسه أو طرده، ولكن مكرهم عاد عليهم لأن هذا المكر لن يحيق بمن يرعاه الله ويؤيده ويسدده: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون) أعدت قريش العدة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق عدد من شباب قبائلها حتى يتفرّق دمه بين القبائل، ولكن جبار السموات والأرض أبطل سحرهم ورد كيدهم إلى نحورهم، يقول سبحانه: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فتوجه الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم إلى حبيبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ليخبره بأمر الهجرة، فما أن سمع الصديق بأمر الهجرة حتى كان همه الوحيد والكلمة الوحيدة التي قالها: (الصحبة يا رسول الله). فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت أبي بكر في ذلك اليوم ظهراً على غير عادته، فلما دخل على أبي بكر قال: (أخرج من عندك)، قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، يعني عائشة وأسماء، قال: (أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟) قال أبوبكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: (الصحبة)، قال: يا رسول الله، إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: (قد أخذتها بالثمن)… هكذا كان شغف الصديق بنصرة الدين: (الصحبة يا رسول الله)، وهذا هو طلبه: الصحبة، وهي ـ عباد الله ـ ليست صحبة رجل ذا ثراء وأموال، وليست صحبة رجل ذاهب في نزهة، وليست صحبة رجل يسافر إلى دولة يترفه فيها ويتنعم، وليست صحبة رجل له موكب وحاشية وخدم وحشم، إنها صحبة رجل مطارد مطلوب رأسه، فعلام يحرص الصديق على هذه الصحبة ويفرح ويفتخر بها؟! إنه الإيمان الذي تميز به صديق هذه الأمة رضي الله عنه، والذي جعله يُسخِّر نفسه وأهله وماله من أجل الدعوة ومن أجل الهجرة، فقد عرض نفسه لمصاحبة وخدمة وحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وأنفق ماله في إعداد العدة لذلك وفي استئجار الدليل، وعرَّض ابنه عبد الله للخطر حيث كان يمسي عندهما عندما كانا في الغار ويصبح عند قريش يتتبع الأخبار، وكان مولاه عامر بن فهيرة يسرح بغنمه عند الغار ليسقيهم من لبنها، وكذلك فعلت أسماء بنت أبي بكر التي حفظت السر والتي شقت نطاقها لتضع فيه طعامهما فسميت ذات النطاقين، فكانت عائلة الصديق كلها مجندة في سبيل الله وخادمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم…

عباد الله: إن الهجرة تعلمنا  أنَّ الشباب إذا نشئوا منذ الصغر على مواجهة الخطر، كانوا أجِلاَّء أقوياء، وهذا هو الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينشأ في مدرسة النبوة فتًى من فتيان الإسلام لا يخاف إلا الله عز وجل، ولا يَهاب أحداً سواه، يقول له النبي  صلَّى الله عليه وسلَّم  ليلة الهجرة: (نَمْ على فراشي؛ فإنه لنْ يخلصَ إليك شيءٌ تَكْرهه منهم)، فقَبِل عليٌّ التضحية فداءً لرسول الله  صلَّى الله عليه وسلَّم  بلا خوف ولا تَردُّد..

أيها المسلمون: لقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الدين لا من أجل الدنيا، فقد بقي في مكة طيلة هذه المدة رغم الأذى الذي يتعرض له هو وأصحابه، لأنه كان يسير بأمر الله سبحانه، وكان يريد أن يبلغ دين الله سبحانه وأن يهدي البشرية إلى طريق السعادة الأبدية،  (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً  وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً). هاجر رسول الله عليه الصلاة والسلام من أجل الله ومن أجل الدعوة إلى الله سبحانه، وكذلك هاجر أصحابه رضوان الله عليهم من أجل دينهم ومن أجل المحافظة على دينهم لا من أجل الدنيا، بل إنهم تركوا الدنيا في مكة، فمنهم مَن هاجر وترك ماله، ومنهم مَن هاجر وترك بيته ومتاعه؛ لأنهم لمَّا نظروا إلى المال وإلى الدين وجدوا أن ضياع المال يُعوَّض، ولكن ضياع الدين لا يعوّض أبداً، وجدوا أن كسر المال والبيت والأهل يُجبر، أما كسر الدين فإنه لا يُجبر، والهجرة إلى مكة عباد الله تعتبر ثالث هجرة بالنسبة لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد هاجروا قبلها إلى الحبشة مرتين، وركبوا البحر وصارعوا الأمواج وتعرضوا للأخطار من أجل دينهم، وها هم يتركون مكة موطنهم وموطن آبائهم ومرتع طفولتهم وصباهم إلى المدينة استجابة لأمر الله سبحانه وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام. ألا  فاعرفوا رحمكم الله قدر الصحابة ومنزلتهم عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعند المؤمنين المتقين، واحذروا تنقصهم والطعن فيهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

عباد الله: أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم  في غار ثور ثلاث ليال هو وصاحبه أبو بكر ينتظران أن يخفّ عنهما الطلب حتى يخرجا إلى المدينة، وكانت قريش تبحث عنهما في جنون وتبعث بعيونها في كل مكان وتجعل الأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد وصل كفار قريش إلى الغار الذي يختبئ فيه رسول الله  وصاحبه، ولكن الله سبحانه صرفهم عنه وردهم خائبين، يقول أبو بكر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: قلت للنبي صلى الله

عليه وسلم  وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: (ما ظنك ـ يا أبا بكر ـ باثنين الله ثالثهما؟!).

إذا كان الإنسان في معية الله وفي عناية الله وإذا أيّد الله عبده ونصره فإن الكون كل الكون لن يضره بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليه، (ما ظنك  يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!). هكذا عباد الله لا يخاف العبد إذا أيقن أن الله معه، وهكذا يكون مسدداً موفقا في كل ما يقدم عليه إذا كان مراعياً لمرضاة الله عز وجل، (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم) لقد كانت الهجرة النبوية نتيجة صبر ثلاثة عشر عاماً من الخوف والجوع والحصار والأذى، فكانت الثمرة على قدر التعب وعلى قدر الصبر، وهكذا هذا الدين لا يعطي ثمرته إلا لمن صبر وثابر، أما مَن استعجل النتائج فإنه يُحرَم وهذه سنّة كونية: (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)، فدولة المدينة التي شعّ منها النور إلى كلّ الأرض كانت نتيجة لصبر مكّة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة سرّاً والناس يبحثون عنه دخل المدينة في احتفال عظيم يحفّ به الناس من كلّ جانب، كلّ منهم يطلب منه أن ينزل عنده، وتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه قول الله تعالى ووعده لعباده الصالحين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا). وها هي الدعوة التي انطلقت من رجل فقير من قريش هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، معه رهط يسير ممن سبقوا إلى التصديق والإيمان أكثرهم من الضعفاء والموالي، ها هي يحملها اليوم أكثر من مليار إنسان مسلم في كافة أنحاء الدنيا، وها هو الإسلام يدخل كل بيت، ونداء الحق يرتفع في كل مكان، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) يقول صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو ذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) هذا وعد صادق من الله لرسوله، ووعد صادق من الله لأمة رسوله ولكل مَن سار على هدي رسوله سير السلف الصالح دون تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان، فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على أن تكونوا ممن ينصر الله بكم الدين في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، نسأل الله أن يوفقنا لمرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة وجعل الظلمات والنور، وجعل لكل شيء بداية ونهاية، نحمده سبحانه ونشكره ونثني عليه الخير كله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: ها نحن قد ودعنا بالأمس القريب عاماً هجرياً كاملاً من أعمارنا، رحل بلا عودة، وفني بلا بقاء، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما جمع وحوى، فكم من حبيب فارقنا، وكم من سيئات فيه قد إجترحنا، وكم من عزيز أضحى ذليلاً، وكم من غني أضحى فقيراً، وكم من سليم أضحى سقيماً، وكم من حوادث عظام، وبلايا جسام مرت بالمسلمين، وحلت في ديارهم، ولكن أين المعتبرون؟! وأين المستبصرون؟ إن الناظر بعين الإنصاف و البصيرة، يعلم أن ما أصاب المسلمين في هذا العصر، إنما هو من جراء أنفسهم و ذنوبهم، كما قال تعالى : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير)ٍ، وقال جل وعلا: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقال تعالى: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)

عباد الله: ليس تعداد مصائب الأمة و جراحاتها، من باب إدخال اليأس و القنوط على النفوس , معاذ الله، فعلى رغم ما حصل ويحصل في أمة الإسلام من المصائب والرزايا والمحن، إلا أن الخير باق فيها إلى قيام الساعة. و لكن يذكر ذلك من باب شحذ الهمم، وأخذ العبرة، وإيقاظ العزائم، و بث الحمية الإسلامية الصحيحة في نفوس المسلمين، والدعوة إلى تصحيح الأخطاء والإنابة والرجوع إلى الله عز وجل.

أيها المسلمون: إن في تاريخ شهر الله المحرم، يومين في العاشر منه، يوم نصر، ويوم شكر، كما ثبت ذلك في النصوص الصحيحة، يوم  قد نجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وقومه من الموت والغرق، وأهلك الجبار العنيد فرعون وقومه الذي (قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) فكان يوم عاشوراء، يوم نصر رباني، وشكر لله تعالى على هذه النعمة، ولسان حاله يقول لكل الطغاة والجبارين من أمثال فرعون وأتباعه: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، ويقول:(فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمثلاً لِلْآخِرِينَ) ويوم عاشوراء له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة، وكان موسى عليه الصلاة والسلام يصومه لفضله، وليس هذا فحسب بل كان أهل الكتاب يصومونه، وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه…كما ثبت ذلك عن عائشة رضي الله عنها.. وقد كان صوم يوم عاشوراء واجباً في أول الإسلام ثم نسخ الوجوب وبقي الاستحباب،أما عن فضل صيام يوم عاشوراء وعناية النبي صلى الله عليه وسلم به فيخبرنا ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فيقول: (مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ). ومعنى: (يتحرى) أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه..ويقول صلى الله عليه وسلم:(صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) والسنة أن يصام قبله يوم أو بعده يوم مخالفة لأهل الكتاب،ويجوز إفْراد العاشِر بالصيام، والأصْلُ في المخالفة الاسْتِحباب لا الوُجُوب، لا سيما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو مُفْرِد لصيامِه؛ يقول أهل العلم: (صيام يوم عاشوراء كفَّارة سنة، ولا يُكْره إفْراده بالصَّوم). فاحرصوا رحمكم الله على صيام هذا اليوم العظيم لفضله،  اقتداءً بأنبياء الله، وطلباً لثواب الله تعالى.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم أقل العثرة واغفر الزلة  وجد بالعفو على من لا يرجو غيرك، اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك،،اللهم بارك لنا في عامنا الهجري الجديد،واجعله من أبرك الأعوام علينا،اللهم أهله علينا وعلى بلادنا، وعلى قيادتنا وشعبنا وعلى جميع المسلمين بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والخير والبركات يارب العالمين، اللهم أعز الإسلام وانصر والمسلمين،اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين،اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين..

اللهم كن لإخواننا المظلومين المضطهدين  في كل مكان،اللهم كن لهم ناصراً ومؤيداً، اللهم كن لهم في فلسطين،  وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي بورما، اللهم إنه قد طال أمد البلاء، واشتدت بهم اللأواء، ولا ناصر لهم إلا أنت، ولا مغيث لهم إلا أنت، ولا معين لهم إلا أنت، اللهم ارحم الأمهات الثكالى، والزوجات الأرامل، والشيوخ الركع، والأطفال اليتامى، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، اللهم و احقن دماءهم ، و أحفظ أعراضهم، واشفي جرحاهم ومرضاهم، وارحم شهدائهم وموتاهم،وأنزل الرحمة على ديارهم،وارفع عنهم إجرام المجرمين،وطغيان المفسدين، وولي عليهم خيارهم،وأصلح أحوالهم يارب العالمين. اللهم نور على أهل القبور من المسلمين قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم،، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، ويغفر الله لي ولكم،وأقم الصلاة.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين