الجمعة 25 ربيع الآخر 1439هـ
الموافق 12 يناير 2018م

الحمد لله خلق الخلائق وقدر أقواتها، وقسم أرزاقها، وحدد آجالها، فلن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، نحمده سبحانه ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين، إيماناً بحقيقتها، وعملاً بمقتضياتها. ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالهدى ودين الحق، بإتباعه تبلغ النفوس مناها في آخرتها ودنياها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خير الأمة وأزكاها، وأبرها وأتقاها، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن تقواه سبحانه سبب لرفع البلاء، ودفع الضراء، وحصول الأرزاق، وحلول البركات من رب الأرض والسماء.
معاشر المسلمين: اعملوا؛ فكلٌّ مُيسَّرٌ لما خُلق له، أرأيتم لو أن أرزاقَ الناس بأيدي البشر؛ فكم سيقع من الظلم والتظالُم، والبغي والفساد. والله، لو تُرك ذلك إليهم لظلَمَ بعضُهم بعضاً، ولبغَى بعضُهم على بعضٍ؛ بل لنسِيَ بعضُهم بعضاً، ولغفَلَ بعضُهم عن بعض.. فسبحان الله الرزاق الكريم ذي القوة المتين! لا يظلمُ ولا يبغي، ولا ينسَى ولا يغفَل؛ بل يتفضَّل ويُنعِم، ويُحسِن ويرحم، وهو اللطيف الخبير،يقول تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
أيها المؤمنون: إنَّ همَّ الرزق قد أكل قلوب الناس، وأشغل عقولهم. هناك من الناس من يهلع ويجزع حينما يسمع بالتغيُّرات الاقتصادية، والتقلُّبات المالية،وهبوط أسعار النفط، وغلاء الأسعار، والتضييق في المعيشة، والمُشكلات في أمور المعاش، وكأنهم لا يعلمون أن الله -عزَّ شأنه- قد تكفَّل بالرزق لجميع خلقِه؛ إنسِهم وجنِّهم، مؤمنِهم وكافِرهم، قويِّهم وضعيفِهم، كبيرِهم وصغيرِهم،يقول تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) ويقول سبحانه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
عباد الله:يقول ّرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:( لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى الْجَنَّةِ، إِلا قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلا عَمَل يُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، إِلا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، لا يَسْتَبْطِئَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ رِزْقَهُ، إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَلْقَى فِي رُوعِيَ أَنَّ أَحَداً مِنْكُمْ لَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنِ اسْتَبْطَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ رزْقَهُ، فَلا يَطْلُبْهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُنَالُ فَضْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ)
لقد كتب الله رزقَ ابن آدم، وقدَّره قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا؛ صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً نطفة، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكاً فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ اكْتُبْ: عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ)
أيها الأخوة والأخوات في الله: وهذا عرضٌ موجز لبعض الأسباب الجالِبة للرزق، هدى إليها الربُّ تبارك وتعالى، ودلَّ عليها الشرع الحنيف: أما أولُ ذلك وأولاه: فتقوى الله عز وجل؛ فمن اتقى الله ولزِمَ مرضاته، رزقَه من حيث لا يحتسِب، وعدٌ من الله حقٌّ، يقول تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) يرزُقه من جهةٍ لا تخطُر له على بالٍ، ومن حيث لا يرجُو ولا يُؤمِّل،وصدق الله العظيم: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) يتَّقي العبدُ ربَّه ظاهراً وباطناً، يتَّقي الله في نفسِه وأهلِه ومالِه وعملِه، وفي شأنه كلِّه… ومن الأسباب الجالبة للرزق -حفِظكم الله-: كثرةُ الاستغفار والمُداومة عليه والتوبة، يقول عزَّ شأنُه مُخبِراً عن نبيِّه نوحٍ عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) ويقول عن نبيه هود عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) وورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( مَن لزمَ الاستغفارَ جَعلَ اللهُ له من كلِّ همٍّ فرجاً، و من كلِّ ضيقٍ مخرَجاً، و رزَقَه مِن حيثُ لا يحتَسبُ) يقول أهل العلم: (وهذا دليلٌ على أن الاستغفار يُستجلَبُ به الرزق، ويُستنزَلُ به الغيث). استغفارٌ يتواطأُ فيه القلبُ مع اللسان، غيرَ مُصرٍّ على ذنبٍ، ولا عازِمٍ على عودٍ إلى معصية صغيرة أو كبيرة.
عباد الله: ومن أعظم الأسباب الجالبة للرزق: حُسن التوكُّل على الله، فيتعلَّقُ القلبُ بمولاه، ويُفوِّضُ أمرَه إليه؛ فمن توكَّل على الله كفاه ما أهمَّه، ودفع عنه ما ضرَّه وأغمَّه، ورزقَه من حيث لا يحتسِب، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً) يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (هذا الحديث أصلٌ في التوكُّل، وأنه من أعظم الأسباب التي يُستجلَبُ بها الرزق). قال بعضُ السلف: (توكَّل تُسَق إليك الأرزاق بلا تعبٍ ولا تكلُّفٍ). عباد الله: ومما ينبغي أن يُعلم في هذا المقام أن التوكُّل لا يُعارِضُ الأخذَ بالأسباب، والاجتهاد في الطلَب؛ بل قال أهلُ العلم: (إن السعيَ بالجوارِح وابتغاء الأسباب طاعةٌ لله، والتوكُّل بالقلبِ إيمانٌ به سبحانه)، وقد قال عزَّ شأنُه في طلب الأسباب: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) وقال سبحانه: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)
والفاروق عُمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (لا يقعُدُ أحدُكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزُقني؛ فقد علِمتُم أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهباً ولا فضَّة). والتوكُّل محلُّه القلب، والسعي وظيفة الجوارِح، وما تعسَّر من شيءٍ فبتقديرِه، وما تيسَّر من شيءٍ فبتيسيره. ولما قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أُرسِلُ ناقَتي وأتوكَّل؟ قال له: (أعقلها وتوكَّل)…
ومن الأسباب الجالِبة للرزق والمُبارِكة فيه -حفِظكم الله-: صلة الرحم، ففي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يُبسَط له في رزقِه، وأن يُنسأَ له في أجلِه، فليصِل رحِمَه) ويقول عليه الصلاة والسلام:(تعلَّموا من أنسابِكم ما تصِلون به أرحامَكم؛ فإن صِلة الرَّحِم محبَّةٌ في الأهل، ومثراةٌ في المال، ومنسأةٌ في العُمر) فلِصِلة الرَّحِم آثارٌ عجيبة، وثِمارٌ مشهودةٌ؛ من بسط الرزق، وزيادة العُمر، ودفع ميتة السُّوء، وغرس المحبَّة وغير ذلك ..
أيها المؤمنون: ومن عجائِب حِكمة الله وفضلِه: أن جعل الإنفاقَ في سبيل الله من أسباب جلبِ الرزق وسَعَته؛ فمن أنفقَ أخلفَ الله عليه، وباركَ له فيما عنده،يقول تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يُخلِفُه عليه في الدنيا بالبدل والبركة، وفي الآخرة بحُسن الجزاء وعظيم الثواب، وفي التنزيل العزيز: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يقول عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: (اثنان من الله، واثنان من الشيطان؛ الشيطان يعِدُكم الفقرَ يقول: لا تُنفِقه وأمسِكه لك، فإنك تحتاج إليه، ويأمرُكم بالفحشاء، والله يعِدُكم مغفرةً منه على المعاصِي والذنوب، وفضلًاً في الرزق)، وفي الحديث القُدسي: (يا ابن آدم، أنفِق أُنفِق عليك) وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من يومٍ يُصبِحُ فيه العباد إلا وفيه ملَكَان ينزِلان، فيقول أحدُهما: اللهم أعطِ مُنفِقًاً خلَفًاً، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسِكًا تلَفًاً)… فأنفِقوا عباد الله، وأبشِروا بالخلَف الواسِع من فضل الله؛ بل لقد قال عزَّ شأنُه: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)
أيها المؤمنون: ومن أسباب الرزق وأسباب سعَته: الإحسان إلى الضعفاء والمُحتاجِين، وتفقُّد أصحابِ الحوائِج، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائِكم؟! ويقول: (ابغُوني في ضُعفائِكم؛ فإنما تُرزَقون وتُنصَرون بضُعفائِكم) وهذا يشملُ أصنافَ ذوي الحاجات؛ من الفقراء، والمساكين، والأرامل والأيتام والمرضَى، والغُرباء، ومن لا عائِلَ له… وإن أوضاعَ الأمة ومآسيها قد أوقعَت الكثير من إخواننا المستضعفين في بعض البلدان المنكوبة، أوقعتهم في أحوالٍ وشدائِد؛ فتفقَّدُوهم، وأحسِنوا إليهم، وأنفِقوا يُخلِف الله عليكم، ويُبارِك لكم؛ بل إنكم بهذا تستجلِبون نصرَ الله وعونَه وتأييدَه ورزقه.
أيها المسلمون: وإن من أعظم أسباب جلبِ الرزق وبركته؛ بل لعلَّه هو جِماعُ الأسباب كلِّها: الاستقامة على دينِ الله، والعمل بطاعته، واجتِنابَ معاصِيه ومناهِيه؛ فما استُجلِبَت الأرزاق إلا بالطاعات، وما مُحِقَت إلا بالمعاصِي والذنوب، وإن العبد ليُحرَم الرزقُ بالذنبِ يُصيبُه… فالذنوبُ والمعاصِي والمنكرات من أكبر الأبواب التي تُغلِقُ موارِد الأرزاق على الفرد وعلى الأمة… بالذنوب والمعاصِي تتعسَّر الأسباب، وتضيقُ الأقوات، وتُمحَقُ البركات، (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)
إن نِعَم الله ورزقَه ما حُفِظَ موجودُها بمثلِ الطاعة، ولا استُجلِب مفقودُها بمثلِ الطاعة، فما عند الله لا يُنال إلا بالطاعة. فمن أراد السَّعة في الرزق، والرَّغَد في العيش، والبركة في المال فليحفَظ نفسَه عما يُؤثِّمُه، وليمتثِل أوامِر ربِّه، وليجتنِب نواهِيَه، وليصُن نفسَه عن مواضِع سخَط الله عز وجل.
عباد الله: ومن أسباب زيادة الرزق، شكر الله على النعم السابغة، يقول تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، فالشكر يقيد النعم الموجودة، ويجلب النعم المفقودة، وفي ذلك يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (قيَّدوا نعم الله بشكر الله تعالى عليها) فالشكر قيد النعم، وسبب المزيد.. ويكون شكر الله بإقرار القلب بالنعمة، والثناء باللسان على الله، واستعمال هذه النعمة فيما يرضي الله سبحانه.. وبعد: فيا عباد الله: إن رزقَ الله لا يجُرُّه حِرصُ حريص، ولا ترُدُّه كراهيةُ كارِه، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب؛ فالعبدُ المُؤمن إذا استيقنَ أن الرزقَ مُقدَّر اطمأنَّ قلبُه، واستراحَت نفسُه، فلن يجزَعَ من فقرٍ يُصيبُه، أو جائِحةٍ تُتلِفُ مالَه، ولن يشغَلَ نفسَه بالدنيا عن الآخرة؛ لأنه يعلمُ أنه لا يأتيه إلا ما كُتِب له. لا يستشرفُ إلى ما في أيدي الناس، ولا يتطلَّع إلى ما في خزائِنِهم، ولا تمتدُّ يدُه إلى الحرام، مُتعلِّقٌ بربِّه، يعلمُ أن الخلقَ لا يرزُقون أنفسَهم فضلاً عن أن يرزُقوا غيرَهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) اللهم أرزقنا رزقاً واسعاً حلالاً طيباً مباركاً فيه، وأغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك يا سميع الدعاء.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: إن ربكم سبحانه قدر المقادير، وقسم الأرزاق، وكتب الآجال، وجعل عباده متفاوتين في ذلك، وجعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والله يبتلي عباده بالسراء، ويبتليهم بالضراء، وصدق الله، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)
وإن من الابتلاء في هذا الزمان، ظهور الغلاء، وارتفاع الأسعار؛ لما له من آثار سيئة تلحق الفرد والمجتمع والأسر الفقيرة والمتوسطة، ونعلم أن هذا الغلاء ليس عندنا فقط، بل هو عام في كثير من الدول، وخاصة الدول المعتمدة على غيرها في المنتجات، ولهذا الغلاء أسبابه المحلية والعالمية، ولسنا في مقام تحليل لهذه الأسباب؛فأهل السياسة والاقتصاد هم الأجدر بمعالجتها ووضع الحلول الناجعة لها، وإنما نريد الحديث حول التوجيهات الشرعية في مثل هذا الغلاء الذي تضرر منه كثير من الناس.
عباد الله: إن الشريعة الإسلامية أولت التجارة والتُجار عناية كبيرة، فبينت ضوابط وأحكام البيع والشراء، وأباحت الربح الحلال، وجعلت السعي في الأرض وطلب المال الحلال مع النية الصالحة عملاً صالحاً، وحذرت من التعسف والجور والظلم والجشع والطمع والأنانية واستغلال حاجات الناس، يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار، إنكم تبعثون يوم القيامة فجاراً، إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق). ويقول صلى الله عليه وسلم: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا محقت بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا)..
وأمرت الشريعة بالتيسير والتسهيل وطلب الربح اليسير، دون العنت والمشقة على الناس، بل جعلت هذا باباً عظيماً من أبواب الرحمة والإحسان، يقول صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحاً إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى)… عباد الله: وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم التجار، من غلاء الأسعار، لمجرد جشعٍ وطمع منهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يقذفه في جهنم)
وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من أكل المال الحرام؛ وقد يأتي المالُ الحرام بسبب المغالاة التي منطلقها الجشع والطمع، يقول صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ).. ومما حرمته الشريعة مما يكون حماية للمستهلك النجش: وهو الزيادة في قيمة السلعة ممن لا يريد شراءها.
ومما حرمته الشريعة الإسلامية إنفاق السلعة بالحلف الكاذب؛ يقول صلى الله عليه وسلم. (الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ)
ومما حرمته الشريعة الإسلامية مما قد يكون سبباً في رفع الأسعار: الاحتكار، وهو حبس السلع عند حاجة الناس إليها، لتشحَّ من الأسواق فيغلو ثمنُها، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يحتكر إلا خاطئ) يعني آثم.
ومما يُوصَى به الناس في كل وقت؛ وخاصة مع غلاء الأسعار وارتفاعها، الاقتصادُ في المعيشة، والتوسط في النفقة، يقول تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾..كما نوصي الجميع بالتراحم، فالرحمة من أخلاق المسلمين، التي أمر بها سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) وقال: (لا يَرحمُ اللهُ من لا يرحمُ الناس) لأنَّ الذي خلا قلبه من الرحمة والشفقة شقيٌّ بعيد عن الله تعالى، و(لا تُنـزع الرحمة إلا من شقي)
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه سبحانه، فيما تأتون وتذرون، وتراحموا فيما بينكم؛ فالرحماء يرحمهم الرحمن.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك، تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا،وتلم بها شعثنا، وتدفع بها الفتن والمحن والبلاء عنا يا أرحم الراحمين..
اللهم ارزقنا رزقاً حلالاَ طيباً مباركاً لا تجعل لأحد فيه منَه، ولا في الآخرة عليه تبعه، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صب علينا الخير صباً صباً، ولا تجعل عيشنا كداً كداً.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك يا ذا الجلال والإكرام… اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين،اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم من أراد بلادنا وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة فأشغله بنفسه، وأجعل كيده في نحره، وأدر دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء…
اللهم حقق لفسطيننا وقدسنا وشامنا ويمننا وللمبتلين من عبادك في كل مكان، حقق لهم خيراً وصلاحاً تنفرج به الكروب، وتحقن به الدماء، وتحفظ معه الأعراض، ويستتب فيه الأمن، وتبسط فيه الأرزاق، وتعلو فيه راية الحق والعدل والإيمان والإسلام. اللهم أصلح أحوالهم، وألف بين قلوبهم، ولا تجعل لعدو ولاطاغية عليهم سبيلا… اللهم حرر الأقصى من أيدي الصهاينة المعتدين الغاصبين، وارزقنا فيه صلاة طيبة قبل الممات يا رب العالمين.. اللهم فرج الهم عن المهمومين،ونفس الكرب عن المكروبين،واقض الدين عن المدينين،واشف مرضانا ومرضى المسلمين وارحم موتانا وموتى المسلمين،برحمتك يا أرحم الراحمين.( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.)
اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ويغفر الله لي ولكم.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين