الجمعة 21 صفر 1439 هـ
الموافق 10 نوفمبر 2017م

الحمد لله المبدئي المعيد، الفعال لما يريد، ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هدى صفوة العبيد إلى المنهج الرشيد، والمسلك السديد، وأنعم عليهم بعد شهادة التوحيد، بحراسة عقائدهم عن ظلمات التشكيك و الترديد، وسلك بهم إلى إتباع رسوله المصطفى واقتفاء آثار آله وصحبه الأكرمين المكرّمين بالتأييد والتسديد، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالقرآن المجيد، والمؤيد بالرعب والحديد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعيد.
أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونَفسي بتَقوى الله تعالى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: يحتاج المسلم في مسيرة حياته لما فيها من عقبات وابتلاءات وشدائد ومتطلبات، إلى قوة يتعلق بها، ويسعد بقربها، ويستمد منها العون والتأييد، وقد فطرت النفس الإنسانية على التعلق بالله، والاستعانة به في كل الأحوال والظروف؛ لأنه هو الخالق -سبحانه وتعالى-، وهو الرب وهو الملك وهو الرازق والمحيي والمميت، وهو الذي بيده كل شيء ولا يعجزه شيء؛ يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ? هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ويقول سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وظل الإنسان على هذه الفطرة السليمة، يعبد الله ويرجوه ويطلب منه ويستعين به، حتى إذا ضعف إيمانه، وقل يقينه، بسبب كثرة ذنوبه ومعاصيه، وأتباعه للشيطان وشبهاته واغتراره بالدنيا وشهواتها، وتعلقه بالماديات من حوله، وبالأشخاص والذوات، واعتقاده بقدرتهم على النفع والضر، حتى أشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً،وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (يقول اللَّـه تعالى: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا) والإنسان عند الضرورة ووقت الشدة، تهديه فطرته إلى أن يعود إلى الله معترفًاً بربوبيته، موقناً بقوته وقدرته، فيستجيب الله له ويعطيه الفرصة تلو الأخرى للاستقامة والتوبة، حتى إذا أقام عليه الحجة، أخذه أخذ عزيز مقتدر، ووكله إلى نفسه، فتزيد حسرته وتسوء أحواله، يقول تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ? وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)
وكلما زاد الإيمان في قلب المسلم وحافظ عليه، وقام بما فرض الله عليه من الطاعات والعبادات؛ زاد يقينه واطمأنت نفسه، وتعلق بخالقه سبحانه، واستشعر عظمته وقوته ورحمته، عند ذلك تهون كل الصعاب والشدائد… ورد في السير أنه لما عــاد -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، وقد رجم بالحجارة من قبل السفهاء والمستكبرين، وسدّت في وجهه طرق البلاغ لدين الله، وحاربه قومه، وقتل أصحابه؛ توجه إلى القوة التي لا تهزم، والسند والمعين الذي لا يضعف قائلاً: (اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك). فلم يلجأ محمد صلى الله عليه وسلم إلا إلى الله عز وجل، ولم يطلب ويرجو غيره، ولم يتعلق إلا به، ولا يطلب إلا رضاه.
أيها المؤمنون: اليوم كثير من الأفراد والمجتمعات والدول والجماعات والأحزاب، يعلقون آمالهم على غيرهم من البشر، طلباً للرزق ودفعاً للضر، وجلباً للنصر، وتحقيقاً للطموحات، وتلبية للرغبات، ويبذلون من أجل طلب رضاهم وموافقتهم وإتباع هواهم الكثير من الأعمال، حتى ولو كانت على حساب الدين والقيم والأخلاق والأوطان، ومع ذلك لم يجدوا شيئاً، وإن ظهرت بعض الدلائل على تحقيق المطلوب فإنما هو من باب استدراج المولى -سبحانه وتعالى- مع ظلمة تصيب القلوب، وضنك في العيش، وفساد في الأحوال؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ ، رَضِيَ الله عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عليه الناس)
وقف الشاعر ابن هانئ الأندلسي أمام المعز الفاطمي يمدحه ويطلب رضاه فقال:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ
فاحكُمْ فأنتَ الواحدُ القهّارُ
هذا الذي تُرجى النجاة ُ بحبِّهِ
وبـه يحطُّ الإصـرُ والأوزار
لقد جعله بوصفه هذا إلهاً من دون الله عز وجل، فهل نفعه هذا؟! كلا والله، فقد سخط عليه المعز بعد زمن وحبسه في السجن، وابتلي بمرض، فكان يعوي كالكلب، ويردد أبياتاً من الشعر يندب حاله يقول فيها:
أبعينِ مفتقرٍ إليكَ نظرَتَني
فأهنَتني وقذَفتني من حالِقِ
لستَ الملومَ أنا الملومُ لأنّني
علَقتُ آمالي بغير الخالق

وصدق الله العظيم: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ، إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)
يقول ابن القيم رحمه الله: (من تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وخذله من جهة ما تعلق به، وفاته تحصيل مقصوده من الله -عز وجل- بتعلقه بغيره، والتفاته إلى سواه. فلا على نصيبه من الله حصل، ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل؛ قال الله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً . كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً) وقال سبحانه: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ) فأعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله تبارك وتعالى.
عباد الله: إذا كانت مقادير كل شيء بيده سبحانه، ومصير العباد إليه، وآجالهم وأرزاقهم عنده، بل سعادتهم وشقاؤهم في الدنيا والآخرة لا يملكها أحد سواه؛ وجب أن تتعلق القلوب به وحده، وأن لا تذل إلا له، ولا تعتز إلا به، ولا تتوكل إلا عليه، ولا تركن إلا إليه، يقول تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا، هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ) فالنفع والضر بيده سبحانه، ولا يملكهما غيره، ولا يقعان إلا بقدره: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لَقِيتُ وَهْبَ بْنُ مُنَبِّهٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ حَدِّثْنِي حَدِيثاً أَحْفَظْهُ عَنْكَ فِي مَقَامِي هَذَا وَأَوْجِزْ ، قَالَ : نَعَمْ ، أَوْحَى اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى إِلَى دَاوُدَ النَّبِيِّ عليه السلام: (يَا دَاوُدُ، وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَعَظَمَتِي، لا يَعْتَصِمُ بِي عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي دُونَ خَلْقِي، أَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نِيَّتِهِ، فَتَكِيدُهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، إِلا جَعَلْتُ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَخْرَجاً، أَمَا وَعِزَّتِي وَعَظَمَتِي لا يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِمَخْلُوقٍ دُونِي أَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نِيَّتِهِ، إِلا قَطَعْتُ أَسْبَابَ السَّمَاءِ مِنْ يَدِهِ، وَأَسَخْتُ الأَرْضَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ لا أُبَالِي بِأَيِّ وَادٍ هَلَكَ). وانظروا رحمكم الله إلى التاريخ والأحداث، واقرؤوا القرآن، كيف نصر الله أولياءه، وعصم أصفياءه، وحفظ عباده وأسبغ عليهم نعمه، عندما تعلقت قلوبهم به، رغم ضعفهم وقلة عددهم، وتعرضهم للبلاء، وكيف هزم عدوهم وخذل الجبابرة وقصم الظلمة وأذل المتكبرين، فما نفعتهم أموالهم ولا جيوشهم ولا حصونهم؛ قال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ? وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) ومهما علا الباطل وتجبر وتعلق الناس به وانبهروا بقوته فإنه إلى زوال؛ قال تعالى: (إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)
أيها المؤمنون: عند الشدائد والمحن ينبهر الناس بالأمور المادية، وتتعلق قلوبهم بها، ويعتقدون أن تحقيق الآمال مرتبط بها، وتغيير الأحوال متوقف عليها، ويوم حنين خير شاهد، نظر المسلمون إلى عددهم وعدتهم فأيقنوا بالنصر وتعلقوا بهذا، ونسوا أن النصر من عند الله يأذن به متى شاء، فكانت الحادثة درساً للأمة المسلمة إلى قيام الساعة؛ يقول جل وعلا: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)
وفي عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- اغتر اليهود بحصونهم وسلاحهم وعددهم وتعلقوا بها، وظنوا أنهم في مأمن من عذاب الله تعالى، فأخزاهم، وجعل تدبيرهم تدميراً عليهم؛ يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)
عباد الله: إننا اليوم بحاجة إلى تعمير قلوبنا بالإيمان والعمل بهذا الدين، والتعلق بالله لتستقيم حياتنا وتتبدل أوضاعنا ونخرج من الإحباط الذي تعيشه أمتنا أفراداً وجماعات.
ولتعلم -أيها المسلم- أنه قد يتحول كل شي ضدك، ويبقى الله معك، فكن مع الله يكن كل شي معك، ومن عرف الله بالرخاء يعرفه بالشدة… ألا فاتقوا الله عباد الله وعلقوا قلوبكم بربكم وأخلصوا له، فإنما بذلك أمرتم وهو سبيل هدايتكم، (قُلْ إِنَّني هَدَاني رَبِّي إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ)
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا و لا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، وأقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه والشّكر له على توفيقِه وامتنانه ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشَأنه، ونشهَد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: إنَّ التعلُّقَ بالله تعالى سبب لكل خير وهو روح التوحيد وأساس السعادة وهل بعثت الرسل ونزلت الكتب إلا لذلك؟ والانشغال عن ذلك والغفلة عنه والتعلق بغيره أعظم خذلان وأكبر حرمان.. وإليكم عباد الله ما يؤكد ويعزز هذا المعنى الجليل من أحاديث، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعاً يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًاً وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ).. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً فَقَالَ: يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ أحْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ أحْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِي رضي الله عنه قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِى أَرَاكَ جَالِساً فِى الْمَسْجِدِ فِى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ). قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِى وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ (أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَماً إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ. قَالَ: قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ. قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّى دَيْنِي.
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب قال معرفاً بصفاتهم:(هُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) نعم: وإنما تركوا ذلك لكمال تعلقهم بالله عز وجل… وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عظني وأوجز، فقال: (إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَداً، وَاجْمَعْ الْإِيَاسَ مِمَّا فِي يَدَيْ النَّاسِ) يقول بعض أهل العلم رحمهم الله، تعليقاً على هذه الوصية: (هذه الوصية توطين للنفس على التعلق بالله وحده في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله. ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس؛ فإن اليأس عصمة. ومن أَيِس من شيء استغنى عنه، فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله، فيبقى عبداً لله حقيقة، سالماً من عبودية الخلق، قد تحرر من رقِّهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم).
عباد الله: وكل حديث رهَّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال الناس، فإنه يربي على التعلق بالله عز وجل، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (مَا يَزَالُ أحدكم يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ. ويقول صلى الله عليه وسلم: مَنْ فَتْحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ مِنْ غَيْرِ فَاقَةٍ نَزَلَتْ بِهِ، أَوْ عِيَالٍ لا يُطِيقُهُمْ، فَتْحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَاقَةٍ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)
نسأل الله تعالى بعزه وجلاله وعظمته وكماله، أن يجعلنا ممن تعلقت به قلوبهم فعظموه ووقروه، اللهم إنك تسمع كلامنا، وترى مكاننا، وتعلم سرنا وعلانيتنا ولا يخفى عليك شيء من أمرنا، نحن البؤساء الفقراء المستغيثين المقرين إليك بذنوبنا. نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير، دعاء من خضعت إليك رقبته، وذل لك جسمه، ورغم لك أنفه، اللهم كن لنا مؤيداً وناصراً، وكن بنا رءوفا رحيماً،يا خير المسئولين ويا خير الناصرين.اللهم إنا نبرأ إليك من حولنا وقوتنا ونلجأ إلى حولك وقوتك الأكبر والأعظم، التي لا بداية ولا نهاية لها، اللهم فخذ بأيدينا في المضائق، واكشف لنا وجوه الحقائق، ووفقنا لما تحب وترضى. اللهم اعصمنا من الزلل ولا تسلب عنا إحسانك، واكفنا مصارع السوء، واكفنا شر الأشرار وشماتة الأعداء، واكفنا من جميع جهاتنا.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافتيك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا،واجعله آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم. وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.. اللهم من أرادنا وبلادنا وأمننا بشر وسوء وفتنة، فأشغله بنفسه,وأدر دائرة السوء عليه،واجعل تدميره في تدبيره يارب العالمين. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين،اللهم كن للمستضعفين ناصرا ومؤيدا،اللهم انصرهم في فلسطين وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي بورما وفي كل مكان.
اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين…الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ،وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…
عِبَادَ الْلَّهِ:إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ، فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ،وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أكبروالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.

خطبة جامع الفاتح –   عدنان بن عبد الله القطان –   مملكة البحرين