الجمعة 11 ربيع الآخر 1439 هـ
الموافق 29 ديسمبر 2017م

الحمدُ للهِ الذي أَبَانَ لخلقِه الهُدى والسَّداد، وهدى أولياءَه للصِّراطِ المستقيمِ وسَبِيلِ الرَّشَادِ، نحمدُه سبحانه ونشكرُه على ما أَسْبَغَ مِنَ النِّعَمِ وأَعَادَ، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يَهدي من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد. ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه، أفضل المرسلينَ وأكرم العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلَّمَ تسليماً كثيراً..
أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونَفسي بتَقوى الله تعالى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: لقد سعى ديننا الإسلامي الحنيف، إلى إقامة المجتمع المسلم، الذي ترفرف على جنباته رايات الحب والرحمة، وتظلل سمائه سحائب الخير والمودة والرأفة، يقول تعالى:(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم، كمثل الجسد الواحد، إِذا اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى)
عباد الله: ومن شمائل الإسلام العليا، ومثله العظمى، التي ربى أتباعه عليها، وأمر بإشاعتها في مجتمعاتهم، خلق الرحمة، وخصلة التراحم بين الخلق، إذ الرحمة كمال بالطبع، يجعل المرء يرق لآلام الآخرين، ويحس أحاسيسهم، ويعايشهم أفراحهم وأحزانهم، ويشاطرهم آمالهم وآلامهم…وتبلد الإحساس يهوي بالإنسان إلى منازل الجماد، حيث يسلبه أفضل ما فيه من العاطفة الجياشة، التي تنضب بالحب والرحمة، والضمير اليقظ المصقول، الذي يفيض رقة وحناناً،وينساب رأفة وامتناناً.
أيها الإخوة والأخوات في الله: الرحمة في معناها السامي، وأفقها العالي، صفة المولى تبارك وتعالى، والرحيم،اسم من أسمائه الحسنى،(الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) وصح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى امرأة في الأسر، ترضع ولدها بلهفة وشوق، فقال لأصحابه: (أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قَالُوا : لا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ : (وَاللَّهِ ، لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِوَلَدِهَا)، الله أكبر، سبحانك ربنا ما أرحمك، ونسألك اللهم رحمتك في الدنيا والآخرة، وأنت أرحم الراحمين.( رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) وفي الحديث القدسي: أن الله تعالى يقول: (إن رحمتي سبقت غضبي، أو تسبق غضبي) وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (‏جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءاً، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) وكل ما يرى يا عباد الله بين الناس من تراحم فهو أثر من آثار رحمة الله، التي أودعها في قلوب من شاء من عباده، فأرقهم قلوباً، وألينهم طباعاً، وأهذبهم سلوكاً، أوفرهم حظاً من هذه الرحمة…
أما قساة القلوب، وغلاظ الأكباد، وجامدو الأعين، الوحوش الكاسرة، والذئاب المسعورة، فهم بعيدون عن رحمة الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: (وإنَ أبعد القلوب من الله القلب القاسي)
وهم أهل الشقاء والعياذ بالله، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تُنْزَعُ الرَّحْمَة إلا من شَقِيٍّ) وقد عاب الله سبحانه على أقوام قست قلوبهم، ففسقوا عن أمر الله، وحذر من التشبه بهم، فقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)
أيها المؤمنون: لم تعرف أمة من الأمم عبر التأريخ، في سير عظمائها، وتأريخ رجالاتها رجلاً أعظم رحمة ولا أكثر رأفة ولا أشد شفقة من سيد ولد آدم، الحبيب المصطفى والنبي المجتبى، عليه صلوات الله وسلامه بأبي هو وأمي، وحسبكم ثناء ربه عليه بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رءوفٌ رَّحِيمٌ)، وقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فهو رحمة أرحم الراحمين سبحانه،( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) حتى لازمته هذه الفضيلة في أحلك المواقف، وأصعب الأزمات، وهل هناك جريمة أكبر من محاولة قتله، ومع ذلك يغلب عليه رفقه، وتأبى نفسه العالية، المعاملة بالمثل، بل يستميح العذر لأعدائه، ويدعوا لهم دعاء الرحيم بأمته، ( اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون) ويوم أن أعزه الله، وأعاده فاتحاً ظافراً منتصراً إلى مكة، قال: (يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟ فردّوا وهم يعلمون خلقه العظيم:ما تفعل إلا خيراً، أخ كريم و ابن أخ كريم. فقال يمنّ عليهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء).وهكذا يعمل أصحاب القلوب الكبيرة، والنفوس الأبيًة، فهم إلى الصفح والعفو أقرب منهم إلى الضغينة والانتقام… كما لم يسجل في تأريخ هذه الأمة ومواقفها في السلم والحرب، مواقف الجبروت والتسلط، والعنف والتشفي،بل لقد نهى الإسلام عن المثلة والغدر، وقتل النساء والصبيان والضعفاء والرهبان، وهذا سر إنتشار هذا الدين، ورفرفة راياته خفاقة في جميع أرجاء المعمور، في فتوحات المسلمين وانتصاراتهم الباهرة… وهكذا يا عباد الله كلما سادت الرحمة أفراد المجتمع، وحياة الأمم، نعمت وأمنت واستقرت،وكلما سلكت مسالك العنف والقسوة والغلظة، عمت الفوضى وانخرق سياج الأمن ، وحصل من الخراب والدمار للبلاد والعباد، والفتن والمحن والتدخلات الخارجية ما لا يعلمه إلا الله،والمستقرئ للتأريخ والمتأمل في الواقع، يتبين له ذلك الأمر بجلاء، ولله الحكمة البالغة في خلقه وكونه، وهو أحكم الحاكمين.
يا أهل الرحمة ويا أمة التراحم، قد لا يدرك المرء أبعاد هذه القضية إلا عند الأزمات والمصائب، وقد لا يشعر بآثارها، إلا عندما تحل به الفواجع والنكبات، فعندما يصاب المسلم بمصيبة، كفقد عزيز لديه من أم أو أب أو ولد أو أخ أو أخت أو قريب، ويحيط به المحبون، هذا يعزي، وذاك يواسي، وثالث يصنع طعاماً، والكل يدعو، والجميع يشاطر الأحزان، فهذا زائر، وذاك يهاتف، وثالث يبرق ويرسل، في مقدمة هؤلاء، ولي أمر رحيم، وعالم مشفق، ومسئول صادق،ومحب صدوق، وقريب ملتاع، كل ذلك يجلي الرحمة بأسمى معانيها، ويؤكد أن المجتمع المسلم، هو مجتمع التراحم بحق وكفى، كما يجلي حكم هذا الدين، ومحاسن هذه الشريعة، وأنها رحمة كلها في السراء والضراء، فينسى المصاب مصابه، وتخفف الرحمة أحزانه، ويدعو للجميع بعظم الأجر والمثوبة،والسلامة من كل سوء ومكروه.
أيها المسلمون: جوانب الرحمة كثيرة، ومجالاتها واسعة، يشترك فيها الجميع، فالراعي الرحيم من يحدب على رعيته، ويسعى في الخير لهم، ويدرأ أسباب الشر عنهم، والعالم الرباني بنشر علمه، والداعية المخلص بحسن أسلوبه، والتاجر الأمين يصدق في تعامله،والموظف الرحيم يجد في وظيفته، وييسر معاملات مراجعيه، وهكذا الأب والأم الحانيان يحسنان تربية أولادهما، وهكذا… وعلامات صدق الرحمة وسلوك سبيل التراحم، كلمة هادفة، وابتسامة حانية، وقلب لين، ودمعة ساخنة، ومعاملة طيبة، وسلوك حسن، وسعي في مصالح الآخرين، وحب للخير لهم، في بعد عن الظنون السيئة، والخصال الذميمة، والكلام القاذع،والنقد اللاذع، وإيذاء الغير قولاً وفعلاً. صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله عز وجل)، وقال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)
أيها المسلمون: يا أهل الرحمة والتراحم: هناك فئات في المجتمع جديرة بالرحمة أكثر من غيرها، وفي مقدمة هؤلاء الوالدان، لا سيما عند كبر سنيهما أو مرضهما، فهم أجدر الناس برحمة أبنائهم وبرهم بهم، ولكن أين الرحمة من قلوب من لم يأبه بوالديه، ويسعى في عقوقهما، ولا يستغرب هذا في زمن جفت فيه منابع الرحمة عند كثير من الناس إلا من رحم الله، فأهملوا آبائهم وأمهاتهم،بل لم يتورع بعضهم في تركهم في دور الرعاية والعجزة بلا سؤال ولا عناية،نعوذ بالله من الخذلان…ومن الجديرين بالرحمة يا عباد الله ذوو الأرحام والأقارب والجيران، وبين الرحم والرحمة اشتقاق في المبنى، فيجب أن يكون بينهما تلازم في المعنى، ونعوذ بالله من حال من وصلت بهم الأمور، مع أقاربهم وجيرانهم،إلى القطيعة والهجران لأتفه الأسباب… كذلك يا عباد الله يجب أن تسود الرحمة بين الزوجين، قال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كذلك ينبغي الرحمة بالأبناء، ففي الحديث: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَبَّلَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًاً، فَقَالَ الْأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) وفي رواية: (أَوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟)، ولما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم،جعلت عينا رسول الله تذرفان (بالدموع) فقال: أحد الصحابة، وأنت يا رسول الله،(أي تبكي) فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها رحمة جعلها الله في قلوب من شاء من عباده).
أيها الأخوة: وممن تنبغي بهم الرحمة، اليتامى، فالإحسان إليهم، وكفالتهم من أزكى القربات، ومما يثير الرحمة ويعالج قسوة القلوب.. في الحديث: (أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له: إن أردت أن يَلين قلبُك، فأطعم المسكين، وامسح رأسَ اليتيم)
كذلك يا عباد الله:تنبغي الرحمة بالمرضى والمعاقين وذوي العاهات، فهم جديرون بالرحمة والإحسان والزيارة والدعاء.
ومن الفئات الجديرة بالرحمة، فئة الخدم والعمال، وذلك بالرفق بهم، وعدم تكليفهم ما يشق عليهم، وعدم التأخر والمماطلة في إعطائهم حقوقهم ومرتباتهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما لا يطيقون، فإنْ كلَّفتموهُمْ فأعِينُوهُمْ).
نسأل الله تبارك وتعالى أن يشملنا برحمته، وأن يعاملنا بعفوه وكرمه، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنه جواد كريم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه،والشكر له على توفيقه وامتنانه،ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لاشريك له تعظيماً لشأنه سبحانه،ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله،الداعي إلى سبيل الله ورضوانه،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه،وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد فاتقوا الله عباد الله وتراحموا فيما بينكم، واعلموا أن من الفئات الجديرة بالرحمة، فئات المدينين والمعسرين، فالرحمة ينبغي أن تشيع بين الناس في معاملاتهم، فينبغي على أهل الثراء والأموال، أن ينظروا أرباب الديون، ولا يكلفوهم ما لا يطيقون، فالمدين إن خرج رأى الناس وهم يطالبونه، فليله ونهاره في هم وغم وبلاء، يقول تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (ومن أنظر معسراً أو وضع عنه، وقاه الله من فيح جهنم)… عباد الله: ومن الفئات الجديرة بالرحمة فئة العصاة والمذنبين،تنظر إليهم بعين الرحمة والرأفة، بأنهم ضعفوا أمام معاصيهم، وتسلط عليهم الشيطان، فترحمهم بالنصيحة والتوجيه والدعوة إلى الخير والتحذير من الشر والدعاء لهم بالصلاح والاستقامة، واعلموا عباد الله أن الرحمة أحياناً تقتضي الحزم مع من يستحقه، فالطبيب حينما يعالج المريض، والمريض حينما يكره على الدواء، والطفل عندما يساق إلى المدرسة، كل ذلك عين الرحمة.
فقسا ليزدجروا و من يك راحماً
فليقسُ أحياناً على من يرحم
كذلك من الرحمة، إقامة حدود الله وعقوباته على المجرمين والعابثين والمعتدين على حرمات الناس وأمنهم، إنها رحمة بالمجتمع بأسره، واستئصال لعضو مسموم في المجتمع حتى لا يسري بآثاره المدمرة على الجميع، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
أيها المؤمنون: ومن الفئات المستحقة للرحمة والرأفة، خصوصاً في عصرنا الحاضر، فئة المظلومين والمضطهدين في بعض بلاد العرب والمسلمين، ممن تسلط عليهم الطغاة والجبابرة، فأراقوا دمائهم، وتحكموا في رقابهم ومقدراتهم؛ وأساءوا وطغوا وبغوا وظلموا واستخفوا بحرماتهم، إزهاق أرواح، وهتك أعراض، وتمثيل وإذلال، وحصار وتجويع وإحراق، وقصف للمساجد والمنازل الآمنة، وأعمال إجرامية شنيعة، لم يرحموا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً مسناً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم… والمستضعف والمظلوم عباد الله له حق النصرة على إخوانه المسلمين، كما قال البراء بن عازب رضي الله عنه، (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننصر المظلوم) وقال عليه الصلاة والسلام: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَسلمه) أما الذين يشهدون المعركة بين القوي والضعيف ويتفرجون ويصمتون، ثم يدعونها تنتهي حسب قوانين الغاب، وشرائع الذئاب، من غير معونة ولا نكير؛ فهؤلاء شركاء في الإثم والظلم أعوان للظلمة، يقول ميمون بن مهران رحمه الله: (الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء). وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَا مِنْ امْرِئٍ مسلم يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ) ألا فليبسط القادر يده بما يستطيع من إغاثة ومعونة ونصرة،لا سيما لإخوانكم المستضعفين الذين يتعرضون في هذه الأيام للحصار والبرد القارس وتساقط الثلوج بكثافة،مدوهم بالمال والغذاء والكساء، وأسعفوهم بالدواء، وخصوهم بصالح الدعاء لعلكم ترحمون… نسأل الله تبارك وتعالى أن يرحم المسلمين جميعاً برحمته، وأن يدخلنا في واسع رحمته، وأن يجعلنا من الرحماء الذين يرحمهم رب الأرض والسماء، إنه على كل شيء قدير… اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها أمرنا، وتلمّ بها شعثنا، وترد بها ألفتنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتزكي بها عملنا، وتبيّض بها وجوهنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء ومكروه.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافتيك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا،واجعله آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم. وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.. اللهم من أرادنا وبلادنا وأمننا وجيشنا ورجال أمننا، بشر وسوء وفتنة، فأشغله بنفسه,وأدر دائرة السوء عليه، واجعل تدميره في تدبيره يارب العالمين. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين،اللهم كن للمستضعفين ناصرا ومؤيدا،اللهم انصرهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي بورما وفي كل مكان.
اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين…
الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ،وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…
عِبَادَ الْلَّهِ:إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ، فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ،وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أكبروالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين