الجمعة 9 جمادى الأولى 1439هـ
الموافق 26 يناير 2018م

الحمد لله الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَبًاً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً،نحمده تعالى على نعمه التي تترى، وهو الذي خلق بقدرته الذكر والأنثى، وشرع الزواج لهدف أسمى وغاية عظمى، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع لعباده ما فيه صلاحهم وفلاحهم وهو العليم بما يصلحهم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
معاشر المسلمين: الحياةُ الهانِئَة ضرورةٌ من ضَرورات الحياةِ؛ ليستقرَّ المجتمَع ويحصلَ النمَاء والبناء ويتفرّغَ الخلقُ للعبادةِ والعِمارةِ، والنفس البشريّة قد جُبِلت على أن تسكنَ وتطمئنَّ إلى نفسٍ أخرَى، لذا قال الله تعالى في معرض ذكرِ نِعمه الوفيرةِ وآياته الكثيرة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). نَعَم عباد الله، (أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، ولم يقل: لتسكنوا معها، فهو دليلٌ على أنّ الزواجَ سكنٌ واستقرار وهَدأة وراحةُ بال. ومِن هنا جاءت أهمّيّة الزواج في الإسلام والعِنايةُ بالأسرة، فرغَّب الشرع في الزواجِ وحثَّ على تيسيرهِ وتسهيلِ طريقه، ونهى عن كلِّ ما يقِف في سبيلِه أو يعوق تمامَه ويعكِّر صَفوَه، فأمَرَ الله به في قوله: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ،والله واسع عليم) وفي الصحيحين أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشرَ الشباب، من استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوَّج) ، فالزّواجُ من سُنن المرسلين وهديِ الصّالحين.
أيّها المؤمنون: لقد عُنِي الإسلام بتكوين الأسرةِ المسلمة واستصلاحِها؛ لأنَّ الأُسَرَ أساس المجتمع الذي يقوَى ويشتدّ بقَدر تماسكه وترابُط أُسَره، ولذا شبَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين بالبُنيانِ المرصوص الذي يشدُّ بعضه بعضاً، فأمر بتزويجِ الأكفَاءِ، ونهى عن عَضلِ النساء، وبيَّن في الكتابِ والسنة الحقوقَ والواجباتِ بين الزوجين، ذلك أنَّ استقرار البيوت وصلاحَ الأسَر لا يكون إلاّ باستقرارِ الزوجين ونجاحِهما في حياتهما الزوجيّة. كما أنَّ فاقدَ الشيءِ لا يعطيه، فالأب والأمّ التعيسَين الشقيين في حياتهما الزوجيّة، لن يقدِّما لمجتمعِهما شيئاً، فضلاً أن ينشِئا أجيالاً صالحِين قادِرين على البناءِ والقيادَة. فالزواج الناجحُ نجاحٌ للمجتمَع، أمّا خراب البيوتِ فهو خرابُ الدّيار، لذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ فَيُدْنِيهِ إبليس مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ فَيَلْتَزِمُهُ). وإذا كان هذا شأنَ إبليس الرجيمِ فإنّ أتباعَه من المفسدين قد حَرصوا على هدمِ هذا الكيان وتفكيكِ أواصرِ المجتمَع وروابطِه عن طريقِ تفكِيكِ الأسَر، حتى انتشرَت معدَّلات الطلاق بشكلٍ مخيف، وارتفَعَت نسبة العُنوسة بشكل أسوَأ، ولا شكَّ أنّ في هذا خطراً كبيراً، ففيه تفرُّق المجتمَع، وضياع الأولادِ، وعنوسةُ النّساء، وانتشار الفساد،وظهور الضغائن بين الأسر.
أيها الأخوة والأخوات في الله: إنَّ الواجبَ على المربِّين والمصلحين والإعلاميِّين العنايةُ بهذا الجانِب، فانتشارُ المشكِلات الزوجيّة وتشعُّبها وتنوّعها مؤذنٍ بالخَطَر، فما بين زَعزَعة البيوت وهدمِها تدور المعضِلات،والمشكلات.
عبادَ الله: إنّنا نعلَم جميعاً أنّ الكمَالَ في الناس عزيز، وأنّ الاختلافَ من طَبيعة البشَر، وأنّ الزوجين لا يمكِن أن يكونا نسخةً لبعضهما في الطبائع والأخلاقِ والرَّغَبات والتّفكير، فيكفي من المفارَقات أنهما ذَكرٌ وأنثى، (وليس الذكرُ كالأنثى) كما أنهما لا يعيشان منعَزِلين، بل في داخِلِ مجتمَعٍ له متطلّباته وتأثيراته، لِذا فقد تهبّ عواصف الخِلاف على بعض الأسَر، وقد يختَلف الزوجان، ولم يسلَم بيتٌ حتى بيتُ النبوّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام من الخلاف، فهذه سنّة الحياة، إلاَّ أنّ البيتَ الصالح المؤسَّس على التقوى والذي عَرَف فيه كلا الزوجَين ما لهما وما عليهما فإنّه لا يتأثّر بأيِّ خِلاف، بل يزيده تماسكاً وثباتًا، ويُكسِبه وعياً وإدراكاً، فيصلَح الخطَأ وتُسَدّ أبوابُ الشّرّ للمستقبل.
أيّها الأخوة والأخوات في الله: وفي نظرةٍ سريعة مشفِقة إلى أَسبابِ المشكلاتِ الزوجية نجِدها نابعةً من معصيَة الله تعالى ومخالفةِ أمرِه في كثيرٍ من شؤون الزواج، حتى أصبَحَت بعضُ الزّيجات نَكَداً ونِقمَة بدلاً من أن تكونَ سَكنًاً ورَحمة، والله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ، ولا شكَّ أن مِن أعظمِ المصائب خرابَ البيوت، وقد قال بعضُ السّلف: (إني إذا عصيتُ الله رأيتُ أثَرَ ذلك في دابّتي وخُلُق زوجتي وخادمي)، قال أحدُ العلماء: (قلَّت ذنوبهم فعَرَفوها، وعرَفوا مِن أين أتوا،وكثرت ذنوبنا فلم نعرف من أين أوتينا). نعم، فمن بارَزَ الله بالذنوب والمعَاصِي فهل ينتَظِر توفيقًاً منه؟! ومَن عَصا الله ولم يطِعه فكيفَ يطالِب زوجتَه بأن تطيعَه؟! وكذا بالنسبة للزوجةِ؛ فمن قصّرت في جَنب الله فلا تنتظر من زوجها تماماً، إلاَّ أنَّ المعصيةَ من أحدِ الزوجين ليست مبرِّراً للآخَر أن يقصِّر في حقّ شريكِه أو يقابِلَه بالإساءةِ والعقوق.
عبادَ الله: ومِنَ المعاصِي والذنوب ما هوَ عامٌّ كتَضييعِ الصّلوَاتِ واقترافِ المحرَّمات، ومنها ما هوَ خاصّ بالزواج وهو التعدِّي أو التقصيرُ في الحقوقِ والواجبات الزّوجيّة، فبِقَدرِ ما يكون التفريطُ في هذه الحقوق تقَع الخلافات. إنَّ المعصيةَ الخاصّة وهي تضييع الحقوق لمن أشهَر المعاصي التي تهاوَنَ فيها كثير من الناس وتساهلوا مع عظيم أثرِها، وليعلَم مَن قصَّر في حقِّ زوجتِه أو قصّرت في حقِّ زوجها أنّه عَصَى اللهَ قبلَ كلِّ شيء، فينبغي للزوجين أن يستحضرَا حالَ الوفاءِ بالحقوق أنهما يقدِّمان طاعةً لله بامتثال أمرِه، بل بالاحتسابِ يكون ذلك عبادةً، وقد أخبَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم (أنّ المسلمَ يؤجَر حتى في اللقمةِ يضعُها في في امرأتِه) مع أنّ النفقةَ واجبةٌ عليه أصلاً، وفي الصحيحِ أيضاً أخبرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ في معاشرة الرّجل زوجتَه أجراً، مَعَ أنّ هذا تَدعو إليه الطّبيعَة.. إذًاً أهَمّ الحلول وأوَّلها لمن أرادَ السعادةَ الزوجيّة القيامُ بحقِّ الله تعالى وطاعتُه وامتثال أمره والقيام بما أوجَب من حقوقٍ، فمن أراد الحياةَ الهنِيّة فليقرَأ قولَ الحقّ سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)
أيّها المسلمون: حُسنُ الاختيار بين الطرَفَين أساسُ الحياة الزوجية ليكونَ الوِفاق والوِئام والتكامُل والانسجام، إلاَّ أنَّ التقصيرَ في هذا الجانِب ومَعصيةَ الله فيه يجعله سبَباً للمعضِلات والمشكلات، فمِن ذلك إجبارُ المرأةِ على رجلٍ لا تريده بسبب أعرافٍ بالية لتزويجها على قريبِها الذي لا ترغَبه أو طمعاً من وليِّها في جاهِ الخاطب أو منصبه ومالِه، وهذا حرام وظلم، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تُنكَح الأيِّم حتى تُستأمَر، ولا تنكَح البكر حتى تستأذَن). إلاَّ أنّ الفتاةَ يجِب أن تتفهَّم مشورةَ وليِّها، وأن تكونَ المصلحة مناطَ الاختيار، وغالباً يكون الولي هو الأحرص على اختيار الأصلح لموليته…
عباد الله: ومن المخالفاتِ أيضاً الكذبُ والتدليس من قبَلِ أحدِ الجانبين أو مِنَ الوسيطِ، فهذا غشٌّ وظلمٌ للمسلمين، يتحمَّل الكاذب فيه تَبِعتَه في الدنيا قضاءً وفي الآخرةِ حِساباً وجزاءً… ومِن سوءِ الاختيار للخاطب، عدمُ الاهتمام بأمورِ الدين، فيسأل الولي غيرُ الموفَّق عن الوظيفةِ والمالِ والجاهِ وأمورِ الدنيا ناسياً أنّ من خان اللهَ ورسولَه لا يمكِن أن يؤتَمَن على ابنتِه، وينسَى الخاطب أنّ من قصَّرت في جنبِ الله فلن تقومَ بحقِّ زوجِها، وربما يؤسَّس البيت على هذا، فيكون على شَفَا جُرُف هارٍ يوشك أن ينهار. والأولياءُ يتحمَّلون قِسطًاً من المسؤولية في ذلكِ لتفريطِهم في السؤالِ عن حالِ الخاطب، وتقصيرِهم في أداء الأمانةِ جِهةَ مَولِيَّاتهم، فكم منِ امرأةٍ صالحةٍ عفِيفة، بُلِيت بزوجٍ لا يصلّي أو يشرَب المسكِرات ويتعاطى المخدرات ويقارِف المحرّمات، بل ويضربها ويهينها ويهجرها ولا ينفق عليها، ولا ذنبَ لهذه المسكينة، إلاَّ تقصير وليّها وإهماله في السؤالِ عن ديانةِ الخاطب والتزامه، وكم مِن رجلٍ اشترطَ كلَّ الشروط الدنيويّة في مخطوبَته ولكنَّ الدينَ كان آخرَ اهتماماته، ثم يكتشِف أنها لا تصلُح أن تكونَ زوجةً لنقصِ دينها وخُلُقها، وكلّ هذا ناتِج عن غِشٍّ وتدليسٍ أو تهاوُن وتفريط. والسؤال الكبير: الذي يطرح نفسه هنا: على أيّ أساسٍ يكون الاختيار؟ فالجواب في حديثين شريفَين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (إذا أتاكم مَن تَرضَونَ دينه وخلقَه فزوِّجوه، إلاّ تفعَلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير) ، والثاني هو قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (تنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحسَبها ولجمالها ولدينها، فاظفَر بذاتِ الدين تَرِبَت يداك) أي خسرت وخبت إذا لم تظفر بذات الدين.
أيّها المسلمون: ومن افتَتَح حياتَه الزوجيّة بالمخالفاتِ الشرعية، فهل ينتظِر التوفيقَ من الله؟! أعني بذلك ما بُلِي به بعضُ المسلمين هداهم الله،حتى بعض الملتزمين منهم، بما أحاطوا به الأعراسَ والأفراحَ من مخالفاتٍ ومُنكَرات ومحرمات قد تنزِع منه البركةَ وتُفقِده التوفيقَ، هذا بالإضافةِ إلى المبالغةِ في الإسراف والتبذير والمباهاة في التجهيز والحفلات، حتى تحوَّلت بعض الحفلاتِ إلى طغيانٍ ومعاصي.ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا فاتَّقوا الله عباد الله، وليقُم كلٌّ بدوره ومسؤوليّتِه تجاهَ ذلك، ولا يُترَك السفهاءَ يعبَثون ويفسدون بلا حسيب ولا رقيب.
أيّها المؤمنون: إنَّ معرفةَ أسبابِ المعضِلات والمشكلات الزوجيّة يؤدّي بالعاقِلِ إلى تجنُّبها ومناصَحةِ إخوانه المسلمين لئلاّ يقعوا فيها، فتدخُّل الأقارب في شؤون الزوجَين مخالفٌ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (مِن حُسنِ إسلام المرءِ تركُه ما لا يعنيه) ، وقَد نهى الله تعالى عن التَحَسُّس والتَجَسُّسِ. كما أنّه من الجهلِ والحُمق أن يشتكيَ أحدُ الزوجين لأقاربِه ما يلقَى من الآخر؛ لأنّ توسيعَ دائرة الشقاقِ وإدخالَ مجموعةٍ من المخربين في السّاحة يزيدُ الأمرَ سوءاً وتعقيداً. إنّ الواجبَ أن نحتفِظَ بأسرارِنا ونحلَّ مشاكلنا بأنفسنا، فإذا تأزَّمتِ الأمور يُدْخَلُ من يصلِح لا مَن يفسِد، أمّا أن لا يكونَ مِن أمرٍ إلاَّ وهو دائرٌ في كلّ بيتٍ وتدور الغِيبة والنميمةُ على كلّ لسانٍ فهذا منكَرٌ يهدِم البيوت وتخرب الأسر.
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على بيوتكم وتعرفوا على أحكام دينكم،وأقيموا حدود الله ولا تتجاوزوها،وأصلحوا ذات بينكم،رزقني الله وإياكم الفقه في دينه،والبصر في شريعته،ونفعنا بهدي كتابه،ورزقنا السير على سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم،أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية
الحمد لله، خَلَق فسوّى، وقدَّر فهدى، وخلق الزوجين الذكرَ والأنثى مِن نطفة إذا تمنى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، ونشهد أنّ نبينا محمّداً عبده ورسوله الذي كان خيرَ الناس لأهله وهو خير منّا.
أما بعد فيا أيها المسلمون: ومِن بواعِثِ المشكِلات الأسَرِيّة ومسبِّباتها النظرةُ القاصِرَة للحياة الزوجيّة، وعدمُ الإدراك الصحيح لمقاصِدِ الزواج الشرعيّة السامية، التي من أهمِّها حصولُ الإعفافِ للزوجَين، والسّكن الفطريُّ لبعضهما، وإقامةُ البيت المسلِم، والتعاوُن على البرِّ والتقوى، وتربيةُ الذرّيّة الصالحة التي تعبُد الله وتطيعه، فإذا استحضَر الزوجان هذه المعانيَ فلم يلتفتا إلى القشورِ أو القصور ولو حصَل خطأ دنيويّ قدَّراه قدره وتذكّرا قولَ الله عز وجل: (وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ، حتى ولو كان نَقصاً في أحدِ الزوجين فإنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: لَا يَفْرَكْ ( أي لا يبغض) مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)
وكذلك النظرةُ القاصِرة لنِسَب الجمال، فليجعلِ المسلمُ المقاصدَ الشرعيّة هي الأساس، ومن طريفِ ما يُروَى عن عامر الشعبي رحمه الله أنّ رجلاً سألَه فقال: (إني تزوَّجتُ بامرأة فرأيتُ في إحدَى قدَمَيها أثرَ عَرج أفأردُّها وأسترجِع مهري؟ قال الشعبيّ: (إن كنتَ تزوَّجتها لتسابِق عليها فرُدَّها) فأفحمه وأحرجه.. وبعضُ الناسِ يزهَد في امرأتِه لأنّه يرَى غيرَها أجمل منها أو أطوَلَ أو أعلَمَ، وهذا يؤدّي بِنا إلى الحديثِ عن سَبَبٍ آخرَ مهمّ من بواعثِ الشّقاقِ ومدخَلٍ كبير للشيطان ألا وهو بابُ المقارناتِ بين الأزواج، فتبدأ الوساوسُ والخواطِر كلّما ذُكِرت امرأةٌ وأنّ فيها أو في جمالها وخُلُقها وتدبيرها تميُّزاً، فيبدأ المسكين يقارِنُ بينها وبين زوجته ويتحسَّر، وكذلك المرأةُ، تقارن بين زوجها وغيره من الرجال، وهذا بابٌ ليس له آخِر،يفسد الأزواج والزوجات.
أيها المسلمون: ومن أسبابِ المشكلات الزوجيّة عدمُ قيام الزوج بواجب القوامَة الشرعيّ أو التعسُّف في استخدامِه أو منازعةُ الزوجةِ له حقَّ القوامة. إنّ القوامَةَ لا تعني التسلُّط والظلمَ، وإنّما هي الرعاية والحفظُ والقيام بالمصالح… لقد حَكَم الله تعالى بأبلَغِ بيانٍ بما على الزوجين فقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). فانظر ـ رعاك الله ـ إلى هذه الكلماتِ القصيرة وتدبَّرها، لقد قال: بِالْمَعْرُوفِ أي: أنَّ المطالبةَ بالحقوق لا تكون بالأنانيّة ولا بالإلجاءِ والمحاسبة، فهي شراكَةُ حياة لا شركةُ تجارة. وقال سبحانه في آية أخرى: (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) ، حتى الفرقة أيضاً بإحسانٍ، فهل تجِدون أجملَ من هذه التّوجيهاتِ لصلاح البيوت؟!.. أيّها المؤمنون والمؤمِنات: إنّ سعادةَ البيوتِ لا يحقِّقها إلاَّ دينٌ صَحيح، وخُلُق سميح، وتغاضٍ عن الهفَوَات، وحرصٌ على أداءِ الحقوق والواجبات مع المروءةِ والأدَب واحتساب كلِّ أمر عند الله تعالى، عند ذلك تهبّ نسائمُ السعادةِ لتشملَ كلَّ الأسَرِ وتربِط المجتمع كلَّه بالعلاقاتِ الطيّبة والحبِّ والاحترام المتبادَل.. ينبغي للمرأةِ أن تقصرَ عينَ زوجِها عليها بحُسن تبعُّلها له، وكذا يجِب على الرجلِ أن يحسِن إلى امرأتِه ويكفيَها. وليَعلم الجميعُ أنّ كَثرةَ المخالفة توغرُ الصدورَ، وأنّ طولَ المرافقة مِن كثرةِ الموافقة وطولَ الصّحبة بالقناعة وجميلَ العِشرة بحُسنِ الطاعة، ومن كان أشدَّ احتراماً فإنّه لا يلقَى إلاّ محبّةً وإكراماً، ومن دعَا الله لم يخيِّب رجاءَه… إنَّ العلاقةَ بين الزوجَين ليست دنيويّة مادّية ولا شهوانيّة بهيميّة، إنها علاقةٌ روحيّة كريمة، حينما تصلُح وتصدق فإنها تمتدّ إلى الحياة الآخرة، (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) ، وكم مِن أُسَر في سِترِ الله عاشت كريمةً، وماتت كريمة.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال أسرنا وأزواجنا وأولادنا، وجنبنا الشقاق والنزاع والخصام، اللهم ألف بين قلوب الأزواج والزوجات، وأصلح ذات بينهم، وانشر الرحمة والمودة في ربوع أسرهم، واصرف عنهم شر الأشرار، وكيد الفجار يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.اللهم أحينا مسلمين، وتوفّنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادك الصالحين. اللهم آمنا في وطننا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.اللهم وفق ولاة أمورنا (ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزراءه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد) وفقهم لما تحب وترضى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان،اللهم أصلح أحوالهم في فلسطين وفي سوريا وفي اليمن وفي بورما، وفي كل مكان، اللهم ولي عليهم خيارهم ولا تسلط عليهم شرارهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندَك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا بذنُوبِنا فضلَك يا حي يا قيوم يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين